حلقات يومية يكتبها القاضـي محمـد الباشـق / لا ميديا -
إن حال كل محسن حال موقن بالجزاء هنا ويوم يقوم الأشهاد، للمعرفة بحقيقة الانتقال من هذه الدار إلى حقيقة الاستقرار. وعن معنى الاستقرار وآيات وروده في القرآن الكريم نتحدث بعون الله وتوفيقه.
فالاستقرار في اللغة العربية مكان الإقامة، بشكل دائم أو مؤقت، اختيارا أو اضطرارا، رضا أو إكراها. ومنذ أن هبط الأبوان إلى الأرض فقد صارت الأرض للجنس البشري دار إقامة مؤقتة: «ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين»، حين بالنسبة للفرد إلى الوفاة، ولآخر جيل من البشر إلى صيحة القيامة. وورد الاستقرار للإخبار والكلام والمواقف والأحداث وكل أمر يهم ومحل اهتمام أي شخص أو فئة: «لكل نبأ مستقر»، لا بد أن تعرف الحقيقة. والاستقرار بمعنى وصول المطلوب: «فلما رآه مستقرا عنده» بشأن عرش بلقيس. والاستقرار نظام في الكون، فقد ذكر الله بشأن الشمس أنها «تجري لمستقر لها». والاستقرار بمعنى الإرث الثقافي أو العرف المجتمعي واتباع الثقافة السائدة، وإن كانت منحرفة. هذا الارتباط المقارن للتكذيب للآيات حال الأمم الهالكة، واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر، فكان الجزاء من جنس العمل: «صبحهم بكرة عذاب مستقر». والاستقرار تمام الخلقة الإنسانية في الأرحام، سنة لا تتحول ولا تتبدل: «هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع». والاستقرار بمعنى تنوع البشر في أماكن وأحوال الإقامة على الأرض، قال تعالى: «وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها».
والمحسن الذي استقر عنده المال، وأي سبيل من سبل البذل يعلم أنه محاسب عليه، ويوقن بأن أسوأ استقرار -نعوذ بالله- في جهنم، قال تعالى: «إنها ساءت مستقرا ومقاما». والعكس، دار النعيم، جنان الخلد، قال الله تعالى: «خيرٌ مستقرا وأحسن مقيلا». والمال من أسمائه «خير»، فمن وضع الخير في مواضع الخير وجد الخير هنا وهناك، وأكبر ما تجل به القلوب وتذرف عنده العيون ويجد المؤمن الخشية ومعاني مشاعر الخجل والحياء قول الله تعالى: «إلى ربك يومئذ المستقر». يا له من موقف، من استشعر رهبته وهيبته وجلاله خاف ووجل واستحى وخجل، ووجد في «سورة القيامة» صيانة للنفس من كل منزلق، وعصمة من كل زلل، وملاذا من كل هوى. فمادام إلى الله المستقر فلا قلق من أي أمر من أمور الدنيا، إنما الخوف والقلق من قدوم آبق، ووصول بسيئات لم تكفر، وذنوب لم تمحَ، وجرائم كبرى وبغي وعدوان وظلم وافتراء وطغيان... فمن استحى أن يفد على الله فردا مستحقا للعذاب كان هذا الحياء قائدا ومرشدا للإنابة، وكانت هذه المشاعر هي روح الشعائر، وبها نيل الدخول في رحمة الله.