شقق على ورق.. حين يتحول حُلم السكن إلى فخٍ للاستغلال .. مدخرات العُمر في مهب النصب العقاري!
- تم النشر بواسطة بشرى الغيلي/ لا ميديا

تحقيق: بشرى الغيلي / لا ميديا -
لم يعد حُلم امتلاك شقة يمثل الاستقرار المنشود لكثير من المواطنين، بل تحول لدى البعض إلى كابوس ثقيل، بعدما وجدوا أنفسهم ضحية لمشروعات وهمية ووعود براقة سرعان ما تبخرت، فبعض الشركات والمقاولين استغلوا حاجة الناس للسكن، ليبيعوا لهم شققًا على الورق مقابل مدخرات أعمارهم بل ووصل الأمر إلى أن يضطر كثيرون لبيع مجوهرات زوجاتهم، ليكتشفوا في النهاية أن الشقق التي انتظروها لم تكن سوى عبء جديد يضاف إلى همومهم، إنها معاناة تتطلب تدخلًا جادًا من الجهات المختصة لوقف نزيف استغلال المواطنين، وحماية ما تبقى من ثقة في سوق العقار، رغم أن المواطن ذا الدخل المحدود يحتاج لمثل هذه المشاريع في حال توفرت لديه الإمكانيات ليستقر في بيتٍ خاص به وينهي هموم السكن، لكن يبدو أن أصحاب تلك المشاريع ليسوا أهلا لكسب ثقة المواطنين، ولكي يكسبوا ثقتهم يحتاجون إلى شفافية التعامل لضمان نجاح تلك المشاريع.. الكثير من القصص والتجارب ضمن تحقيق (لا)، فكونوا مع السياق.
شقة بيعت مرتين
بعد 15 عامًا من الغربة عاد عبدالله الحاج إلى صنعاء ليشتري شقة في حدة الجديدة، دفع 45 مليون ريال وهو يظن أنه يضع نهاية لمعاناة الإيجار.. يقول عبدالله: «كنت أظنها بداية استقرار حياتي.. لكن سرعان ما تحولت إلى كابوس».
بعد أسابيع فقط، ظهرت أسرة أخرى تحمل عقدًا رسميًا للشقة نفسها، النزاع ما زال في المحاكم، بينما عبدالله يعيش بالإيجار من جديد.
يختم بمرارةٍ: «لقد ضاع جهد عمري كله، وحتى تكاليف المحامي لا أستطيع دفعها».
حلم لم يكتمل
خلف أحد المطاعم بالعاصمة صنعاء يقف مجمع سكني نصف مبني يروي خيبة عشرات الأسر.. سامي المذحجي (موظف في شركة اتصالات) كان يحلم ببيت صغير يلم شمل أسرته عام 2019 وثق بالوعود التي حددت تسليم الشقق خلال عام واحد فقط.. باع سامي قطعة أرض ورهن ذهب زوجته، ثم وقّع العقد بثقة.
يقول سامي: «انتظرنا أربع سنوات، في البداية أعذار عن نقص المواد والأوضاع الأمنية، ثم فجأة اختفى صاحب المشروع».
اليوم يقف سامي أمام مبنى نصف منجز، أمواله عالقة في الأسمنت، بلا شقة ولا قانون ينصفه. ويختم :»كل ما نملكه ضاع بين الأعمدة.. لا وعد صادق ولا حل منصف».
فخ كبير
محمد العولقي (موظف من ذوي الدخل المحدود) ظن أنه حقق حلم العمر حين اشترى شقة في أحد الأبراج السكنية بعد أن باع أرضًا، ورهن ذهب زوجته. يقول: «دفعت 65 مليون ريال وكنت أرى أنني أخيرًا سأستقر مع أسرتي. لكن الواقع كان صادمًا؛ البلاط يتكسر، الجدران تتشقق، والمياه تتسرب للغرف».
يضيف: «المصعد يتعطل باستمرار، والكهرباء والمياه تكلفنا أكثر من راتبي».. بعد ثلاث سنوات لم يجد محمد في شقته سوى المعاناة، «البيت الذي حلمت به تحول إلى فخ كبير يطاردني وأسرتي».
مواصفات سيئة
يروي عبدالرحمن الوزير تجربته مع شقة اشتراها قبل أربع سنوات ظنًا أنها ستكون ملاذًا من الإيجار، لكنها تحولت إلى مصدر معاناة.. يقول: «دفعت أكثر من 120 ألف دولار، بعت سيارتي واستلفت من إخوتي، لكن منذ اليوم الأول ظهرت الصدمة، تشطيبات رديئة، جدران متشققة، سباكة متسربة ودهان يتساقط».
يضيف: «المفاجأة الكبرى كانت في الأرض التي تبين أنها مملوكة للأوقاف، وأصبحت مطالبًا بإيجار سنوي رغم أنني دفعت ثمن الشقة».
يستطرد الوزير قصته المأساوية التي تحولت إلى همٍ يومي: «رسوم للمصعد والحراسة والنظافة، كهرباء تجارية بأسعار مرهقة، ومياه عبر وايتات تلتهم نصف راتبي».
غش لا يرحم
وجد مازن المتوكل نفسه ضحية شقة جاهزة اشتراها قبل ثلاث سنوات، يقول: «فرحت يوم الاستلام، الجدران ناصعة والشقة شكلها مرتب، لكن سرعان ما انقلبت الفرحة.. الرنج تساقط، الرطوبة غزت كل زاوية، والمطبخ والحمام يفيضان بالتسريب، ومع أول مطر سقف غرفة النوم يوطل كأني في الشارع».
ويحذر المتوكل: «اللي يشتي بيت، يبني بنفسه ويشرف على كل خطوة، غير كذا بيكون ضحية غش لا يرحم».
وجع رأس لا ينتهي
عادل السنيدار يروي لـ»لا» كيف تحولت شقته الجديدة من حلم إلى متاعب يومية: «أول ما دخلت الشقة كنت فرحان، قلت خلاص ارتحت من الإيجار، لكن من أول أسبوع ظهر الوجه الثاني للحلم».
يشير أيضا إلى جوانب مهمة كإزعاجات الجيران: «كنت جالسا مع أولادي وإذا بجاري فوقي يصرخ على زوجته، صوته يدخل بيتي كأنه جالس بيننا، ثم جاءت مشكلة المصعد، توقعت أننا نتشارك في إصلاحه، لكن الكل تنصل بقينا نصعد سبعة طوابق شهراً كاملا حتى صلحوه بفلوس مضاعفة».
يضيف السنيدار بأنه عند نزول المطر يمتلئ سقف مطبخه بالماء، وحاول أن يشتكي للجيران لكنه فوجئ أن الكل تبرأوا، «حتى السطوح، طلعت أنشر ملابس أولادي، تفاجأت بجاري يصرخ: السطح لي مش لكم.. صارت العمارة كأنها محكمة مفتوحة».
وفي النهاية يقول عادل: «ما اشتريت استقرار، اشتريت وجع رأس لا ينتهي».
أكبر صفعة في حياتي
«أكبر صفعة في حياتي كانت يوم قررت أشتري لي شقة قلت لنفسي: أخلص من الإيجار وأستقر، جمعت تحويشة العمر، بعت ذهبي، وحتى المبلغ اللي خبّأته لأيام الشدة سلمته لهم، وأنا واثقة أنهم أصحاب سمعة ومشاريع معروفة»، هكذا بدأت أم سلسبيل القباطي قصتها.
تضيف: «الأوراق كانت جاهزة والوعود مطمئنة، تسليم خلال سنة، بناء فاخر وخدمات متكاملة، صدقت كل شيء وجلست أحلم باليوم الذي أدخل فيه شقتي وأفرشها لأولادي»، لكن أحلامها سرعان ما انهارت، تقول القباطي: «مرّت السنة الأولى والثانية والثالثة، ولا شقة ولا حتى حجر، وكلما راجعت مكاتبهم، كانوا يردون بعبارات مطمئنة: قريب، الأمور ماشية، وآخر ما سمعته أنهم هربوا خارج البلاد وتركوا الناس يواجهون مصيرهم».
وتختم حديثها بوجع واضح: «الآن أعيش بالإيجار، أموالي راحت، وقلبي موجوع من القهر، لا أتمنى لأحد يعيش اللي عشته.. حسبي الله ونعم الوكيل عليهم»!
من القلق إلى الطمأنينة
كل القصص التي بدأ بها هذا التحقيق معظمها سلبية وتلقى أصحابها خيبات أمل، لكن القصة التالية التي ترويها هناء العريقي عكس ما سبق تماما، التي ردت على سؤالنا عن تجربتها في شراء شقة في أحد الأبراج السكنية، اعترفت أنها في بدايةِ تجربتها كانت قلقة جدا خاصة بعد سماعها التحذيرات المتكررة حول مشاكل التمليك، ومع مرور أربع سنوات، تغيّرت الصورة لديها تماماً، إذ تؤكد أن الخدمات متوفرة والعمل منظم داخل العمارة، تقول العريقي: «اليوم أقول الحمد لله أنا مرتاحة واختياري كان في محله».
أما ما واجهته من تأخير بسيط في بعض التشطيبات، فتؤكد أنه عولج مع الوقت.
تجار الوهم
في أروقة المحاكم وأمام مكاتب المحامين، تتكرر قصص الضحايا الذين وقعوا في فخ شركات عقارية وهمية في تحقيقنا هذا، نروي قصة أحدهم الذي اختصر معاناته بجملة واحدة: «كل ما جمعته في عشرين عامًا تبخر في لحظة».
محمد علي الحمّودي (موظف) قضى أكثر من عقدين متنقلاً بين المستشفيات، محرومًا من أبسط رفاهيات الحياة، يقول: «كنت أحلم فقط بقطعة أرض أو شقة صغيرة تؤويني أنا وأولادي».
وعندما اكتمل المبلغ، توجه إلى إحدى المؤسسات التي أغرته بالإعلانات والوعود، يضيف: «دفعت وأنا مطمئن أنني أؤمن مستقبل أسرتي، لكن سرعان ما اكتشفت أن الشقة والأرض لم تكونا سوى سراب، ووجدت نفسي أمام واقع قاسٍ.. الفلوس راحت، والحلم صار كابوسا بين المحاكم».
ومع كل جلسة جديدة تتضاعف خيبته ليس فقط لخسارة ماله بل لانكسار الثقة التي بنى عليها مستقبله.
ويختم الحمّودي بصوت يغلبه الإصرار: «لن أسكت، حقي سأسترده، وصوتي سيبقى تحذيرًا لكل من يحاول أن يسلم عمره لتجار الوهم».
غياب نظام تسجيل عقاري
تزدحم المحاكم بقضايا بيع شقق التمليك، إذ كثيرًا ما تُباع الشقة الواحدة لأكثر من شخص، في ظل غياب نظام تسجيل عقاري عصري، القاضي عبدالوهاب الشرفي يتحدث من ناحيةٍ قانونية: «المشكلة أن السجل العيني العقاري المنصوص عليه في القانون رقم 39 لم يُفعّل، هذا القانون ألزم بفتح صحيفة مستقلة لكل شقة وربطها بمخطط هندسي، وجعل التسجيل شرطًا لانتقال الملكية، لكن ما يجري في الواقع أن الناس ما زالوا يعتمدون على عقود شخصية يمكن تكرارها أو تزويرها».
في الواقع العملي يجد القضاة أنفسهم أمام دعاوى متكررة لشقق بيعت أكثر من مرة، «القضاة لا يجدون أمامهم سوى مقارنة الأوصاف، المساحة، الموقع، الحدود، المحكمة العليا نفسها في 2016 أرست قاعدة تقول إذا اختلفت التسمية، فلا بد من تطابق الحدود»، غير أن الاعتماد على هذه الأوصاف اليدوية -كما يؤكد- مجرد حل بدائي، لا يمنع التضارب ولا يحسم النزاعات جذريًا.
من الناحية القانونية أيضا يوضح الشرفي أن ملكية المشتري لا تقتصر على الشقة وحدها، «لكنه أيضًا شريك في الأرض، السطح، الجدران الحاملة، والمرافق العامة مثل المداخل والمصاعد».
ويختتم القاضي الشرفي حديثه قائلاً: «المشتري محمي بالقانون، لكن الحماية تبقى ناقصة ما لم يُفعل السجل العيني، الحل الوحيد هو إنشاء قاعدة بيانات وطنية تمنح كل شقة رقمًا عقاريًا فريدًا وتُقيد فيه جميع التصرفات، عندها فقط يمكن إنهاء النزاعات وحماية الحقوق».
لن نسمح للإعلانات المضللة أن تخدع الناس
في خضم التوسع العمراني المتسارع الذي تشهده صنعاء، تبرز شقق التمليك كأكثر الملفات إثارة للجدل بين المواطنين والمطورين العقاريين، عشرات القصص تتكرر لمشترين يستلمون شققًا ناقصة أو بمواصفات مخالفة تمامًا لما وُعدوا به، لتطرح هذه الفوضى سؤالًا جوهريًا: أين هي الجهات المختصة من كل ذلك؟
المهندس أبو عبدالكريم المتوكل -من مكتب الأشغال بأمانة العاصمة- يوضح لـ(لا)، أن دور المكتب لا يقتصر على منح تراخيص البناء، بل يمتد لمتابعة المشاريع خطوة بخطوة، حتى لحظة تسليم شهادة الأشغال.. ويقول: «نحن نفحص سلامة المباني، نراجع المخططات، ونتأكد من جاهزية المرافق الأساسية من مصاعد وبيارات وشبكات المياه والكهرباء قبل السماح بالسكن».
لكن التحدي الأكبر -كما يقول المتوكل- يكمن في شقق التمليك تحديدًا، حيث يلجأ بعض المطورين لتسليم العمارات دون استكمال الفحوصات الفنية، أو حتى من دون متابعة رسمية، ليجد المواطن نفسه أمام واقع مرير.
ويضيف: «حين نرصد مخالفة، نتدخل ميدانيًا ونوقفها فورًا، لأن حماية المواطن مسؤولية الدولة قبل أي طرف آخر».. ويشدد المتوكل على أن الرقابة لم تعد ترفًا، بل ضرورة ملحة، لذا «لن نسمح للإعلانات المضللة أن تخدع الناس، ولن نتهاون مع أي مطور يبيع الوهم للمواطنين».
عبء هندسي
من جانبه تحدث لـ(لا) المهندس ماجد العواضي عن أبرز مشكلات البناء في الأبراج السكنية، معتبرًا أن ما يجري «أقل بكثير من الحد الأدنى للهندسة الجيدة.. التشطيبات غالبًا تُنفذ قبل اكتمال التجفيف، فتظهر التشققات وتتجمع المياه في المطابخ والحمامات بسبب سوء الميول.. ويمثل العزل المائي الحلقة الأضعف، حيث لا تُجرى اختبارات غمر ولا تُحمى طبقات العزل، فيحدث تسرب وتآكل للحديد، أما التمديدات الميكانيكية والكهربائية، فتستخدم فيها مواد تجارية بلا عزل أو تأريض، فتكثر الانسدادات والتسريبات، وتسخن الكابلات وتزداد مخاطر الشرر».
يحذر العواضي من مخالفات خطيرة إنشائياً، ومنها «تُقلل سماكات البلاطات والحديد، وتُحذف جدران القص، ما يجعل المبنى هشًا عند الاهتزاز.. كما أن العزل الصوتي والحراري شبه غائب، والسلامة ضد الحريق شكلية بلا اختبار فعلي».
ناقوس خطر
نخلص في نهاية هذا التحقيق إلى أن الواقع والقصص التي وردت تكشف عن حقيقة مُرّة يعيشها كثير من المواطنين الباحثين عن (شقة العمر) في صنعاء حيث تحوّل حلم التمليك إلى كابوس من الخديعة والاستغلال، فبينما يضع الناس جهد أعوام ومدخرات العمر بين يدي شركات أو سماسرة، ويجدون أنفسهم ضحايا عقود مزيفة ووعود كاذبة.. إن هذه الظاهرة لا تمثل مجرد حالات فردية، بل هي ناقوس خطر يستدعي وقفة جادة من الجهات الرسمية لحماية حقوق المواطنين، وتشديد الرقابة على سوق العقارات، ووضع تشريعات صارمة تمنع تكرار مثل هذه المآسي. فحلم امتلاك بيت آمن يجب أن يبقى حقاً مشروعاً، لا مصيدةً لنهب أموال البسطاء.
المصدر بشرى الغيلي/ لا ميديا