دمشق - خاص / لا ميديا -
أيام ثلاثة سوداء أخرى عاشتها سورية، الاثنين والثلاثاء والأربعاء من الأسبوع الماضي، عندما طغت مرة جديدة لغة الغرائز الطائفية، التي أدت إلى وقوع اشتباكات دامية، في مدينتي جرمانا وصحنايا في ريف دمشق، ومدينة السويداء جنوب سورية، وهي الأماكن التي تقطنها أغلبية من الطائفة الدرزية، التي ترفض حتى الآن إعلان موالاتها الكاملة للسلطات الجديدة في دمشق، وترفض تسليم سلاح الفصائل التي تدافع عنها، قبل تأمين مطالبها، وخاصة في موضوع الأمن، في ظل وجود فصائل متشددة، بعضها ينضوي تحت سلطة قوات الأمن ووزارة الدفاع في حكومة أحمد الشرع، والتي تعلن بكل وضوح تكفير الدروز وتدعو إلى إبادتهم.
وفي شكل وتوقيت ملتبسين وغير بريئين، بدأت الأحداث عندما تم نشر فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي يظهر فيه شيخ درزي (يقيم خارج سورية) وهو يشتم الرسول الكريم. وسرعان ما تبين أن الفيديو مفبرك بواسطة الذكاء الصناعي، وهو ما أكده بيان رسمي لوزارة الداخلية السورية، والشيخ الذي ظهر في الفيديو، وبيان للعائلة التي ينتمي إليها، وأكثر من ذلك فقد عرفت هوية الشخص الذي فبرك الفيديو؛ لكن كل ذلك لم يمنع مجموعات مسلحة، يعمل بعضها تحت إمرة السلطات السورية الجديدة، ومجموعات أخرى، وشيوخ تكفيريين، من إعلان النفير العام من منابر المساجد، ومحاصرة مدينتي جرمانا وصحنايا، التي يقطنها خليط من عدة طوائف إسلامية ومسيحية، إلى جانب الأغلبية الدرزية، ما أدى إلى وقوع اشتباكات أسفر عنها مقتل عدة أشخاص من الطرفين، في اشتباكات جرمانا، التي تقع على طريق مطار دمشق الدولي في غوطة دمشق، وتجاورها بلدات وقرى تتواجد فيها تيارات وهابية وإخوانية.
أدت هذه الأحداث إلى امتداد التوتر والاشتباكات إلى مدينة السويداء، عند الحدود الأردنية جنوب سورية، ذات الأغلبية الدرزية، وبلدات أخرى في الجولان السوري المحرر، وعلى خط التماس مع العدو الصهيوني، حيث جرت اشتباكات دامية أوقعت أكثر من مئة قتيل يتوزعون بين مسلحين دروز وعناصر أمن ومقاتلين مرتبطين بالسلطة ومدنيين.
ركزت قوات الأمن عملياتها خلال هذه الاشتباكات على الخاصرة الرخوة في صحنايا، بسبب قلة عدد السكان والمقاتلين، ما مكنها من السيطرة عليها؛ لكنها لم تستطع السيطرة على جرمانا والسويداء، وارتكبت قوات الأمن والمجموعات المسلحة عدة جرائم وإهانات ضد المدنيين، منها قتل رئيس بلدية صحنايا وابنه، رغم أنه كان من الساعين للتهدئة بالتعاون مع قوات الأمن.
الخطير في هذه الاشتباكات، التي جاءت بعد أكثر من شهر على المجازر المروعة التي وقعت في المناطق التي تتواجد فيها أغلبية علوية في محافظتي طرطوس واللاذقية في الساحل السوري ومحافظتي حمص وحماه وسط سورية وذهب ضحيتها آلاف المدنيين، أنها أخذت بعداً إقليمياً ودولياً، بسبب حساسية موقع السويداء، وامتدادات الطائفة الدرزية داخل فلسطين المحتلة ولبنان، حيث سارعت حكومة بنيامين نتنياهو إلى اللعب على هذا الوتر، ووجهت تحذيراً لحكومة الشرع بأنها ستدافع عن الدروز ولن تسمح لقوات الجيش السوري بالتمدد إلى الجنوب، وأرفقت ذلك بضرب موقع قريب من القصر الجمهوري في دمشق، وقصفت بطائرة مسيّرة تجمعاً لقوات الأمن قرب صحنايا أسفر عنه سقوط قتيل.
كما سارع زعيم الطائفة في فلسطين المحتلة، الشيخ موفق طريف، إلى دعوة حكومة نتنياهو للتدخل، وشكل شبه غرفة عمليات لمتابعة الوضع في مناطق التوتر.
كما أجرى الزعيم الدرزي اللبناني وليد جنبلاط، اتصالات مع السلطات السورية، وعدة دول إقليمية وأجنبية فاعلة، منها السعودية والإمارات وفرنسا، حول ما يجري.
وعلى وقع هذه التطورات الميدانية والسياسية، أصدر وجهاء ومشايخ عقل الدروز بياناً مقتضباً حمّلوا فيه السلطات مسؤولية حماية المحافظة وجميع مكونات الشعب السوري، وطالبوا بتفعيل دور الضابطة العدلية ووزارة الداخلية، فيما اعتبرت السلطات السورية أن سبب ما يجري هو خروج مجموعات انفصالية عن القانون، ليتبع ذلك تشكيل وفد رسمي مكون من محافظي السويداء والقنيطرة، ومن الإدارة السياسية، التقى فعاليات وشيوخ من الطائفة الدرزية، منهم الشيخ حكمت الهجري، الذي يقود الحراك السياسي في السويداء، منذ بدء نشاطه أيام نظام الرئيس السابق، بشار الأسد.
أسفر عن هذه اللقاءات اتفاق يقضي بتسليم السلاح الثقيل من فصائل السويداء، وتجميع السلاح المتوسط (دون تسليمه للسلطات) وانضمام مقاتلين من أبناء المدينة والمناطق التي شهدت الاشتباكات، إلى كوادر «الأمن العام» وتكليفها بتنظيم عملية حمايتها.
اللافت في هذا الاتفاق أنه جاء بمثابة حلّ وسط بين مطالب إقامة فدرالية درزية ومحاولة السلطات الانتقالية إنشاء نظام حكم مركزي، وهو ما رفضته سابقاً، وترفض تطبيقه حتى الآن في مناطق الساحل السوري ومناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية في شمال شرق سورية «قسد»؛ لكن هذا الاتفاق يزيد احتمالات تطبيقه في هذه المناطق بهدف تهدئة الأوضاع، وتعزيز الأمن والأمان فيها.
تطور آخر شهده الوضع السوري ولا يمكن فصله عن كل ما يجري في الميدانين السياسي والعسكري، حيث قامت الطائرات «الإسرائيلية»، ليلة الجمعة السبت الماضية، بالعربدة في أجواء دمشق وبقية الأجواء السورية، وشنت غارات على عدة مواقع في محيط العاصمة دمشق، وفي ريفي حماه وحمص، تضم مقرات لفصائل متشددة منضوية تحت سلطة قوات وزارة الدفاع وقوات الأمن السورية، وبدون أن تمتلك الحكومة السورية أي قدرة على مواجهتها، بسبب التدمير الكامل للجيش السوري، وخاصة سلاح الجو، ووسائط الدفاع الجوي، خلال مئات الغارات التي شنتها الطائرات «الإسرائيلية» في الأيام التي تلت سقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد، واقتصر رد حكومة الشرع على بيان نددت فيه «بشدة» بالغارات «الإسرائيلية».
ومن المؤكد أن هذه التطورات ستكون حاضرة كبند رئيسي في مداولات مجلس الأمن المقبلة، كما كانت مجازر الساحل بنداً رئيسياً في جلسة مجلس الأمن السابقة.
ما يجري يؤكد أن الوضع في سورية لم يدخل بعد مرحلة الاستقرار، وهو مفتوح على كل الاحتمالات، مع وجود صراع شرس على سورية، ووجود عدة سيناريوهات تتبع مصالح الدول المؤثرة في الملف السوري، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني والولايات المتحدة وتركيا وروسيا وفرنسا وبريطانيا وإيران والسعودية، ولا يزال الوقت مبكراً لمعرفة أي من هذه السيناريوهات سيكون له فرصة التنفيذ على الأرض.