عادل بشر / لا ميديا -
يواصل الإعلام الغربي تسليط الضوء على مشهد الفوضى الأمنية في الجغرافيا المحتلة جنوب وشرق اليمن؛ ولكن هذه المرة ليس بوصفها أحداثاً معزولة أو نتاج تباين في الرؤى أو اختلاف في أساليب إدارة الملفات بين قوى العدوان على اليمن ممثلة بالسعودية والإمارات، بل باعتبارها انعكاساً لتحول أعمق في بنية الصراع الإقليمي، وتحديداً داخل البيت الخليجي نفسه، حيث يتصارع "المحمدان" (محمد بن سلمان ومحمد بن زايد)، من أجل الهيمنة، لاسيما في ظل تعمق الأخير في علاقاته مع الكيان الصهيوني والعمل جلياً على توسيع نطاق "اتفاقيات أبراهام"، وهو ما جعل حاكم الإمارات "يفرد عضلاته" على ولي العهد السعودي، الذي يرى أنه الأولى بقيادة المنطقة.
هذا المشهد يجد تفسيره الأوسع في ما كشفته صحيفة "ذا كريدل" الأمريكية، التي تناولت الخلاف السعودي–الإماراتي بوصفه صراعاً استراتيجياً مكتوماً على قيادة الخليج، خرج تدريجياً من الغرف المغلقة إلى ساحات الاشتباك بالوكالة، من السودان إلى البحر الأحمر، وصولاً إلى اليمن، الذي بات إحدى أكثر الساحات حساسية في هذا الصراع.
ونشرت "ذا كريدل" تقريراً مطولاً بعنوان "هل يعيد الخلاف السعودي-الاماراتي هندسة التحالفات الخليجية؟"، أفادت فيه بأنه "خلف قناع المجاملات والمصافحات الرسمية، تتصاعد حرب نفوذ صامتة بين الرياض وأبوظبي لتخرج تدريجياً إلى العلن. فما بدأ قبل نحو تسع سنوات بصداقة شخصية بين محمد بن سلمان ومحمد بن زايد، يتحول اليوم إلى صراع على السيطرة وملء الفراغ الذي خلفه تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقة".
بحسب التقرير، لم تعد العلاقة بين الرياض وأبوظبي محكومة بمنطق التحالف المتماسك، بل دخلت طور التنافس المُدار، إذ تسعى كل دولة إلى تعظيم نفوذها الإقليمي، حتى وإن جاء على حساب الشريك المفترض. وفي اليمن، يظهر هذا التنافس بوضوح من خلال التمدد الإماراتي المتسارع عبر مليشياته المحلية، مقابل ارتباك سعودي واضح في إدارة المشهد، ومحاولات متأخرة للاحتواء دون الانزلاق إلى مواجهة مباشرة.
وأوضح التقرير أن الإمارات فرضت واقعاً ميدانياً جديداً في المحافظات المحتلة، وأبرزها حضرموت والمهرة وعدن وشبوة، متجاوزة بذلك الأدوار التي رُسمت لها ضمن تحالف العدوان على اليمن، وانتقلت إلى السيطرة على مفاصل أمنية وعسكرية وموانئ استراتيجية، مشيراً إلى أن هذا التمدد لا يمكن فصله عن الاستراتيجية الإماراتية الأوسع، القائمة على إحكام السيطرة على الشريط الساحلي والمنافذ البحرية وخطوط التجارة، بما يمنح أبوظبي أوراق ضغط إقليمية تتجاوز الساحة اليمنية نفسها.
في هذا السياق، يبرز ما يسمى "المجلس الانتقالي الجنوبي" بوصفه الأداة الأهم في المشروع الإماراتي جنوب اليمن. فـ"المجلس" لم يعد مجرد فصيل مرتزق محلي يرفع شعارات انفصالية، بل تحول إلى ذراع تنفيذية لمشروع إقليمي، يتحرك ضمن هامش سياسي وأمني مرسوم بدقة من أبوظبي. غير أن الأخطر في هذا المسار هو تنامي العلاقة بين "الانتقالي" والكيان "الإسرائيلي"، في إطار تنسيق متدرج وممنهج بإشراف إماراتي مباشر.
وتؤكد المعطيات أن العلاقة بين "الانتقالي" و"إسرائيل" لم تعد مجرد تسريبات إعلامية أو لقاءات هامشية، بل دخلت طور التنسيق السياسي والأمني غير المباشر، خصوصاً في الملفات المرتبطة بالموانئ والجزر والممرات البحرية، وهو ما ينسجم مع الدور الصهيوني المتنامي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي، عبر شراكات وثيقة مع الإمارات، تهدف إلى إعادة رسم خرائط النفوذ البحري، وتقليص الاعتماد على الممرات التقليدية، وتعزيز السيطرة على نقاط الاختناق الاستراتيجية.
وتشير "ذا كريدل" إلى أن "المحور الإماراتي– الإسرائيلي" بات أحد أبرز أدوات إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، لاسيما في المناطق الساحلية. وفي اليمن، يتجلى هذا التقاطع في السعي للسيطرة على الموانئ الجنوبية، وتحويلها إلى نقاط ارتكاز لمشاريع أمنية واقتصادية تتجاوز السيادة اليمنية، وتخدم أجندات إقليمية ودولية ضمن مشروع صهيوني- غربي متكامل.
وأوضحت أن التطورات الجارية تكشف عن "محورين غير معلنين يتشكلان بوضوح: الأول تقوده الإمارات بالشراكة الوثيقة مع إسرائيل؛ إذ تحول إلى أداة فعلية لإعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، لاسيما في البحر الأحمر والقرن الأفريقي. تعمل الإمارات، بدعم إسرائيلي مباشر أو غير مباشر، على تطوير مسارات تجارية وموانئ ونقاط نفوذ تقلّل الاعتماد على الممرات التقليدية. هذا التمدد لا يقتصر على الاقتصاد، بل يتقاطع مع ملفات أمنية في السودان واليمن، حيث تُستخدم السيطرة على الموانئ والمناطق الساحلية كورقة ضغط إقليمية".
في المقابل، يتبلور تقارب سعودي– قطري متدرّج، تغذيه المخاوف المشتركة من الاندفاع "الإماراتي– الإسرائيلي". وترى "ذا كريدل" أن السعودية تبدو في موقع أقل اندفاعاً، وأكثر حذراً، إذ تعتمد الرياض مقاربة مختلفة تقوم على إدارة النفوذ عبر الحكومات الضعيفة، والوساطة السياسية، والتحالفات المرنة، بدلاً من فرض السيطرة المباشرة. غير أن هذه المقاربة اصطدمت في اليمن بواقع ميداني فرضته الإمارات عبر أدواتها، ما وضع السعودية أمام معضلة حقيقية؛ إما القبول بالأمر الواقع، وإما البحث عن تحالفات مضادة لكبح التمدد الإماراتي.
ضمن هذا الإطار، وفقاً للتقرير، يُقرأ التقارب السعودي– القطري الأخير كجزء من إعادة تموضع سعودية أوسع داخل المنظومة الخليجية. فالقمة التي جمعت محمد بن سلمان والشيخ تميم بن حمد مؤخراً، وما نتج عنها من اتفاقيات دفاعية واقتصادية، لا تنفصل عن إدراك سعودي متزايد أن الإمارات باتت تمثل منافساً مباشراً على قيادة الخليج، لا شريكاً يمكن الركون إليه. ويُنظر إلى هذا التقارب كرسالة مزدوجة، أولاً لأبوظبي، وثانياً لواشنطن، مفادها أن الرياض قادرة على إعادة ترتيب تحالفاتها متى ما اقتضت مصالحها ذلك.
وبحسب "ذا كريدل" فإن هذا التحرك السعودي لا يزال محكوماً بسقف "التنافس المُدار"، الذي تحدده المصالح الأميركية، إذ لا تزال الولايات المتحدة تمسك بخيوط اللعبة، وتحرص على منع انفجار الخلاف الخليجي إلى قطيعة شاملة، مستفيدة من تناقضات الحلفاء للحفاظ على نفوذها الإقليمي. لكن هذا الضبط لا يمنع استمرار الصراع بالوكالة، ولا يحد تداعياته على الساحات الهشة، وفي مقدمتها المحافظات اليمنية المحتلة والواقعة خارج سيطرة سلطات صنعاء.