حلقات يومية يكتبها القاضـي محمد الباشـق / لا ميديا -
تتحفنا معاجم اللغة بأن المسغبة جوع مع تعب، قد يكون هذا التعب مصحوبا بعطش، وقد يكون هذا التعب للبدن، وقد يجتمع معه التعب والإرهاق النفسي، فيكون أشد، وأن فضل الإطعام بقدر شدة حاجة المحتاج إليه، لذا جمع الله سبحانه وتعالى دواعي وبواعث في الشخص، وقبل ذلك في الظرف الزمني: «يوم ذي مسغبة»، كحال النازحين بسبب الحروب والكوارث. وأي مسغبة أشد في هذا العصر مما حل بنا وبشعبنا من حرب اجتمع على شنها علينا المتردية والنطيحة؟!
فالحروب بيئة تنشأ بسببها «يوم ذي مسغبة»، فالمحسن في هذه الظروف يكون قد اجتاز العقبة، وتجاوز كل عوائق الإحسان. وكل أمة تمر بـ»يوم ذي مسغبة»، فإنها حالة اختبار عصيب للمحسنين منهم، واختبار عسير لأصحاب الإيثار، فما قيمة مال لا نجدة به ولا عطاء منه ولا تفضل به؟! ومن لم يحسن وينفق ويبادر ويتفضل فبطن الأرض خير له وللناس من وجوده بينهم. وفي يوم المسغبة تظهر معادن الرجال، وتتجلى حقائق المجتمعات والشعوب والقيم ومواقف يتبناها قادة ويمارسها ذوو الشأن الكبير فيهم، بلا منة ولا تفاخر ولا رياء ولا سمعة.
وبعد أن ذكر الله سبحانه وتعالى ظرف الزمان والمكان، وصف أولى المستوجبين لإحسان أصحاب القلوب الرحيمة والنفوس السمحة وأصحاب الأيادي البيضاء، «يتيما ذا مقربة»، مقربة نسب أو مقربة جوار، وسبب قرب مع سن خالٍ من التجارب قد وجد الفقد فاحتاج إلى سرعة إغاثة وسريع بذل وسخاء رعاية ومزيد عناية من أبناء قومه ومن سكان مجتمعه، وإن شر البلاد بلاد فيها يتيم مضيع، وإن خير البلاد من يعرفون أن لليتيم حقا عليهم، فكبيرهم أبٌ له، وأوسطهم أخ له... «يتيما ذا مقربة»، فكيف إذا كان يتيمه؟! فالحاجة أشد، والشعوب بالفقد أكثر ألماً في النفس، وشعور الحاجة للعطاء يرافقه الإكرام، والإحسان يصاحبه الود والحنان والعطف مع طيب الكلام وحسن الخطاب ومراعاة المشاعر، وإن مشاعر أهل الإحسان تفيض عطفا وتراحما لا تقل أبدا عن سخاء البذل.
والصنف الثاني: «مسكينا ذا متربة»، قد استقر به المقام في مكانه حتى كأنه أسير داره وسجين بلده، قد أفقدته شدة الحاجة أي بحث عن حلول، وأحاطت به مشاعر العجز، وصارت نفسه منكسرة، لسان حاله أبلغ من مقاله، وواقعه شاهد على الواقعة التي به حلت وعليه نزلت، وإن كان هناك صنف مساكين في ضعف الإرادة ومساكين في قلة الخبرة وعدم الحنكة في الإدارة مع وجود مال كأصحاب السفينة في «سورة الكهف».
أما هنا فإنه مسكين لا يملك ما يحركه، ولا يجد ما يتحرك به، أصبح وأمسى لصيقا بالتراب، لاجتماعه مع التراب في المكث والبقاء. وكم من مساكين وصلوا إلى الحالة الترابية، بمعنى العجز، عجز التمكين المالي فأصبح قرين اليتيم في انكسار النفس وتحطم المستقبل أمام ناظريه، فأوجب الله لهم حقا، وحكم أن لهم في مال كل طالب نجاة من عقبة صده عن جناب الحق وجنان القرب ودار كرامة الله. فالسبق هنا والبذل والسخاء لإنقاذ تلك الأنفس من التلف وإحيائها من الهلاك وإعادتها إلى أن تكون نفوساً سوية لم تتعقد باليتم ولم تحبس بالحرمان ولم تنحرف بسبب الفقر والحاجة.
إن مجتمعا يحتوي المحرومين ويعطي المحتاجين ويمد يده منقذا لمن قد التصق حاله بتراب داره، لهو مجتمع حي، لن يتولى أمره طغاة، ولن ينمو فيه ورثة مفسدون ولا خلفاء مستبدون، وأن ننظر إلى دماء الشهداء وتضحيات الأحرار فنستعصم بالله، رحماك رحماك ربنا فقد حل أشد مما حل بأولاد يعقوب، رغم ما جنوه على أنفسهم من ظلم ليوسف، فعسى أن يكون قد اقترب بعد يوم المسغبة يوم لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.