استطلاع/ بشرى الغيلي / لا ميديا -
في أعينهم تقرأ أوجاع الإنسانية كلها. لا حدود لأحزانهم. حتى إن كُتبت لهم النجاة من مخالبِ الموت فحياتهم مرهونة بدماء أناس أصحاء يمنحونهم أكسير الحياة ليستمروا. مرضى الثلاسيميا وتكسرات الدم الوراثي معاناة صامتة تضاف إلى معاناة الوطن المثخن بأوجاعه. إلا أن هؤلاء المرضى يعيشون «عالة على دماءِ غيرهم»، كما قالت المختصة بجمعية الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي جيهان محمد؛ لأنه في حال لم يتم تغيير الدم لهم في الأوقات المحددة، فإنهم سرعان ما يغادرون الحياة.
صحيفة «لا» التقت بعضهم في مشفى السبعين على هامش المؤتمر الصحفي الذي عُقد من أجلهم، وكانت كل قصة تختلف عن الأخرى؛ لكن أغلب تلك الحالات كانت نتيجة زواج الأقارب وعدم الوعي بأهميةِ فحوصات ما قبل الزواج، التي شدد عليها الجميع وطالبوا بسرعة تحرك الجهات المعنية لنشر الوعي وتخفيف المعاناة  وإنجاب مزيد من المرضى الذين قد لا يعمرون طويلا.

ما هو الثلاسيميا؟
يُعرف مرض الثلاسيميا بأنه اضطراب وراثي في خلايا الدم، ويوصف بانخفاض مستوى الهيموجلوبين وانخفاض عدد كريات الدم الحمراء عن المعدل الطبيعي. وتظهر أعراض الأنيميا، كالإجهاد والتعب وغيرهما، بسبب نقص الهيموجلوبين، المادة الموجودة في خلايا الدم الحمراء، والمسؤولة عن حمل الأكسجين. ومن مسببات المرض حدوث تغيرات جينية في الحمض النووي للخلايا المكونة للهيموجلوبين. وهذه الطفرة تنتقل وراثيا من الآباء إلى الأبناء، وتتسبب بتعطيل إنتاج الهيموجلوبين الطبيعي، لذلك يُنصح بإجراء فحوصات ما قبل الزواج، حتى لا يتسبب الأزواج بأعباء أخرى ومزيد من المرضى.

بفضل الله ووالدتي تجاوزت المحنة 
رحاب فؤاد (23 سنة)، مستوى أول نظم معلومات، بدأت قصتها مع المرض منذ أن كان عمرها عاما واحدا، وبدأت رحلة المعاناة مع نقل الدم، ومع الأدوية، والتنقل من مشفى إلى مشفى، ومن مركز طبي إلى آخر...
تقول رحاب: “بفضل الله، وبفضل والديَّ، والدي يرحمه الله ووالدتي حفظها الله، هما من جعلاني أتجاوز هذه المحنة. وحاليا أنا مستمرة بمتابعةِ حالتي الصحية مع الجمعية اليمنية لمرضى الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي”.
رحاب تنصح كل الشباب والشابات المقبلين على الزواج بإجراء فحوصات ما قبل الزواج، لتفادي مرض الثلاسيميا، الذي قد ينغص حياتهم مستقبلا، وقد يفقدون أطفالهم نتيجة هذا المرض الخطير.

أتمنى يوفروا الدواء الجديد في اليمن
إلياس جميل حميد ناصر (22 عاما) هو أيضا بدأت قصته وعمره عاما واحدا. ظهرت عليه الأعراض، كالحمى، وتم إسعافه إلى المشفى، فكانت نتيجة الفحص “سرطان الدم” (لوكيميا).
يقول إلياس: “اختلف الأطباء حول تشخيص مرضي، فسافرت إلى القاهرة للعلاج، فظهر عندي سكلسل أنيميا (خلايا الدم المنجلية)، هذا ما تم  تشخيصه هناك. بعد ذلك تضخم عندي الطحال، فسافرت إلى الأردن، لأني اضطررت إلى استئصاله؛ لأنهم لم يتمكنوا من ذلك في صنعاء. فاستأصلت الطحال والمرارة؛ لأن الطحال انفجر بداخلي وكنت حينها بحالة حرجة، فأجريت العملية في الأردن”.
ويشير في قصته إلى أنه بعد إزالة الطحال والمرارة لم يعد ينقل دماً كثيراً، وإنما بما يعادل مرة بالشهر، وكانت تأتيه نوبات متكررة من الألم الشديد، فتابع حالته بمشفى الثورة؛ كونه يعمل هو ووالدته بالمشفى ذاته.
ويضيف أن هذا المرض ينتشر بين الأقارب، وخالته التي تقيم حاليا في النرويج لديها بنت مصابة بالمرض نفسه، فأعطاها الأطباء دواء جديدا تمت المصادقة عليه في 2019؛ أي أن الدواء ما يزال حديثاً، فأرسلت له بالدواء رغم تكلفته، ويقول إنه منذ رمضان الفائت لم يعد يشعر بأي ألم، وشفي تماما، وصار طبيعيا ولم يعد بحاجة لنقل الدم، ولم تعد تأتيه نوبات الألم التي كان يشعر بها، وحتى أنه تخلص من الأدوية التي يأخذها عادة المرضى المصابون، والفضل بعد الله للدواء الجديد الذي لم يمر على اكتشافه سوى عامين فقط، وهو أول من يستخدمه في اليمن.
وتمنى إلياس جميل أن يتم توفير هذا الدواء للمرضى في اليمن، وتخليصهم من معاناتهم. كما أنه يتواصل مع منظمات خارجية ويطرح عليهم فكرة توفيره للمرضى في اليمن.

زواج أقارب
أفنان صالح (19 عاما) بدأت قصتها مع المرض وعمرها عام ونصف. هي الأخرى ضحية زواج الأقارب. توضح لـ”لا” أنها لم تعِ نفسها إلا في رحلة المعاناة مع نقل الدم، وتتابع حالتها في جمعية مرضى الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي، وفي حال لم تقم بنقل الدم كل أسبوعين فإن حالتها تسوء.
تضيف أفنان أنها فقدت شقيقها وكان عمره عشرين عاما بالمرض نفسه. ولكي تمارس حياتها الطبيعية تضطر لنقل الدم كل أسبوعين؛ إلا في حال قامت باستئصال الطحال؛ ولكن ظروفها لا تسمح بذلك.

توفيت شقيقتي بهذا المرض
رحيق عبده مطهر (23  سنة) تواصل تعليمها الثانوي، وتحاول أن تصمد مع المرض. وتحكي لـ”لا” أن معاناتها مع المرض بدأت مبكرة، وعمرها أربعة شهور، وكانت قد توفيت شقيقتها بسبب نقص الحديد، حيث تضخم رأسها دون أن يعرفوا السبب، ففارقت الحياة. هي أيضا تعاني من المشكلة نفسها، وإذا لم يتم نقل الدم تحدث لها تشوهات بسبب ارتفاع نسبة الحديد. وفي حال توقفت عن نقل الدم لا تستطيع ممارسة حياتها بشكل طبيعي. وأثنت على جمعية الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي، وأن هذه الجمعية تخفف معاناتها والكثير ممن يعانين.

أعاني من التنمّر
معاناة مهند فهمي يوسف (18 عاما - ثانوية عامة) تختلف قليلا؛ فبسبب حالته المرضية توقف نموه الطبيعي. بدأت قصته وعمره سبعة أشهر، ولم يعرفوا حالته، بسبب سوء التشخيص، كما يقول لــ”لا”. ورغم أنه وعائلته يسكنون ريف تعز، إلا أن أسرته كانت تضطر لنقله أسبوعيا إلى العاصمة لأخذ العلاج ونقل الدم عن طريق جمعية الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي.
يختم مهند حديثه بغصة أنه يعاني من تنمر أصدقائه، بسبب بطء نموه، فمن يراه يتوقعه في السادس الابتدائي، بينما هو في الثالث الثانوي. مع ذلك يصر على أنه متميز ولن يقف في طريقه شيء.

الوضع لا يسمح
في الصباح الباكر اتجهت مريم مع عمتها من “الحيمة الخارجية” (ريف محافظة صنعاء) لتنقل دم في العاصمة. مريم محمد الكندحي (سبعة أعوام) تعاني من تضخم الطحال نتيجة هذا المرض.
تقول عمتها التي قدمت لمرافقتها: “نتابع حالتها مع جمعية الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي. مريم ليست الطفلة الوحيدة التي أصيبت بهذا المرض، فثلاث من شقيقاتها جميعهن فارقن الحياة، دون أن تكتشف الأسرة سبب الوفاة، فتضطر أن تنقل لها دم في مشفى السبعين. ولأن وضع أسرتها المادي لا يسمح بإجراء عملية استئصال الطحال، يضطرون لنقل دم لها كل عشرة أيام، وإلا تسوء حالتها”.

أدوية مدى الحياة
شريهان فاروق محمود ( 24 عاماً - علوم مالية ومصرفية)، اكتشف المرض لديها وعمرها 6 أشهر. كبرت قصتها مع المرض ونقل الدم شهريا، مما اضطرها لاستئصال المرارة وهي في عمر 13 عاما.
تقول: “الحمد لله، متعايشة مع المرض، وأدويتي مدى الحياة. قال لي الطبيب المعالج: لن تعيشي طويلا!”.
أما “عاشقة التحدي” (23 عاما - مستوى رابع إدارة دولية) فبدأت معاناتها مع المرض وهي ما تزال مولودة. وأوضحت لــ”لا”: “مع ذلك، كان لديّ أمل كبير بالله، وصرت أطلق على نفسي: عاشقة التحدي. كان لديّ خمسة إخوة جميعهم توفوا بالمرض نفسه؛ لأن الوالد والوالدة كانا حاملين للمرض”.
تضيف “عاشقة التحدي”: “لذلك أشدّد على إصرار الأطباء بإجراء فحوصات ما قبل الزواج”.
ورغم أنها حين كانت في السادس الابتدائي أخبرها الطبيب المعالج بأنها لن تعيش طويلا، فقد أصرّت على أن تثبت عكس ذلك مع قوةِ العزيمة والإرادة. وتختم: “ذلك الطبيب توفي، وأنا حضرت عزاءه. وحتى أشقائي الذين توفوا كنت أسمع الجيران والناس من حولي يقولون: “باقي هذه” ويشيرون إليّ. ومع ذلك لم تخفني فكرة الموت؛ لأنني مؤمنة بأن كل شيء بأجل وبقدرة الله وحده”.

الوعي بأهميةِ فحوصات ما قبل الزواج
أثناء لقاءاتنا مع المرضى أثنوا كثيرا على جمعية الثلاسيميا ونقل الدم الوراثي، وعلى جهودها مع المرضى، فكان لا بد من التوقف مع عضو الهيئة الإدارية لجمعية الثلاسيميا ومرضى الدم الوراثي، جيهان محمد، التي تحدثت لــ”لا” قائلة: “لدينا مرضى سكلس الأنيميا، أي  تكسرات الدم، أو الدم المنجلي. وهؤلاء يعيشون على نقل الدم، ويعانون من نقص مناعة، وآلام شديدة، بينما مرضى الثلاسيميا يكون لديهم معاناة أكثر، بحكم أنهم يعيشون عالة على دم الآخرين، فمثلا الإنسان الطبيعي يتجدد دمه كل 21 يوماً دون أن يشعر، وهذا من نعم الله على الإنسان الطبيعي، بينما هؤلاء المرضى لا يتجدد لديهم الدم نهائيا، وفي حال لم يمنحهم الآخرون دما فقد يفارقون الحياة”.
وتضيف: “نحاول أن نوفر لهم الدم حسب إمكانيات الجمعية. والمؤسف أنه حتى هذه اللحظة يزداد عدد الأطفال المصابين بهذا المرض على مستوى الجمهورية، وهذا بسبب عدم الوعي بأهمية فحوصات ما قبل الزواج، مما يضاعف أعباء الجمعية في توفير الدواء ونقل الدم، والرعاية الصحية... إلخ. نحن ملزمون بتوفير دم للأطفال كل أسبوعين، وإلا سيفارقون الحياة، ناهيك عن أسباب أخرى، فبعد نقل الدم يتركز الحديد في الكبد أو الطحال، وهذا له مضاعفات على صحة المريض، وهنا لا بد من توفير أدوية سحب الحديد؛ لأن زيادته تعمل تشوهات وتؤدي للوفاة. وأدوية سحب الحديد باهظة الثمن. ونحن قدر المستطاع نحاول  توفيرها، وكله بجهود شخصية أو جمعيات وفاعلي خير. وأغلب مرضى الثلاسيميا من المعدمين ماديا ويأتون إلينا من أرياف اليمن المختلفة”.
وختمت جيهان بالتشديد على أهمية إجراء فحوصات ما قبل الزواج، خاصة مع انعدام الأدوية، بسبب الحصار المفروض على بلادنا. وطالبت بتكاتف الجهود، من وزارتي الأوقاف والصحة والجهات الرسمية، لتنفيذ حملات توعوية مع خطباء المساجد، وخصوصا أن بعض الأدوية انعدمت تماما من السوق، مما يجعل العبء كبيرا جدا، فالجمعية لديها لوحة باسم “شموع انطفأت”، وتحوي قائمة بالذين فارقوا الحياة بسبب هذا المرض. وقد صارت هذه اللوحة بمساحة الجمعية، لذلك نشدد ونشدد على ضرورة فحوصات ما قبل الزواج.