حوادث مأساوية تتكرر في كل عام .. قرية مذبح القديمة.. تحت رحمة الأمطار
- تم النشر بواسطة مارش الحسام / لا ميديا

استطلاع وتصوير: مارش الحسام / لا ميديا -
تعتبر قرية مذبح القديمة لوحة متناقضة من صور الحياة والموت، حيث تتصارع بين كونها «قرية أشباح» و»خلية نحل».
الزائر للقرية يجد نفسه كأنما يحلق في عالم آخر، فالدمار والخراب والوحشة صفة ملازمة لمساكن القرية المهدمة كليا أو جزئيا بما يضف عليها طابع الخواء كمساكن الأشباح.
ولكن سرعان ما يكتشف الزائر الوجه الآخر للقرية، الشبيه بخلية نحل، إذ تعج هذه المنازل بالأرواح الحية وتقطنها عشرات الأسر التي وجدت في هذه الأطلال الآيلة للاندثار ملاذا غير آمن في الظروف الطبيعية ناهيك عن الظروف المناخية كالأمطار الغزيرة.
صحيفة «لا» زارت القرية، حيث تعيش عشرات الأسر تحت خطر سقوط منازلهم المتهالكة، وخصوصا مع دخول موسم الأمطار.
كارثة تاريخية وإنسانية
في قرية مذبح القديمة، حيث يعبق التاريخ في كل زاوية، كانت البيوت العتيقة (أطلالها حالياً) تشهد على حياة الأجيال المتعاقبة، لكن هذه الأطلال، التي كانت يوماً ما ملاذاً آمناً، أصبحت اليوم مشاريع قبور مستقبلية لساكنيها.
القرية باتت تهدد بكارثة إنسانية إلى جانب كارثة تاريخية سبق أن حلت بها، فالقرية لم تعد تحتفظ بأغلب معالمها الأثرية باستثناء بقايا الأبراج والحصون، فيما السور الذي كان يحيط بالقرية لم يعد له أثر بسبب عوامل التعرية وعوامل أخرى بشرية.
خرائب آهلة بالسكان
في قرية تعاني من دمار شامل، تبرز مشاهد مأساوية لأسر تعيش في بقايا منازل اختفت معظم جدرانها وأسقف حجراتها.
قرية مذبح القديمة تعرف حالياً باسم الخرابة أو الخرائب، يقول سكان المنطقة، إنها اكتسبت هذه التسمية بعد أن ظلت أغلب منازلها مهجورة لسنوات طويلة، كما تخلى أغلب سكان القرية عن منازلهم العتيقة بالانتقال إلى مساكن حديثة، تاركين وراءهم مساكنهم القديمة لتنخر فيها عوامل التعرية التي تسبب بأضرار وخراب للكثير منها.
ملاذ غير آمن للمعدمين
رغم عدم صلاحية منازل القرية للسكن، إلا أنها صارت اليوم مأوى لعدد من الأسر النازحة والمعدمة.
وبحسب الأهالي، يقطن القرية حالياً حوالي 180 أسرة غالبيتهم من عمال النظافة والنازحين والمعدمين الذين اضطروا إلى اللجوء إلى هذه المنازل (الأطلال) باعتبارها المتاح الوحيد كمأوى لهم، وكان عليهم القيام بعمل استحداثات عشوائية في المنازل المدمرة، حيث تُستخدم إطارات السيارات بشكل شائع في بناء الأسوار والأحواش. كما يتم الاستعانة بالطرابيل وأكياس الدقيق وقطع القماش لتعويض الأجزاء التي انهارت، مثل الأسقف والجدران والأبواب والنوافذ، مما يعكس قدرة هؤلاء الناس على التكيف مع الأوضاع الصعبة.
قسوة مزدوجة
الأمر الآخر المثير للحسرة هو أن معاناة سكان القرية لا تقتصر على قساوة الظروف المناخية فحسب، بل يضاف إليها قسوة القلوب البشرية، فبدلاً من أن يجد هؤلاء المغلوبون على أمرهم الدعم والمساندة، باتوا يجدون أنفسهم ليس فقط عرضة للتنمر والازدراء والدونية والعنصرية من قبل السكان المحيطين بالقرية، وإنما أيضا عرضة للاضطهاد والتهجير القسري من قبل البعض من ملاك أطلال المنازل وأمزجتهم التي وضعت بعض العائلات المستضعفة في فوهة خيار وحيد يؤدي إلى الإخلاء الفوري، فيما وجدت عائلات أخرى نفسها أمام خيارين كلاهما مر.
ومثلما كتب على هؤلاء المستضعفين التكيف على قساوة الظروف المناخية ومخاطرها فقد كتب عليهم أيضا التكيف مع قسوة القلوب البشرية.
التأجير أو التهجير
وأكد عدد من سكان القرية لـ»لا»، أن بعض ملاك المنازل المهجورة قاموا بطرد وتشريد العائلات المستجيرة عنوة ورفضوا إقامتهم في منازلهم واعتبروا ذلك تعديا على ملكيتهم الخاصة ومحاولة البسط عليها. فيما قام آخرون باستغلال حاجة هؤلاء المعدمين لمأوى بتأجير بقايا أطلال منازلهم بمبالغ زهيدة.
ولفت بعض سكان القرية الى أن عدداً من الملاك عمدوا إلى مساومة بعض الأسر المستضعفة إما بالتهجير أو دفع إيجار شهري مقابل الإقامة في أطلال المنازل، وبحسب وصف أحد السكان: «رغم أن مبلغ الإيجار يسير إلا أنه كبير مقارنة بوضعهم المادي، كون أغلب السكان هم من عمال النظافة أو ممن يعملون في جمع قوارير المياه الفارغة».
رحلة الشتاء والصيف
عبدالله، رجل في منتصف العمر، يعيش في ظروف قاسية أجبرته على السكن في بقايا منزل قديم يتكون من ثلاث حجرات، اثنتان منها انهار سقفاها، بينما لاتزال الثالثة قائمة ولكنها مهددة بالسقوط في أي لحظة. يتخذ عبدالله من هذه الحجرة ملاذاً غير دائم له ولأطفاله، حيث تعتبر حجرة للنوم في الشتاء ومطبخا في الصيف.
اصطحبنا عبدالله إلى ما يسميه «بيته»، وداخل هذا المنزل المتهالك، أشار إلى حجرة بلا سقف، مغطاة بطرابيل مهترئة لا تحمي من برد الشتاء أو تسرب مياه الأمطار. يصفها عبدالله تارة بمطبخ وتارة أخرى بحجرة نوم، بحسب تقلبات الطقس.
بجوارها، توجد حجرة مكشوفة أيضاً، سقفها السماء (بدون طرابيل)، يستخدمها عبدالله كدورة مياه للغسيل وتنشيف الملابس.
فيما الحجرة الوحيدة التي لاتزال تحتفظ بسقفها رغم انتهاء عمره الافتراضي، حيث يقول عبدالله: «ننام أنا وأطفالي في هذه الحجرة، خصوصاً في فصل الشتاء، لأنها الوحيدة التي لديها سقف. الأطفال لا يتحملون البرد في الغرفة المكشوفة».
مع دخول فصل الأمطار، تزداد مخاوف عبدالله على أطفاله، حيث يقول: «أخاف أن ينهار السقف فوقهم نتيجة تزايد الشقوق في السطح وتسرب المياه، ونضطر للنوم في الحجرة المكشوفة المطبخ، حيث نعاني من تسرب المياه عبر الطرابيل الممزقة».
بصوتٍ مليء بالأسى، يضيف عبدالله: «ليس هناك ملجأ آخر بديل نأوي إليه، إلى أين نذهب؟».
واحتراماً لمشاعره أحجمت عن تصوير منزل عبدالله واكتفيت بالاستماع لحديثه.
تعددت الأسماء والمأساة واحدة
أمجد، هو الآخر يقف أمام مسكنه المتهالك، حيث يختلط القلق والخوف في عينيه. يقول: «المنزل مهدد بالانهيار»، ويشير إلى الشقوق التي تزداد اتساعاً في الزوايا، وفتحات تسريب الماء التي تنذر بكارثة قريبة. متابعا: «بعد أن تهدم الجزء العلوي، هربنا إلى الدور الأسفل».
ويقول أمجد، محاولاً إخفاء مشاعر الخوف التي تسكن قلبه: «نحن مضطرون للبقاء هنا رغم الخوف الذي يسكننا، إلى أين نذهب؟ لن يستوعبك أحد».
ويواصل أمجد حديثه، محملاً رسالة مناشدة للجهات المعنية: «هذه الرسالة لا تتعلق بإنقاذ شخصي، وإنما تتعلق بإنقاذ عشرات الأسر العالقة في بيوت آيلة للسقوط والخراب».
كلماته تخترق الصمت، وتجسد معاناة سكان القرية الذين يعيشون في حالة من القلق الدائم خشية سقوط منازلهم وطمرهم تحت أنقاضها.
الكلمات وحدها تعجز عن نقل المأساة في قرية مذبح أو القرية القديمة أو الخرابة أو الخرائب فهي ذات أسماء عديدة لحقيقة واحدة لسكان يعيشون في رعب دائم وانعدام للأمن خوفا من انهيار منازلهم في أية لحظة، خصوصاً مع دخول موسم الأمطار.
قصص ومآس تتكرر سنويا في موسم الأمطار وتخلف رواءها خسائر في الأرواح.
فالكوارث دائمة الإقامة في القرية، فلا تكاد تبرح عنها مأساة إلا وتأتي أخرى. حكايات وأحداث مؤسفة يرويها الأهالي لصحيفة «لا» عن فقدان أقاربهم وذويهم، وعن انهيار هذا المنزل أو ذاك على رؤوس ساكنيه، أو عن نجاة أقربائهم بأعجوبة بعد أن طمروا تحت منازلهم.
وكأن شيئا لم يكن
رغم تكرار حوادث سقوط المنازل القديمة بسبب الأمطار في قرية مذبح وطمر الأرواح تحت أنقاضها، لم يجد سكان القرية أي لفتة حكومية حقيقية، باستثناء تلك التي أطلقها الرئيس المشاط في العام 2022 عقب انهيار عدد من المنازل على رؤوس سكانها، خلال زيارته للقرية المنكوبة، حيث وجه الرئيس حينها سكان القرية بافتراش مدرستي الحسن والحسين بن علي القريبتين للقرية المنكوبة.
لكن هذه الخطوة وباعتبارها تدبيراً مؤقتاً كان يفترض أن تليها خطوات أخرى تلبي الحد الأدنى لطموحات المنكوبين في الحصول على مأوى آمن.
وحينها كان يدرك السكان جيدا أن إقامتهم في المدرستين لن تدوم طويلا وستنتهي مع بدء موسم العودة إلى المدارس والذي يعني لهم موسم العودة إلى قريتهم المنكوبة لمواجهة ذات المخاطر التي نزحوا بسببها.
وهذا ما كان يدركه أيضا الرئيس المشاط وخلال اجتماعه بأمين العاصمة حمود عباد أصدر الرئيس المشاط توجيهات صارمة لأمانة العاصمة بشأن قرية مذبح، تقضي بتنفيذ جدران ساندة للمنازل المتضررة جراء الأمطار الغزيرة والسيول في المنطقة في أسرع وقت، ووضع المعالجات المناسبة لتصريف مياه الأمطار والسيول، بما يسهم في حماية منازل وأرواح المواطنين.
توالت الأيام وأحلام المشردين معلقة بتوجيهات المشاط والتي ذهبت أدراج الرياح ومعها أحلامهم بمأوى آمن لأرواحهم.
ومع دخول العام الدراسي كان على سكان القرية العودة أدراجهم ومواجهة المخاطر مجددا وكأن شيئا لم يكن.
موسم تساقط الضحايا والأمطار
غادرنا القرية محملين برسائل سكانها للجهات المعنية، ودعناهم وأعينهم القلقة صوب السماء تترقب أحوال الطقس، حيث بدأ موسم هطول الأمطار على بلادنا.
وهنا في قرية مذبح القديمة (الخرائب)، كلما تلبدت الأجواء بسحب الغيث تخفق القلوب بشدة، متمنية أن يمر اليوم على خير. لكن السكان يعرفون أن الوقت يداهمهم، وأنهم بحاجة إلى دعم فوري لإنقاذ أرواحهم التي تزهق بشكل موسمي بالتزامن مع موسم تساقط الأمطار والذي عادة ما يشهد سقوط ضحايا في القرية.
المصدر مارش الحسام / لا ميديا