نسيم أحمد"ميدل إيست مونيتور"
ترجمة  خاصة :زينب صلاح الدين / لا ميديا -
إن حرب «إسرائيل» على فلسطين ليست محصورة في ساحة الحرب؛ فهي أيضاً تُشن في الإعلام، وما من مكان بارز أكثر من «نيويورك تايمز»؛ حيث يُنظر إلى هذه الصناعة الإعلامية منذ فترة طويلة باعتبارها «جريدة سجل» وطنية وتدوينها في التقارير النزيهة عن الاحتلال العسكري «الإسرائيلي» الوحشي والاستيلاء على فلسطين يترك الكثير من الأمور المرغوب فيها.
ورغم أنها تعتبر - إلى حد كبير- صحيفة ذات اتجاه يساري، إلا أن صفحات «نيويورك تايمز» قد تم استغلالها لتبييض الجرائم «الإسرائيلية». على سبيل المثال: عندما نشرت منظمة العفو الدولية تقريرها التاريخي الذي وجد أن «إسرائيل» تمارس «الفصل العنصري» استغرقت الصحيفة حوالى شهرين لتعطي تقريرها عن تلك النتائج.
لقد أثار التعتيم الإخباري في «نيويورك تايمز» الانتقادات اللاذعة. ومع شهرتها المتمثلة في كونها واحدة من أعرق الصحف وأكثرها شهرة في العالم، كان تجاهلها للنتائج التي توصلت إليها منظمة مرموقة مثل العفو الدولية (رغم أنها منظمة تستشهد بها الصحيفة بانتظام في فضح انتهاكات بلدان أخرى -غير «إسرائيل»- لحقوق الإنسان) يمثل إشارة واضحة إلى أن «صحيفة السجل» فشلت عمداً في تعديل بعض الأمور عندما كان الأمر يتعلق بتقاريرها عن دولة الفصل العنصري.
قلة في سلسلة كُتّاب الصحيفة تم انتقادهم أكثر من توماس فريدمان، كاتب العمود الأكثر شهرة في الصحيفة، الذي أثار بتحليلاته حفيظة الكثير في الشرق الأوسط و«إسرائيل» وفلسطين لسنوات. كأحد المشجعين للغزو الأمريكي للعراق 2003 كان حتى تأطير فريدمان الاستشراقي للمنطقة يشكل موضوعاً لأطروحة الدكتوراه التي كشفت التحيزات الكامنة التي أنذرت برؤية أحد أكثر المعلقين تأثيراً في الولايات المتحدة.
وبرغم الانتقادات لن يجادل أحد في أن «نيويورك تايمز» تشكل مقياسا لاتجاه الرأي العام في الولايات المتحدة بشأن «إسرائيل» وفلسطين. صحيح أن رد الفعل قد يكون بطيئاً، وقد تستغرق عملية تحرير الصحيفة وقتاً أطول من المتوقع في إدراك الواقع القاسي للاحتلال «الإسرائيلي»؛ لكنه مع ذلك يعد مؤشراً جيداً كأي مؤشر بالنسبة لقياس وجهات نظر الأغلبية الساحقة من الليبراليين الأمريكيين حول «إسرائيل» وفلسطين.
لطالما كانت الفجوة بين واقع الاحتلال العسكري «الإسرائيلي» المرير والصورة الإعلامية دائماً مصدر سخط. ويعد كتاب غريغ فيلو ومايك بيري، الصادر في 2004، «أخبار سيئة من إسرائيل»، واحداً فقط من مؤلفات عديدة تفضح تعصب الإعلام الذي ولعقود من الزمن روّج لرواية خاطئة عن «إسرائيل». وفي ما يقارب عقدين تقريباً منذ ذلك الحين بدا أن الفجوة بين الواقع والصورة الإعلامية قد تقلصت بعض الشيء وبشكل ملحوظ.
إن ثمة إجماعا من الحائط إلى الحائط داخل المجتمع الدولي لحقوق الإنسان بشأن ممارسة «إسرائيل» سياسة الفصل العنصري، واستقصاء عالي الدقة وشيكاً حول جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها «إسرائيل»، بما فيه من قبل المحكمة الجنائية الدولية؛ على أن ظهور اليمين المتطرف والقومي ليس سوى بعض الأسباب التي توجب على مطبوعات كـ«نيويورك تايمز» تعديل مواقفها تجاه «إسرائيل» وفلسطين.
تدعي مقالات عديدة حديثة، بما في ذلك مقال افتتاحي في «نيويورك تايمز»، أن الصحيفة قد أصلحت موقفها بتقديمها رواية تمثل انعكاساً أصدق للواقع. وكان مقال يذكر أن «المثل الأعلى للديمقراطية في دولة يهودية في خطر»، هو الأحدث في سلسلة من المقالات التي يبدو أنها تحطم الأساطير الليبرالية حول «دولة إسرائيل». تم نشر مقال كتبته هيئة تحرير الصحيفة في عطلة نهاية الأسبوع يصدر تحذيراً صارخاً بشأن التهديد الذي تشكله الحكومة «الإسرائيلية» الحالية. وبكتابتها كصديق لـ«إسرائيل»، أسفت هيئة التحرير على كون الأحزاب القومية المتطرفة التي يقودها بنيامين نتينياهو تشكل «خطراً كبيراً» ليس فقط على «إسرائيل» وإنما على فكرة «الأرض اليهودية».
لا يجب أن يكون مفاجئاً أن القلق والشاغل الرئيسي لهيئة التحرير هو الضربة القاضية التي وجهها القوميون المتطرفون في «إسرائيل» إلى حل الدولتين. وقد ذكرت هيئة تحرير «نيويورك تايمز» أن «موقف الحكومة يمكن أن يجعل حل الدولتين من المستحيل عسكرياً وسياسياً على الإطلاق. وكانت إدارة الرئيس جو بايدن قد حرضت على عدم القبول بهذه النتيجة. 
وقالت «نيويورك تايمز» إنه ينبغي على البيت الأبيض أن يفعل كل ما بوسعه ليعرب عن دعمه لمجتمع تحكمه حقوق متساوية وسيادة القانون في إسرائيل، كما يتم إزاء بلدان أخرى في العالم. سيكون ذلك عملاً ودياً يتفق مع الرابطة العميقة بين البلدين».
يعكس مقال السبت قلقاً عميقاً في «نيويورك تايمز» حول اتجاه «إسرائيل». جاء ذلك بعد يومين من مقال آخر؛ لكن هذه المرة لكاتب العمود الرئيسي فريدمان، الذي طرح السؤال: «هل ما يحدث في العالم يحدث أيضاً في إسرائيل؟»، ترديداً لما ورد في مقال هيئة تحرير الصحيفة. ومضى يقول إن «إمكانية حل الدولتين كان له كل المقومات؛ إلا أنه تلاشى». لكن في الواقع لا أحد يريد إعلان موته ودفنه رسمياً؛ لأن استبعاده بشكل قاطع سيكون له عواقبه الجسيمة. لذلك تتظاهر المنظمات اليهودية الدبلوماسية والسياسية والليبرالية بأن ذلك الحل لا يزال ينبض قليلاً.
قبل شهر من نشر فريدمان رثاءه لـ«إسرائيل»، كتب مقالاً آخر في الصحيفة يعلق فيه على إدراكه أن «إسرائيل التي نعرفها قد ذهبت»، مبدياً قلقه من تشكيل حكومة «إسرائيلية» يمينية متطرفة. قال ذلك «مع ترسيخ هذا الواقع الذي لم يكن من الممكن تصوره في السابق، فإن السؤال الجوهري سوف يزعج المعابد اليهودية في أمريكا وفي جميع أنحاء العالم: هل أقوم بدعم إسرائيل هذه أم لا؟». وبحسب فريدمان فإن هذا السؤال سيلاحق الطلاب المؤيدين لـ«إسرائيل» في الكليات وأي شخص يأمل في الحفاظ على علاقة مع دولة الفصل العنصري.
لا ينبغي بالطبع أن يكون أي من ذلك مفاجأة لأي شخص يتابع القضية الفلسطينية - «الإسرائيلية» عن كثب. لقد كانت «إسرائيل» دوماً تشكل بقعة عمياء بالنسبة للداعمين الليبراليين لاحتلال الدولة التي نصّبوا أنفسهم أنصاراً لها. إن افتراضاتهم الخاطئة واعتقادهم الناقص في ترويجهم الخاص يعني أن أمثال فريدمان عاجزون عن رؤية حقيقة استيلاء «إسرائيل» على فلسطين كما هي بالفعل. يعترف فريدمان في مقاله الأخير: «لم يتبقَّ أمامنا سوى حل واحد للفوضى الكبيرة». 
ويوضح أن الفوضى «لن تترك إسرائيل بعد الآن تمثل حجر استقرار للمنطقة ولحليفتها أمريكا، وبدلاً من ذلك ستكون مصدر اضطراب ومصدر قلق للحكومة الأمريكية».
المثير للاهتمام بشأن تلك الاعترافات الليبرالية كما بين ذلك فريدمان وبدرجة أقل في «نيويورك تايمز» -التي أتاحت مساحة لأصوات الانتقادات على منصتها- هو الافتقار التام للمحاسبة على الآراء والروايات التي روج لها طيلة عقود لضمان انتصار «إسرائيل» في الحرب الإعلامية. وادعاءاتهم الكاذبة حول «إسرائيل» والصهيونية هي السبب الرئيسي للصدمة والهلع اللذين أصبحا واضحين للغاية في كتابات مؤيدي «إسرائيل» الليبراليين في «نيويورك تايمز».