الأسد قُتل بطعنتين
- تم النشر بواسطة لا ميديا

رصد / لا ميديا -
من بين كل الحديث الذي تناوله عديد سياسيين ومراقبين ومهتمين ووسائل إعلام، من مختلف التوجهات، نحاول في السطور التالية توثيق ما نرى أن العرب عموما، والسوريين على وجه الخصوص، بحاجة لمعرفته، اليوم أو مستقبلاً، حين يبحثون عن إجابات على الأسئلة المنطقية التي سيسألونها حول ما جرى من سقوط مدوٍّ لسورية، كل سورية.
معلوم أن الأسد الابن (بشار) تسلم سدة القيادة في الجمهورية العربية السورية عام 2000 كوريث لوالده (حافظ) الذي ترك بصمة قوية في تاريخ السياسة السورية ومكانة السياسة الخارجية السورية.
وقد رافق تسلمه السلطة أملاً شعبياً داخلياً في نقل السوريين اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً إلى حالات أفضل، من الازدهار والتقدم، وأملاً خارجياً عربياً ودولياً من نقل سورية لتسويات وتفاهمات جديدة تخدم مصالح دول إقليمية وغربية.
نجح إلى حد ما في الأمل الأول، وكانت هناك دلائل إيجابية ومؤشرات حسابية تدل على تقدم وإحراز نجاحات كانت ستستكمل لو لم تحصل بعض الأحداث التي أخّرت استكمالها، كمثل حرب العراق، واغتيال الحريري، وحرب تموز، وأحداث أخرى أبطأت التقدم، وبعض الأحداث التي ألغته (الربيع العربي، الحرب في سورية).
وفي الأمل الخارجي:
الأسد هادن التركي وتعامل معه كشريك استراتيجي وفتح له أبواب سورية، مستنداً إلى تقاطع المصالح بين الدولتين الجارتين آملاً في أن يسيرا معاً في طريق الحرير، التي سيكون لهما دور مستقبلي بالغ الأهمية فيها.
وبينما كان الأسد صادقاً في تحالفه، كان التركي الإخواني ماكراً مخادعاً.
بعد كل الإنجازات السياسية السورية في عهد بشار الأسد (مبادرة السلام العربية 2002، دعم المقاومة في العراق 2003، دعم المقاومة اللبنانية وإعطاءها سلاح كاسر للتوازن: صواريخ الكورنيت؛ الدعم الكبير والنوعي لحماس والجهاد الإسلامي واستضافتهما في دمشق، والدور الذي لعبته سورية في محادثات دول البركس ومشروع طريق الحرير، الاتفاقات الثنائية مع روسيا والصين وإيران وفنزويلا وكوبا والبرازيل وحتى تركيا ما بين العامين 2008 و2010...)، والنجاحات الاقتصادية (نمو الميزان التجاري، وارتفاع الإنفاق للميزانيات السنوية، وإطلاق مشاريع السوق المفتوحة، ومسح ديون سورية نهائياً، بالإضافة إلى إطلاق مشاريع صناعية عملاقة وخطط لمدن صناعية منتشرة على قاعدة اللامركزية الإدارية...)، ولا ننسى الإصلاحات الداخلية كإطلاق تعديلات القوانين التي تختص بالحياة السياسية والإعلامية في سورية وإنشاء الأحزاب - رغم أنها لم تكن كافية، ومشاريع إدارية كالأتمتة والمكننة الإدارية وإطلاق خطط الإصلاح الإداري والتي كان يُعقد عليها آمال كبيرة... كل ذلك والكثير غيره، نجاحه النسبي، بالإضافة لعناده (الأسد) أمام الكثير من المحاولات الأمريكية عبر الأمريكي مباشرة أو مداورة عبر قنواته الرسمية وغير الرسمية، العربية منها والأجنبية، والغاية منها، دفع الأسد لتنازلات هنا أو لتسويات هناك في ملفات عدة، أهمها: التطبيع أو السلام مع «إسرائيل»، توقيف دعم حركات المقاومة في لبنان وفلسطين، فك العلاقة الاستراتيجية مع إيران وجعلها علاقة عادية، إعطاء دول مثل فرنسا والشركات الأمريكية امتيازات في حقول نفطية أو مشاريع إدارة المرافئ، وتشغيل بعض مرافق الإنتاج الحيوية في سورية للشركات الغربية، والكثير مما كانت تلك الدول تمني النفس به...
نجاحه النسبي ذاك، وعناده هذا، جعل الأمريكي والغرب الأوروبي وعرب البترودولار يقدمون للتركي صفقة «طعن الأسد»، التي تولت قطر السير فيها، وأقنعت الماكر أردوغان بتنفيذها.
وبدأ التنفيذ وطعن الأسد الطعنة الأولى في العام 2011، وظن الجميع أنها قاتلة، فراحوا يبشرون ويهللون؛ إلا أن الأسد المطعون صمد وصبر وقاوم آلامه، وساعده على ذلك رد الجميل من حزب الله له، ووفاء حليفه الإيراني، فكان موقفهما ترياقاً تجرّعه الأسد ونهض يزأر.
شفي الأسد نسبياً؛ ولكن الندب التركي ظل موشوماً في قلبه عميقاً، فالأسود لا تتسامح مع الغدر.
هنا، وبعد أن شعر الروسي بإمكانية صمود الأسد وتعافيه، رغب في دور له بعد أن كان متأنياً، فالطعنة (الحرب) ابتدأت في العام 2011 واشتد وطيسها حتى سقط أكثر من 60٪ من الأراضي السورية، والروسي كان إما متفرجاً وإما ناصحاً ببعض الاستشارات العسكرية، فوجد الأسد فرصته في كسر التوازن وقلب كفة الميدان والسياسة لصالحه، وهكذا كان إلى حدٍّ معيَّن.
مع مرور الوقت تبيّن للأسد وشركائه (الإيراني وحزب الله) الكثير من الأمور التي جعلت الأسئلة تُطرح عن دور الروسي في الصراع، وكنا أيضاً كمتتبعين ومراقبين نسأل أنفسنا كثيراً: لماذا لا تحسم الأمور في الشمال السوري كما حُسمت في حمص أو حلب أو حتى ريف دمشق؟! ولماذا تتقدم القوات إلى نقطة معينة في الجنوب أو في الشرق وتقف عندها؟! ثم يأتي الروسي ليدير الاتفاقات التي لم تكن تُرضي الشعب في سورية وجمهور حلفائها، وكانت الأجوبة غير مقنعة، بل كنا كثيراً ما نستعمل مصطلح «الروسي عم بيوازن الأمور، لا يريد الغلبة كي يطيل بقاءه ويأخذ ما يريد».
كان أحد أبرز الأحداث التي أدارها الروسي هو ملف الأسلحة الكيماوية، والذي فاجأتنا جميعاً نتائجه، بل صدحت وقتها أصوات منا اتهمت الروسي وشككت بتحالفه مع الأسد، والكثير الكثير من أنصاف الحلول التي كان الروسي يستطيع برأينا أن يقدم نتائج أفضل لنا منها.
واليوم إن راجعنا تلك المراحل بتفاصيلها سنجد أنفسنا في حيرة من تعامل الروسي وارتضاه بأنصاف الحلول وقتها. واليوم، بعد ما تكشف وسيتكشف لنا، قد نجد بعض إجابات تلك المرحلة، والتي ستصدمنا وسيصدمنا عدم فهمنا لها في وقتها، وعدم فهم وانتباه الأسد لتلك الثغرات أو الدلائل التي تجعله يأخذ في الحد الأدنى حذره من ذلك الدب اللاحم.
استمر الأسد في تقديم كل شيء يريده الروسي، بل وأعطاه الكثير، ولم يأخذ منه إلا القليل، والقليل الضار وليس القليل المفيد، واستمر الروسي على حاله واستمرت وعوده للأسد، وخصوصاً في ملف الدفاعات الجوية الكاسرة للتفوق «الإسرائيلي»، بالإضافة لملف التواجد العسكري التركي ولم يتحقق شيء.
إلا أن الأسد لا يملك الكثير من البدائل، ولا يوجد لديه حلول أخرى، فتريث على قاعدة «الموعود أفضل من المبعود»، وصبر وتصبر ولم يحصل على مراده.
استمر التململ والمحاولات، وكان الروسي يتذرع بالطلب من الأسد التنازل للتركي. ولكن ندب الطعنة لم يندمل بعدُ عند الأسد؛ لأنه كان في روحه ونفسه وروح ونفس أبناء شعبه، وكان الأسد يطلب من الروسي الضغط على التركي للعودة أولاً إلى «اتفاق أضنة»، والمصالحة تكون على أساس السيادة السورية. وكان الروسي عاجزاً عن الضغط على التركي بأن يسحب قواته.
التحول الروسي الفعلي بدأ بعد عملية «طوفان الأقصى». كان الروسي قبلها يحاول الضغط على الأسد في ملف التواجد الإيراني ويرسل رسائل لم نفهمها يومها، كرسالة اغتيال قاسم سليماني والتي ساعد الروسي في توفير بعض المعلومات فيها عبر بعض ضباطه السوريين الذين جندهم لمصلحته ومثلها الكثير من الاغتيالات التي قام بها «الإسرائيلي» مباشرة بعد تقديم الروسي المعلومات له.
إثر كثرة الاغتيالات للمستشارين الإيرانيين بدأ الأسد يتململ من البرود الروسي وقام بتعديلات أمنية كثيرة، ولم يسبق لسورية أن غيرت خلال عام واحد مرتين قادة أجهزة أمنية حساسة كما فعلت في العامين الماضيين، فلطالما كانت الأسماء الأمنية بمثابة ثوابت في السياسة السورية الأمنية.
لماذا «طوفان الأقصى» بداية تحول الروسي؟
قرأ الروسي جيداً خطاب رئيس الوزراء «الإسرائيلي» نتنياهو يوم أعلن الحرب على غزة ووعد أنها ستكون حرب تطبيق «الشرق الأوسط الجديد»، وفهم الروسي جدية «الإسرائيلي»، وقرر أن يستثمر فيها، على عكس الأسد ومحور المقاومة، الذين لم يقرؤوا خطاب نتنياهو جيداً، فلو فهموا جدية ما عناه وقصده نتنياهو لكانوا غيّروا التكتيك، ولم يفتحوا -أقله- حرب إسناد في جنوب لبنان، بل كانوا جعلوها حرباً استباقية ودخلوا في التحام مباشر، ودخول إلى الجليل لطالما أخبرنا سماحة السيد الشهيد استعداد «قوات الرضوان» له، وفي الحد الأعلى كان قرار فتح جبهة الجولان وباقي الجبهات دفعة واحدة خياراً صائباً وممكناً وذا جدوى مائة في المائة.
كان الروسي يراقب ويتشاور مع التركي و»الإسرائيلي». وبذكائه الثاقب عرف أين مصلحته ودعا الأسد للتريث والمسير معه في الصفقة، فوجد رفضاً أسدياً. إلا أنه ظل يأمل أن يلين الأسد، وراحوا جميعا يتداورون في تقديم الأفكار في صفقة للأسد؛ «الإسرائيلي» عبر الأردني والإماراتي، والأمريكي عبر السعودي، وحتى رئيس وزراء العراق التقى الأسد، مبعوثاً من الأمريكي في محاولة أخيرة، ورفض الأسد صفقتهم، وكان محقاً في رفضه، وقدم الأسد صفقته للسعودي ووعده السعودي والإماراتي بالعمل والدعم لها ومحاولة تسويقها، وتريثوا انتظاراً واستخدموا معه إضاعة الوقت حتى بدأ نتنياهو في المرحلة الثانية من حربه وأعلن الحرب على لبنان، وكان وقتها الإماراتي والسعودي داعمين بشدة لها ليجددوا اتصالاتهم بالأسد ويحاولوا لعله يبدل موقفه، لكنه لم يبدل، فراحوا يعدونه ليضيعوا الوقت حتى يفقد الأسد أوراقاً كان يملكها أو يضعفونه بإضعاف الورقة نفسها، كورقة حزب الله التي أوعز الروسي لمجموعة من ضباطه في المناطق التي له فيها سيطرة على إغلاق مكاتب خدمية لحزب الله وسربوا معلوماتها وصور إغلاقها ورفع بعض الصور لمنظومة الإعلام العبرية العربية التي ضجت في نشرها مما هز بعض الثقة وزرع مسماراً فيها.
الصفقة الأمريكية للأسد:
• إخراج الإيراني من سورية بشكل كامل.
• وقف إمداده لحزب الله وإخراجه من سورية وقطع العلاقة معه.
• طرد كافة «المليشيات» العراقية المسلحة وغيرها المتواجدة في الأراضي السورية والتي يسيطر عليها الأسد.
• إنهاء المنظمات الفلسطينية في سورية وطرد قادتها.
• الجلوس على طاولة المفاوضات للتطبيع؛ التطبيع كمرحلة أولى، والسلام مرحلة ثانية على قاعدة المقترح الأمريكي للسلام والذي يجعل الدولة في سورية ضامناً لأمن «إسرائيل»، وذلك بالتعهد بعدم التسلح، والالتزام بعديد معين للقوات المسلحة السورية والموافقة على وجود وتثبيت قاعدة أمريكية للأعمال اللوجستية والمراقبة.
• الموافقة على إقامة حكم محلي لا مركزي للأكراد بناء على خارطة مرفقة بالملحقات.
• يكون الروسي والأمريكي والفرنسي والسعودي ضامنين للصفقة.
مقابل ذلك كله تُرفع العقوبات كلها ويقدم لسورية مبلغ كتعويض اقتصادي مباشر ابتداء في المرة الأولى بـ30 مليار دولار، وازداد في آخر مرة قدمت فيها الصفقة إلى 50 مليار دولار، وتقوم دول الخليج بإعادة إعمار سورية عبر صناديق دعم أممية ضامنة، وتطلق يد سورية في لبنان اقتصادياً وسياسياً على قاعدة «أمن إسرائيل وسلامة المكون اللبناني». وفي المرة الأخيرة تم التعديل لضم طرابلس لسورية بعد خلق أحداث طائفية بموجبها تتدخل سورية وتعطي الأمم المتحدة لسورية وصاية شرعية في طرابلس.
صفقة الأسد للأمريكي:
• تغادر القوات التركية الأرضي السورية، وتتجدد «اتفاقية أضنة»، ويضاف عليها بند يلزم تركيا بالمسؤولية الكاملة عن أي خرق وتحت أي ظرف، ويسجل ذلك بقرار أممي في الأمم المتحدة، وتعلن سحب قواتها وتغادر الأراضي السورية خلال 30 يوماً من توقيع الاتفاق، وبعد أن تفكك كل التنظيمات العسكرية التابعة لها وتقدم خرائط حقول الألغام التي استحدثتها بعد العام 2011.
• ترفض سورية أي شكل من أشكال الحكم المحلي أو الاستقلالي للمكون الكردي، ويتم تفكيك القوات العسكرية الكردية وتسليم أسلحتها، ويعمل على التحاق من يرغب من عديدها بالتطوع في صفوف الجيش العربي السوري وينشأ برعاية عربية صندوق تنمية ودعم خاص لمناطق الجزيرة السورية (القامشلي والحسكة والرقة).
• ترفض سورية أي وجود أمريكي، لا في قواعد ثابتة ولا في تشكيلات أممية أخرى ترعى أي اتفاق، وتعمل على تفكيك قواعدها وتخرج من البلاد وتسلم أماكنها للجيش العربي السوري، وتفكيك أي شكل من أشكال التنظيمات المسلحة التي أنشئت لمصلحتها في تلك المنطقة، وإن كان من ضرورة لقاعدة مراقبة دولية لا يمكن قبول الأمريكي فيها وأعضاء دول «الناتو» فيها، وإنما يمكن القبول بقوات دولية يتم الاتفاق عليها مع الدولة السورية.
• تضع سورية خطة تفصيلية لمغادرة كل القوات المسلحة الحليفة والصديقة وغير السورية، ويستثنى وجود من هم مشمولون باتفاقيات الدفاع المشترك.
• يعقد مؤتمر دولي لدعم سورية وإعادة الإعمار على أن يتكفل المشاركون والداعمون بجمع المبالغ المنصوص عليها في الفقرة (أ) من الصفقة من باب إعادة الإعمار.
• يبدأ التفاوض المباشر برعاية روسية وأمريكية وعربية بين سورية و»إسرائيل» على قاعدة تطبيق القرارات الأممية الخاصة بالجولان السوري.
• تعمل سورية على موافقة حزب الله للجلوس أو الانخراط أو دعم الحكومة اللبنانية في التفاوض مع «إسرائيل»، على أن تضع الحكومة اللبنانية خارطة طريق لضم قوات المقاومة إلى الجيش اللبناني بناء على قرارات الحكومة اللبنانية.
وضعنا ما تم تداوله من أفكار واقتراحات صرحت به الكثير من المراجع الإعلامية والسياسية كي نرى لماذا رفض الأسد ما قُدّم له، وما الذي قَدّمَ هو، وبالمقارنة بينهما نستنتج أن الأسد في المبدأ لم يكن عنده مشكلة بإخراج القوات الإيرانية وحزب الله وغيرهما من سورية، ولا مشكلة عنده في الجلوس مع «الإسرائيلي» مباشرة والتفاوض معه ولا... ولا... ولا... كل ما كان ينشده ويقيس عليه مع كل الأطراف هو السيادة السورية، وهو الأمر الذي قاس عليه خطواته، من رفض أو قبول، وهذا أمر فهمه الأمريكي و»الإسرائيلي» والروسي، وأدركوا أن هذا الرجل لا يصلح للمرحلة التي يريدون فيها إنشاء «شرق أوسط جديد».
بدأت الحرب في لبنان وكانت الأطراف كلها -باستثناء الأسد ومحور المقاومة- مدركين حجم الجدية «الإسرائيلية» وقرار بطشها وتدمير لبنان وحجم الخرق في المحور. وحتى الروسي كان يعلم ويدرك حجم الخروقات في جسد المحور المقاوم كله، ويدرك حجم القرار «الإسرائيلي»، وهو (الروسي) الذي يملك من المقدرات والإمكانيات التكنولوجية وشبكات العملاء العاملين لمصلحة مخابراته من اليهود الروس، والروس المقيمين في «إسرائيل» ما لا يعد ولا يحصى.
كانت التقديرات أن «إسرائيل» تستطيع إنهاء حزب الله والتقدم حتى إلى صيدا وتدمير الضاحية، ما يلغي إمكانية تواجد عسكري لحزب الله في الجنوب وبيروت والبقاع الغربي، وحصر خطره في الهرمل وبعلبك والتي يعمل على تدميرهما تدميراً يجعل البيئة المقاومة كلها تنتقل إلى خارج لبنان بينما تفرض «إسرائيل» اتفاقاً سياسياً رسمياً في لبنان، وبذلك ينتهي الخطر الأهم عليها، لتنتقل فيما بعد لمواجهة مباشرة في سورية كانت قد هيأت لها من قبل «طوفان الأقصى»، إلا أن عدم قدرة «إسرائيل» على تخطي المقاومة في الجنوب رغم كثافة الضربات وخطورتها جعل الأطراف (الأمريكي و«الإسرائيلي» والتركي) تناقش خطة كانت قد وضعتها القيادة في «إسرائيل» مع التركي قبل أحداث «طوفان الأقصى»، ومضمونها تجهيز قوات في الشمال السوري وتدريبها وتنظيمها والعمل على نقلها إلى منطقة درعا والسويداء عبر التنف، وكانت السويداء ودرعا تحضر أرضيتهما لاستقبال القوات ومهاجمة دمشق من المنطقة الجنوبية وبدعم جوي «إسرائيلي»، وبذلك تنهي «إسرائيل» التواجد الإيراني وحزب الله في خطوط الجنوب السوري، وتقيم منطقة خارج سيطرة الدولة السورية، على غرار الشريط الحدودي الذي كان قبل العام 2000 في جنوب لبنان وتحت حمايتها متصل بالأكراد في الشمال الشرقي لسورية، قاطعا التواصل بين سورية وبين العراق.
كان للتركي رأي بتعديل الخطة والبدء من الشمال، لمعرفته بضعف جبهة الشمال، بسبب تمركزه والاتفاقات بينه وبين الروسي على أن يعمل على مناقشة الخطة مع الروسي، مقترحاً تقديم ضمانات حماية لقاعدته في «حميميم». وهدف التركي الثاني في الانطلاق من الشمال هو رغبته بأن يكون له دور كبير ويبقى زمام الأمور بيده. وقد ناقش التركي مع الروسي الفكرة، إلا أن الروسي الفطين والكثير الدهاء رفض مبدئياً، وراح يناقش مع الأسد بعض الاحتمالات، والتي كان قد ناقشها بطرق مختلفة في مراحل سابقة، وكان الأسد يرفضها ورفضها أيضا.
وفي تلك الفترة أصر التركي على حلفائه البدء من الشمال ليكون له من المعركة حصة الأسد، ولكي يكون زمام الأمور في يده، وقد وافق «الإسرائيلي» وتمنّع الأمريكي، فبادر التركي و«الإسرائيلي» منفردين بوضع التفاصيل الأخيرة، ومنها قرار «الإسرائيلي» بالموافقة على وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، على أن يبدأ الهجوم شمالاً في اليوم نفسه. والخطة كانت تهدف لقطع طرق إمداد حزب الله عبر طريق m4 وطريق m5 ولو بالنار، حيث لم يكن التركي يتوقع سقوطاً سريعاً لحلب ووصولاً سهلاً إلى تلك الطرق، ومن ثم إلى حماة؛ إلا أن الروسي أراد هذا السقوط ليضغط على الأسد ويضعه في زاوية لا يستطيع الخروج منها إلا بموافقة الروسي، على أن يدير الروسي إنهاء التواجد الإيراني وإنهاء حزب الله في سورية ولبنان والدفع لعملية سلام كاملة تضمن بقاءه في سورية وترضي التركي و«الإسرائيلي» ويستطيع حتى مقايضتها مع الأمريكي في أوكرانيا، ويبقى الأسد في الحكم بشروط وحماية روسية وموافقة «إسرائيلية».
وهكذا حصل وبشكل فاجأ التركي ومليشياته أن سقطت حلب بسرعة، واستعرض الروسي قوته وقصف بعض المراكز غير الحيوية كرسالة لتركيا أنه قادر ويجب التحدث معه والتفاهم قبل أي شيء، وسارع بطلب الأسد بناء على الخطة التي وضعها وأجهزته التي استنفرت كل قواتها، وحتى استقدم قبل سقوط حلب بعض الدعم لـ»قاعدة حميميم». كان بوتين شبه متأكد أن الأسد سيرضخ ويوافقه ويخطان معاً دوراً جديداً ومرحلة جديدة في «خارطة الشرق الأوسط الجديد». وبالنسبة لبوتين بقاء الأسد في السلطة وخروج الإيراني والقضاء على حزب الله يعني أنه أصبح الحاكم الفعلي لسورية، وثبتت روسيا شرعية وجودها لخمسين عاماً جديداً، وقد يعمد لإزاحة الأسد فيما بعد وتسوية سياسية يأتي خلالها برئيس جديد يصنعه هو (بوتين) ليكون بيدقه الخاص في سورية.
كان الأسد وقيادته العسكرية والأمنية المصغرة والمعروفة أنها من مجموعتين لا تتجاوز الثلاثين فرداً (الأمنية الرفيعة المستوى والعسكرية الرفيعة المستوى)، ومن بينهم أخوه ماهر. والمعلوم أن تلك الشخصيات لا تتنقل بكثير من الحمايات وأعداد غفيرة من المرافقين، وفي أغلب تنقلاتهم الداخلية بين الفروع في دمشق يتنقلون بشكل فردي أو بمرافقة فرد أو اثنين من الحراسة الشخصية.
كان الأسد وقيادته أعطوا كل الأوامر للاستعداد للمواجهة، وتشاور مع الإيراني، الذي أبدى استعداداً ونسّق مع العراقي، وكانت أجواؤهما مشجعة ومتوافقة مع الأسد وحزب الله أيضاً، بالإضافة لكل الهبّات الشعبية والتجنيد، وقام بتوقيع قرار زيادة الرواتب. كان الروسي يدرك أن الأسد أخذ القرار وانتهى الأمر، فقرر (بوتين) أن يتصرف بناء لمصلحة روسيا العليا، فماذا يعني ذلك؟
بالنسبة لبوتين مصلحة روسيا العليا تقتضي التالي:
المعلومات لدى الروس تقول إن التركي عدّ عُدّته جيداً، وأي تدخل إيراني أو عراقي مباشر سيتدخل التركي و«الإسرائيلي» بشكل مباشر، وبالتالي ستطول مدة الصراع ويستنزف هو والسوري والإيراني وتنتهي المعركة بخسارته ومحور المقاومة، وهو في وضع لا يسمح بأي استنزاف غير محسوم النتيجة لمصلحته.
إذن، الأسد يغامر بمصلحة روسيا ولا يفكر إلا بثباته على موقفه ولديه أفكار خطيرة عن تواجد روسيا في سورية، وفي حال نجح الأسد في فرض معادلة صمود تتعب «الإسرائيلي» وتجعله ينهك، فيرضخ، وبالتالي بالنسبة لبوتين وروسيا هذا يجعلهما في وضع غير سليم وغير محبذ، لذلك مصلحة روسيا العليا تقتضي إزاحة الأسد، والمعركة بدأت والوقت قصير لا يسمح لبوتين بالمناورة أبدا.
أخذ بوتين القرار باستدعاء الأسد إلى روسيا ليتم مناقشته، لأهمية الوضع وكثرة المستجدات. وهنا نتوقع منطقياً أن الأسد شرح لبوتين وجهة نظره التي من المنطق الطبيعي أن تكون قراراً بالمواجهة بناء على قدرات سورية وحلفائها من المقاومة.
وبالنسبة للأسد فإنها حرب وجود، فكان أخذ قرار زيادة الرواتب للعسكريين، وأعطى كل قرارات الاستعداد، وكانت بعض كتائب وفرق الجيش باشرت بالهجوم على بعض المواقع في حماة. وهنا ماذا نتوقع رد بوتين؟
الأكيد والمنطقي أنه رفض القرار جملة وتفصيلاً. فإذن، هل عاد الأسد إلى دمشق؟ أم بقي محجوزاً بإقامة جبرية مشددة هو وبشار الجعفري ومن كان برفقته؟
للإجابة يجب فتح تحقيق يبدأ من مطار دمشق وكاميرات المراقبة فيه، والشهود عند الذهاب وعند الإياب، إن كان حصل عودة وثبتت، فهناك أسئلة أعمق تطرح نفسها وبقوة، وهي: إن عاد الأسد فعلاً فكيف اختفى؟! ولماذا يأخذ قراراً بالتنحي فجأة؟! ولماذا يمنع الجيش من المواجهة؟! ولماذا لم يترك لقيادته أخذ القرار؟! ولماذا لم يصدر أي بيان رسمي منه؟! وهو الذي يملك من القدرة والقاعدة الشعبية ما يجعله يطل على الناس ويبلغهم قرار التنحي، متذرعاً بحقن الدماء والحفاظ على مؤسسات الدولة، ويشكرهم وينقل صلاحياته لرئيس الوزراء، ويرحل مودعاً شعبيته، ويودع سورية، متوعداً بأنه سيكمل نضاله من أجل مصلحة سورية في مرحلة سياسية قادمة؟! لماذا لم يفعل كل ذلك؟! ولماذا هذا الغموض في مصيره وأخيه وقيادته العسكرية والأمنية والسياسية حتى من مستشارين وسفراء مقربين أمثال بشار الجعفري؟!
أيها السوريون، أيها الشعب السوري، إن كان الأسد رحل طوعاً، وهذا منافٍ للقبول العقلي والمنطقي بعد كل هذا السرد المنطقي؛ فلماذا لا يظهر من موسكو بلقاء أو تصريح؟! ولماذا يفعل بتاريخه وتاريخ والده وطائفته كل هذا الإحراج والخذلان إن لم نقل الإذلال؟! ولماذا...؟! ولماذا...؟! وألف لماذا...؟!
هل من عاقل ومتنبه منكم لم يدرك أو يلمس أن في أداء الروسي وغموضه والنتيجة التي أزالت سورية من خريطة الوجود أمراً مخفياً؟! وهل يعقل أن يحصل كل ذلك ولا نشغل عقولنا في البحث والاستنتاج والتحقق المنطقي قبل أي تحقيق واقعي؟!
العاقل يدرك أن الأسد لم يهرب، ولم يتنحَّ، ولم يسلك طريق المساومات، ولم يتنازل، فما كان من بوتين إلا توجيه طعنة ثانية له؛ ولكنها في هذه المرة قاتلة له ولسورية ولمحور المقاومة.
الأسد قُتل بطعنتين: الأولى من العالم كله عبر التركي، والثانية من بوتين ليتلطخ تاريخ روسيا بوصمة عار الخيانة والغدر، ويسجل التاريخ ثأراً جديداً وعدواً جديداً للسوريين عبر أجيالهم، فالروس منطقياً سيحملون دم سورية عليهم وأبنائهم من بعدهم، كما يحمل اليهود دم يسوع الناصري السوري أبد الدهر.
كل من يقرأ هذه السطور ستتولد لديه الكثير من الأسئلة، ومنها: ماذا استفاد بوتين؟! وكيف يحقق غاية روسيا العليا؟! لقد أعلن الكرملين إعطاءه وعائلته اللجوء (الحماية) السياسية، فكيف ذلك؟! وماذا عن الدور الأمريكي؟! وأي دور للإيراني وحزب الله في ما حدث؟! وكيف غادروا؟! وكيف حصل ومتى ملك الروسي هذه القدرة على تنفيذ ما نفذ؟! وكيف أمر ضباط وقيادات الألوية والفرق والقطاعات بالتسليم والانسحاب؟!
لكل الأسئلة أجوبة، وأجوبة منطقية، وبعضها ستجيب عليه الأيام القادمة، إلا أننا هنا سنجيب على سؤال واحد للدلالة على طريقة تفكير تجعلنا نجيب على باقي الأسئلة، وهو: أي دور للإيراني وحزب الله؟! وكيف غادروا؟!
تفكروا معنا؛ ألم نشاهد فيديوهات للحشد الشعبي وقد قطع الحدود العراقية وبالوقت نفسه شهدنا فيديو لانسحاب كتيبة من الجيش السوري للواء المولج الانتشار في دير الزور، وكان بالوقت نفسه مقتدى الصدر يهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور إن تدخل الحشد في سورية، والتركي صرح رسمياً بإمكانية تدخل جيشه مباشرة في الصراع؟!
حسناً، كونوا مكان الحشد، وهذه هي المعطيات أمامكم، مع خبر انسحاب القطع العسكرية في الجيش السوري إلى دمشق، فماذا أنتم فاعلون؟!
وقد يكون بوتين طلب التروي عبر غرفة العمليات (العراقية - الروسية - الإيرانية) المشتركة؛ لأنه سيحاول إيقاف الحرب بالتواصل مع التركي، وجاء إعلان اتصاله بأردوغان وتبليغه رغبته بإيقاف الهجوم بأسرع وقت ممكن.
إن الأمور واضحة وضوح الشمس، وهي أن الروسي عمل لخداع الجميع ونجح.
أما حزب الله، الذي أرسل 2000 مقاتل من نخبة جنده أو فرقه إلى حمص، وقد وصل قسم منهم حمص بينما انتشر الباقي في منطقة القصير، هؤلاء انسحبوا ليلاً بعد أن لاحظوا تسليم الجيش وانسحابه، وكانوا متفاجئين جداً، فهل غدر الأسد بحزب الله أيضاً؟! بالله عليكم اعملوا عقولكم ولا تدعوا بوتين يستغبيكم.
أما الإيراني فقد وصلته المعلومات مساء ليلة الجمعة للسبت، بأن أمراً عظيماً يحدث، فأجرى محاولات الاتصال بالقيادات، فلم يستجب أغلبها، فأدرك أن في الأمر خيانة، فقام بالانسحاب قدر المستطاع من دمشق، وقد عبرت، حسب مصادر القنوات الإخبارية العربية، طائرة مدنية إلى العراق يُرجح أنها نقلت المستشارين والضباط رفيعي المستوى، وشوهدت بعض الفيديوهات لأعداد كبيرة في الست زينب (سلام الله عليها) تهرب على ملء وجهها... فما رأيكم؟!
المصدر لا ميديا