عادل بشر / لا ميديا -
في صباح التاسع من آب/ أغسطس 2018، كان سوق مديرية ضحيان الشعبي في محافظة صعدة يعجّ بأصوات الباعة وضحكات الصغار، الذين تزاحموا حول حافلة تنتظرهم لتقلهم في رحلة ترفيهية تكريماً لهم عقب انتهاء الدورات الصيفية.
لوحت الأمهات بأيديهن، والآباء تنفسوا قليلاً من الراحة في يوم كانت رائحته تبشر بالحياة.
لكن في برهة، اخترق المشهد صوت طائرة حربية سعودية! تلاه وميض خاطف، ثم دوي انفجار هزّ الأرض؛ كأنَّ السماء سقطت من أعلى فضاء الله على أرض البشر دون إنذار مسبق.
صاروخ استهدف الحافلة، التي كانت تقل أكثر من 50 طفلاً، جميعهم أقل من سن 15 عاماً!
جثث تفحمت، وأخرى تمزقت أشلاءً!... آخرون وُجدت حقائبهم المدرسية ملقاة بجانبهم، كما لو كانوا سيعودون بعد قليل!
في لحظات، تحولت الضحكات إلى صرخات، والحقائب المدرسية إلى شواهد صامتة على جريمة هزت الضمير الإنساني.
اختلطت صيحات الباعة بصرخات الأمهات، وامتزجت رائحة الخبز الطازج برائحة الدم واللحم المتفحم.
مجزرة تفاخر بها تحالف العدوان، الذي تقوده السعودية والإمارات، على اليمن منذ آذار/ مارس 2016، ارتقى فيها 42 شهيداً ونحو 78 مصاباً، جُلهم ممن كانوا في الحافلة (37 طالباً و5 مدرسين) وعدد من أصحاب المحال التجارية والمواطنين.

الوجع يتكرر في غزة
اليوم، وبعد سبع سنوات على المجزرة، لا تزال صور تلك الوجوه الصغيرة محفورة في ذاكرة اليمنيين، لاسيما وهم يرون المشهد يتكرر أمامهم كل يوم، في غزة هذه المرة، حيث يعيش الفلسطينيون مأساة مشابهة. الغارات "الإسرائيلية" المدعومة من أمريكا ودول غربية، تتوالى على الأحياء السكنية، المدارس، المستشفيات... ليرتقي آلاف الأطفال شهداء خلال الشهور الماضية.
المشاهد القادمة من غزة الفلسطينية تكاد تطابق ما شهدته مديرية ضحيان بمحافظة صعدة اليمنية.
أطفال يركضون بين الدمار والأدخنة، أمهات يحملن أشلاء فلذات أكبادهن، والموت ينهمر من السماء صواريخ "إسرائيلية"، كما أتى يومها على ضحيان بصواريخ ما يسمى "التحالف العربي".
الناجون من مجزرة ضحيان، الذين كبروا سبع سنوات منذ ذلك اليوم، ما زالوا يحملون آثار الحروق والشظايا، تماماً كما سيحمل أطفال غزة الناجون جراحهم طيلة حياتهم. كلهم سيبقون شاهدين على أن الإفلات من العقاب يغري المجرمين بتكرار أفعالهم، وأن غياب المحاسبة يفتح الباب لمجازر جديدة.
وبدون خجل يعترف العدو "الإسرائيلي" بجرائمه ضد المدنيين في غزة، زاعماً أن صواريخه تستهدف "قيادات في حماس". وبالمثل كان "التحالف السعودي الإماراتي الأمريكي" قد أقر بجريمة استهدافه حافلة الأطفال في ضحيان، قائلاً إن الهجوم "وُجه ضد أهداف عسكرية".
المأساة والجريمة واحدة، وإن اختلفت الأسماء والجغرافيا. في اليمن كما في فلسطين، القاتل يمتلك أحدث الأسلحة، وتتصدر القنابل الأمريكية الفتاكة ترسانته العسكرية. والضحية طفل يحلم بحياة حرة كريمة على سيادة أرضه، دون حصار أو احتلال أو وصاية خارجية.

خذلان مستمر
السبت الفائت 9 آب/ أغسطس، صادف الذكرى السابعة لمجزرة العدوان الأمريكي السعودي بحق أطفال ضحيان، وهي المجزرة التي صنفتها الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية دولية بجريمة حرب ضد الإنسانية؛ ولكن هذه "الأمم" وقفت عاجزة عن اتخاذ أي إجراء ضد مرتكبيها.
مَرّت الذكرى السابعة لاستهداف "حافلة الملائكة" مرور الكرام، دون أي فعالية رسمية لإحياء ذكرى المجزرة، الأمر الذي اعتبره أهالي الأطفال الضحايا "خيبة وخذلاناً"، تضاف إلى خيبات وخذلان متواصل منذ حدوث المجزرة في آب/ أغسطس 2018.
عبدالعزيز الهدوي، والد طفلين من شهداء الغارة الأمريكية السعودية على حافلة ضحيان، قال لـ"لا" إن "اللامبالاة وعدم الاهتمام من قبل الجهات المختصة، في التعامل مع هذه المجزرة، مازال هو السائد للعام السابع توالياً".
وبنبرة حزينة تسللت عبر هاتفه اللاسلكي، خلال الاتصال الذي أجريناه معه، أمس، أكد الهدوي أنه، حتى الآن، لم يتم اعتماد الشهداء الأطفال وعددهم 37، في سجلات الشهداء، لأسباب يجهلها أهالي الضحايا.
وجدد الهدوي، بلسان جميع أهالي الضحايا، مناشدة سيد الجهاد والمقاومة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، توجيه الجهات المختصة باعتماد الأطفال الضحايا شهداء والاهتمام بأسرهم وبالأطفال الجرحى.
وكان ممثل أهالي شهداء وجرحى حافلة ضحيان، زيد حسين طيب، قد أكد لصحيفة "لا" أن الجهات المختصة "لم تعتمد أيّاً من الأطفال الشهداء ضمن قوائم الشهداء، بينما اعتمدت المدرسين الخمسة الذين كانوا رفقة الأطفال".
وقال زيد طيب، وهو أيضاً أب لثلاثة أطفال شهداء في الجريمة ذاتها: "سبق أن ناشدنا قائد الثورة وقيادات الدولة، عبر صحيفة "لا" في الذكرى الثالثة والذكرى الخامسة للجريمة، احتساب الأطفال شهداء الحافلة ضمن كشوفات شهداء الوطن، وقلت حينها إن قدمي قد حفيتا ذهاباً وإياباً الى مؤسستي الشهداء والجرحى للمطالبة بالاهتمام بأسر الشهداء والتعامل معهم باعتبارهم جميعاً شهداء، دون تمييز بين شهيد وآخر، وكذلك رعاية الجرحى ومد يد العون لأسرهم، نظراً لحالتهم المادية الصعبة؛ لكن لم أجنِ أي فائدة".
كما أفاد "لا" مصدر في دائرة الجرحى في محافظة صعدة، بأن معظم الأطفال الجرحى تم العناية بهم، من خلال إشراك بعض المنظمات التي تكفلت بعلاج ورعاية عدد ممن كانت جراحهم خطيرة، لافتاً إلى أن إدارة الجرحى "تُقدم ما تستطيع وفق الإمكانات المتاحة لها".

أشلاء مجهولة
لم يتوقف الخذلان عند عدم اعتماد الأطفال الضحايا ضمن كشوفات شهداء الوطن، بل إن بعض أشلاء الأطفال الشهداء لا تزال حتى اليوم في ثلاجة مستشفى الطلح، ولم يتم دفنها.
"لا" تواصلت، أمس، مع مدير مستشفى الطلح العام بمديرية سحار في صعدة، الدكتور محمد الخطيب، وأكد أن كمية من الأشلاء لجثث لم يتم التعرف عليها، ما زالت في ثلاجة المستشفى، لافتاً إلى أن المستشفى سبق أن تلقى مذكرة من النيابة بدفن هذه الأشلاء، إلا أنه لم يأتِ أحد من النيابة والجهات المختصة لاستلام الجثث واستكمال إجراءات الدفن.
جدير بالذكر أن بعض القبور في روضة شهداء الحافلة مازالت حتى اليوم "فارغة من أصحابها الملائكة الصغار"، حيث تم وضع شواهد بأسماء وصور الأطفال المفترض أن تحتويهم تلك اللحود، إضافة إلى ثلاثة قبور مفتوحة تنتظر جثثها، وقبر لا يزال صاحبه مفقوداً وتم دفن "كوته" (المعطف) الذي كان يرتديه، بدلاً من الجثمان، وطفل آخر لم يُعثَر سوى على قدمه، فدُفنت القدم فقط.

مطالب الأهالي
مطالب أهالي "أطفال الحافلة" هي ذاتها لم تتغير على مدى سبع سنوات، وتتركز في "اعتماد الشهداء ضمن قوائم شهداء الوطن، رعاية وعلاج الجرحى، إجراء فحص حمض DNA للجثث والأشلاء التي مازالت في ثلاجة مستشفى الطلح ودفنها، الاهتمام بروضة الشهداء من خلال بناء سور مرتفع ووضع شواهد صخرية للقبور، شبكة ري بالتقطير لري الورود، الحفاظ على الحافلة (أداة الجريمة) الملقاة عند بوابة المقبرة وقد أوشكت على الهلاك تحت الشمس والرياح، وإقامة معرض دائم لصور الشهداء الأطفال وعرض مقتنياتهم في المساحة الفارغة أمام الروضة".
عام بعد آخر وحكومة تعقب أخرى، وما تزال مطالب أهالي الأطفال ضحايا المجزرة الأمريكية السعودية في ضحيان بمحافظة صعدة لا تلقى سمعاً من ذوي الاختصاص، وكأن من طحنتهم القنبلة الأمريكية صباح التاسع من آب/ أغسطس 2018، كانوا مجرد أرقام خارج تعداد الإنسانية.
وبين ضحيان اليمنية وغزة الفلسطينية، يمتد خيط من الدم والخذلان، يروي حكاية صمت عالمي طالما تجنب النظر في عيون الضحايا.