دمشق/ أحمد رفعت يوسف / لا ميديا -
شكلت الزيارة التي قام بها الرئيس السوري، بشار الأسد، إلى العاصمة الصينية بكين، حدثاً مهماً، ستطال تأثيراته أبعد من موضوع العلاقات الثنائية بين البلدين، بسبب الدور الذي تلعبه كل من بكين ودمشق، في الخريطة الجيوسياسية، التي تتشكل للمنطقة والعالم على صفيح ساخن.
كان لافتاً حرارة الاستقبال الذي حظي به الرئيس الأسد والسيدة عقيلته، والذي لم يحظَ به إلا القليل من زوار بكين من الرؤساء وزعماء العالم، وعبرت عن هذه الأجواء الكلمات التي قالها الرئيس الصيني، شي جين بينغ، والمسؤولون الصينيون، والبرنامج الحافل الذي وضع للرئيس الأسد، ومنه حضوره حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية، التي استضافتها الصين، إلى جانب الرئيس الصيني وعقيلته.
عبّر الاتفاق الاستراتيجي، الذي تم توقيعه بحضور الرئيسين، عن الاهتمام الكبير الذي توليه الصين لسورية بموقعها الاستراتيجي الهام جداً، لمشروعها «الحزام والطريق»، حيث تشكل الموانئ السورية على البحر المتوسط النافذة الرئيسية للمشروع باتجاه أوروبا ودول ساحل المتوسط، والذي يجدد العلاقات القديمة عبر مسار طريق الحرير القديم، عندما كانت تدْمُر وحلب والموانئ السورية التاريخية أهم محطاته.
تجدر الإشارة إلى أن هذا الاتفاق هو الخامس من نوعه، الذي توقعه الصين مع دول العالم، والذي وقعته سابقاً مع كل من روسيا وبيلاروسيا وباكستان وفنزويلا واليوم سورية.
بالتأكيد هذا الاهتمام لم يأتِ من فراغ، فمعروف عن الصين موقعها كدولة عظمى، وتعمل على تزعُّم العالم اقتصاديا، والمشاركة في تسيير الحضارة البشرية، كقطب رئيسي في عالم متعدد الأقطاب، تَزينُ مواقفها بدقة مع من تتحالف، وتعرف أين تعمل، وأين تقف.
هذه النقطة تؤكد أهمية الاتفاق بالنسبة إلى بكين ودمشق، حيث لكل منهما دور جيوسياسي كبير ومميز في تشكيل الخريطة الجيوسياسية للمنطقة والعالم، والتي بدأت انعطافتها الكبيرة من الميدان السوري، مع فشل مشروع «الشرق الأوسط الجديد» في إسقاط سورية، والذي كان يستهدف في أحد أهدافه الأساسية الصين، لوقف صعودها وتهديدها لمكانة الولايات المتحدة كقطب أوحد يقود العالم ويهيمن على السياسات والاقتصاديات العالمية.
ومن المهم هنا التوقف عند بعض الأجواء التي أحاطت بالزيارة وبنتائجها، حتى وصلت إلى توقيع مثل هذا الاتفاق الاستراتيجي، والاهتمام الكبير الذي حظي به في وسائل الإعلام العالمي.
لا بد أولاً من ملاحظة أن الصين، التي ترددت سابقاً في السير بمثل هذا الاتفاق، لم تكن لتقدم عليه اليوم لولا أنها رأت أن مصالحها الاستراتيجية تتطلب ذلك، وأن الأجواء الجيوسياسية الإقليمية والدولية أصبحت مهيأة لمثل هذ الخطوة، وتدرك أن استكمالها يتطلب عملا يجب أن تكون موجودة فيه.
الاتفاق يشكل ضرورة استراتيجية للبلدين، فسورية ترى فيه نافذة مهمة للخروج من تأثيرات الحصار والضغوط الأمريكية الخانقة التي تمارسها عليها، وهي أيضاً بحاجة إلى الصين، بعد أكثر من 12 عاماً من الحرب العدوانية عليها، والتي دمرت بنيتها التحتية، حيث تعتبر الصين الوحيدة القادرة على تلبية متطلباتها وحاجاتها، في مرحلة إعادة الإعمار. أما الصين فترى في سورية موقعا لا بد منه لاستكمال مشروع «الحزام والطريق»، وتثبيت تواجدها في المنطقة، التي تعلن منها مؤشرات هبوط وصعود الامبراطوريات والدول العظمى.
إدراك البلدين أن هذا الاتفاق سيتردد صداه أبعد بكثير من الساحة السورية، بسبب ارتباط الوضع في سورية بالملفات الإقليمية والدولية الساخنة، حيث تشكل سورية اليوم نقطة تماس بين أن تكون منطقة شرق المتوسط وغرب آسيا كلها؛ إما تحت الاحتلال والهيمنة الأمريكية المباشرة، وإما محطة رئيسية لا بد منها لنجاح مشروع «الحزام والطريق» الصيني، وساحة للمشاريع والاستثمارات الصينية، وفق المعادلة التي تعمل بها الصين (رابح رابح) كبديل عن العقلية الاستعمارية وسياسة الهيمنة الأمريكية.
كما تطال تداعيات الاتفاق دولاً عديدة، خاصة الهند، التي أعلنت عن مشروع طريق «الهند أوروبا» الذي عملت الولايات المتحدة على إظهاره إلى الوجود لمنافسة المشروع الصيني؛ وأيضاً تركيا، التي تعمل للتحول إلى قوة إقليمية عظمى تجعلها تعبث في المحيط الحيوي للصين.
كما أن الكيان الصهيوني حاضر بقوة في الصورة؛ لأن نجاح الاتفاق يبعده عن أي فائدة من المشاريع الاستراتيجية التي ترسم للمنطقة، بسبب استبعاده من مشروع «الحزام والطريق»، والشكوك التي تحيط بمشروع طريق «الهند - أوروبا»، خاصة وأن ميناء حيفا في فلسطين المحتلة، الذي يعتبر نافذة مشروع «الهند - أوروبا» على المتوسط، تديره شركة صينية لن تعمل بأي حال من الأحوال ضد مصالح الصين الحيوية.
هذه الأجواء التي أحاطت بزيارة الرئيس الأسد إلى بكين، والاتفاق الاستراتيجي الذي تم توقيعه، ستجعل الصين شريكاً رئيسياً، ولو بشكل غير مباشر، في أي عمل ميداني لإخراج الأمريكيين من سورية، ومن العراق تالياً، خاصة وأن هذا الهدف يحيي الاتفاق الاستراتيجي بين الصين والعراق، الذي تجمد بفعل الضغوط الأمريكية.
كما ستكون الصين حاضرة بقوة في الموضوع التركي، فبكين لن تنسى نهائياً الدور التركي في مشروع «الشرق الأوسط الجديد» وأن أردوغان، الذي يتولى مهمة نائب المدير التنفيذي للمشروع، انخرط بعمق في حالة عدائية نحو الصين، عندما جلب الإرهابيين الإيغور الصينيين (التركستان) إلى سورية، وتدرك بكين أن مهمتهم في سورية كانت كتدريب عملي وميداني لمهمتهم الرئيسية، وهي داخل حدود الصين، فيما لو قيض للمشروع أن ينجح في سورية.
وليس سراً أن الموقف الصيني ومن وجود الإرهابيين الإيغور، الذين يعملون بإشراف ورعاية تركية مباشرة، هو القضاء عليهم تماماً، وعدم عودة أي منهم، وهذا بالتأكيد يستدعي وجوداً صينياً قوياً، وإن كان غير مباشر، لتنفيذ هذه المهمة.
كما أن الصين لا يمكن أن تتجاهل المحاولة التركية للعب ليس في محيطها الحيوي وحتى داخل حدودها، من خلال منظمة الدول التركية، التي أسست في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2009، وتضم الدول التي تنتمي إلى العرق التركي، ويعتبر أن امتداداته تصل إلى داخل حدود الصين، عبر الإيغور، مما يشكل تهديدا استراتيجيا للصين. وهذا الدور العدواني لتركيا كان أحد الأسباب الرئيسية لعدم دعوتها للانضمام إلى مجموعة دول «بريكس»، رغم أنها طلبت ذلك، وتحقق شروط الانضمام أكثر من الدول الخمس التي انضمت إلى المجموعة مؤخراً.
أيضاً يمكن للصين أن تقدم المساعدة الإدارية والخبرات الفنية، خاصة في ظل وجود تشابه في النظامين السياسيين في البلدين، وهذا يعطي أملاً بأن تأخذ مشاريعها الطريق إلى التنفيذ.
طبعا هذا لا يعني أننا سنرى جنوداً صينيين يقاتلون في سورية، ولن نرى تدخلاً صينياً مباشراً في الأزمة السورية، كما هو حال روسيا وإيران، وبالتأكيد لن يكون هذا مطلباً سورياً؛ لكن الصين تمتلك إمكانات هائلة للمساعدة العسكرية واللوجستية، وهذا سيجعل بكين حاضرة فيه إلى جانب الدولة السورية، في أي عمل تقوم به، مع حلفائها وأصدقائها، لإخراج الأمريكيين.
من خلال هذا الاستعراض، يمكن ملاحظة وجود تطابق كبير في المصالح الاستراتيجية السورية الصينية أملت مثل هذا الاتفاق الاستراتيجي، والإرادة بأن يرى طريقه إلى التنفيذ، ليكون أحد المحطات الرئيسية لرسم معالم المنطقة وخريطتها الجيوسياسية.