على ضوء صواعق ولهب الحنين تدلف الكاتبة قبو الحقبة المنسية وتهبط سلالمه المجدولة بغزل العناكب وصولاً إلى لحظة سحيقة من العام 1922م، لتبدأ رحلتها من أريكة أمها المحتضرة، مبحرة في خضم مآتم وأعراس ودموع وزغاريد ودماء وقصص حب ومؤامرات ومسامرات عائلية حميمة ودواوين شعر ودواوين حكم وأصوات مزاهر وفحيح أفاعٍ وأبهاء ملكية وسجون وولادات وإعدامات وانقلابات ومكائد حريم ونزوح وجوازات سفر و... منفى!
إنها كتابة اجتماعية (نوستولوجية) تحت سماء حمراء محتدمة بالصراع وحافلة بالأحداث، لا تخلو من زخات فرح تعشب قرنفلات حزن على امتداد رحلة شاسعة الوحشة، تطيح خلالها تقية بنت الإمام يحيى حميد الدين، بالصور المثالية الراسخة في أذهان كثيرين عن (الثورات الثلاث 48، 55، 1962م)، الواحدة تلو الأخرى، دون أن تتعمد الإطاحة بها، ودون تخطيط مسبق..
كتاب مغاير مخيف لا يقرأه أصحاب الضمائر الضعيفة وعديمو النخوة.. نضعه بين يدي القارئ على حلقات، إيماناً منا بأن فتح الجروح القديمة وتنظيفها أسلم لعافية أجيالنا من مواربتها وتركها تتخثر.


لم تكن الغرفة (عفواً خيمة) الدراسة خاصة بي؛ فقد زاملني في مدرسة السطوح ـ كما كان يحلو لنا أن نسميها ـ بنات الوالد حسين عبد القادر وبنات العم شريف عبد القادر، وكانت مُدرستنا الأولى المرحومة لطيفة بنت شوشة، وكان درسنا الأول في القراءة والكتابة؛ حروف الهجاء ونطقها، وقراءة سور قصيرة من القرآن الكريم نرددها بعد تلاوة مدرستنا ذات الصوت الجميل الرخيم.
مدرستنا كانت طيبة تعاملنا بلطف، تمضي وقتاً طويلاً في تعليمنا، وتهتم بمراقبة كتابة كل واحدة منا، وأما دروسنا فكانت دروساً في الصباح وأخرى في المساء، فالدراسة على فترتين تماماً كما في المدارس الحكومية الأخرى التي كان يوليها والدي كل الاهتمام.
لا زلت أكتنز الكثير من الذكريات الجميلة عن مدرستي الأولى وزميلاتي الأول، وخاصة عندما نلعب نط الحبل أو الغماية. وقد غمرتنا السعادة، وفرحنا وهللنا عندما رأينا خالي العظيم وهو يشرف بنفسه على تركيب أرجوحة لنا في حوش داره، ومكافأة لنا على حسن تقدمنا في الدراسة، ولانشراح صدره من التقارير اليومية التي تقدمها إليه مدرستنا وجدِّنا واجتهادنا، فكان نصب الأرجوحة في حوش الدار خوفاً علينا من وقوع مكروه لو كانت على سطح الدار.
تبادلنا التمرجح بالدور وقت راحتنا بين الدروس، وكنت ألعب الأرجوحة بمهارة فائقة، أرتفع وأعلو قاعدة وواقفة، مما كان يثير إعجاب زميلاتي ومدرستي، وحتى أسرة خالي، وعلى الأخص والدتي الحنونة.
كان والدي يرحمه الله بعد أن عرف قصة الحذاء الحريمي، وكيد صواحب يوسف، قد كتب رسالة إلى والدتي بعث بها مع عسكري يطلب إليها العودة، وتجاوز ما حصل، ولكن الوالدة لم ترضَ، وظلت على كبريائها.
وذات يوم وصل رسول من قبل الوالد الإمام أبلغ خالي بأن الإمام زعلان، لأن تقية تلعب في الطريق العام خارج المنزل، وأنني وزميلاتي نتقاذف الحجارة مع الأخريات، ولا أدري إن كانت وشاية من أحد الذين اعتادوا ريادة مقيل خالي، أو أن والدي أراد به تجريب طريقة أخرى لإقناع والدتي بالعودة والمراجعة, فقد اقترح والدي عودتنا إلى دار السعادة، ولكن والدتي ظلت على امتناعها لكونها مطلقة، وعليه فقد أعطانا الإمام بيتاً مستقلاً، وهو بيت معيض في حي الأبهر. وقد جهز بالسجاد ومراتب النوم والمساند واليراقين والمخدات، وانتقلنا إليه، والدتي وأنا والخادمة والمربية، والخال هو المشرف علينا وعلى تدبير شؤوننا.
ولم يمضِ علينا في بيت معيض قرابة العام إلا وعاود الوالد الإمام الإلحاح على والدتي بالانتقال إلى دار السعادة، وأن هذا اختيار وترحيب من جميع الأسرة، وعدنا إلى دار السعادة، وكان الترحيب حاراً من كل أفراد الأسرة رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً، الضرائر وغيرهن، وللحقيقة فإن والدتي كانت مرتاحة.
أذكر أن والدي الإمام قال لي: لقد طلبت لك يا تقية أحسن مدرسة درست عند أبيها العلامة الفاضل عبد الله الخياري، وغداً ستكون عندك. وفعلاً وصلت وبدأت الدراسة في غرفة مجاورة لغرفتنا، وكان يدرس معي اثنيتان من أخواتي ومن زوجات إخوتي.
كانت أستاذتنا فاضلة متقنة لقراءة القرآن الكريم وتعليمه، ذات صوت حسن وقدرة عجيبة على تبسيط تفسير الآيات، وتروي لنا القصص بأسلوب مشوق، وتحكي لنا الحكايات المسلية. أما مربيتي فاطمة من بيت الشمسي فكانت تشرف على آداب سلوكي، وكيفية حسن حديثي بكل تهذيب وكياسة واحترام، وتنظر في لباسي وطعامي وآدابه، وحتى نظافتي، برعاية تامة من والدتي.
كانت مربيتي واحدة من أفراد أسرتي الكبيرة، وحين تزوجتْ من السيد أحمد بن حمود الشمسي المؤذن الخاص بالمقام في دار السعادة، شعرتُ بغيابها فعلاً، رغم أنهم عوضوني عنها بالأم فازعة، وكانت لا تقل عنها طيبة وإخلاصاً.
في إجازتي المدرسية يومي الخميس والجمعة كانت بعض بنات الأتراك ـ ممن فضلوا البقاء في اليمن ورحب بهم الإمام ليعملوا كخبراء في الدولة اليمنية المستقلة ذات السيادة ـ يأتين لزيارتنا، ومنهن بنات القمندار إسماعيل؛ سميحة ومليحة، وبنات القاضي محمد راغب؛ وهيبة وعزيزة، وشاءت الأقدار أن تصبح عزيزة زوجة لأخي قاسم، وبنات خورشيد؛ بهية وسنية. كنا نمضي وقتاً طيباً ممتعاً نلعب نطة الحبل، أو نسبح في مسبحنا، وشعرت والدتي بحبي للسباحة وأني لا أجيدها، ولما كدت في إحدى المرات أغرق استدعت والدتي مؤمنة، وكانت تتقن السباحة، وتمنت عليها أن تعلمني السباحة خلال أسبوع، ولها خاتم ذهب هدية، وبالفعل فقد أتقنت السباحة خلال المدة، وكنت أشعر بسعادة غامرة ووالدتي تنظر إليَّ بفرح وأنا أعوم وأسبح.
ومؤمنة هذه يمنية هداها الله إلى الإسلام، وتركت الديانة اليهودية، وكانت تأتي إلى دار السعادة مع غيرها من اليمنيات اليهوديات للعمل وللخدمة، وزوجة الإمام الوالدة حورية المتوكل كانت المرجع للجميع، وكانت تقية ورعة داعية للإسلام، ودائماً تستقبل النساء من أهل الذمة، وتعامهلن معاملة طيبة، وتحسن إليهن، وتفهمهن مبادئ الإسلام، فاعتنق بعضهن الإسلام، ومنهن مؤمنة وميمونة وحميدة، كما علمت الوالدة حورية العديد من الحبشيات المعتقات قراءة القرآن، ثم الطبخ والخياطة، ثم يتزوجن إذا سهل الله لهن، وقد تزوجت واحدة منهن الأمير صمصام توفيق بن عبد الله، وكان عبداً اشتراه الإمام وأعتقه، ودرس القرآن والفقه والعقائد بتشجيع من الإمام، وبرزت مواهبه الأدبية وشجاعته، وقاد بعض المعارك الحربية في المخا، فعيَّنه الإمام عاملاً عليها، ثم شارك في حروب اليمن الأسفل، وبرع في التدريب على المعدات الحربية التي وصلت من إيطاليا، فعينه مديراً للورشة.
ولما كانت تجارة الرقيق آنذاك رائجة ولها تجارها، وكان الإمام يشتري العديد من العبيد رجالاً ونساءً بقصد الإعتاق بعد تأهيلهم لمواجهة الحياة والمجتمع، ومثله كان يفعل أخي البدر الشهيد، فقد اشترى الكثير من الرقيق وأعتقهم، ويُملّكهم الأرض لضمان عيشهم بعد العتق.
الوالدة حورية كانت تؤمنا في المصلى الخاص بالنساء، أما الرجال فيؤمهم الوالد ومؤذن دار السعادة العم حمود الشمسي صاحب الصوت الحسن في الأذان وتسابيح الليل، وقد خصصت للأذان دكة مرتفعة في حديقة دار السعادة.
ولن أنسى مدى عناية والدي بوالدتي عندما مرضت، فقد ألزم العمة محصنة خالة أخي القاسم بالبقاء عند رأس والدتي لتخدمها وتحاول تخفيف آلامها، وألزم أخواتي أيضاً بعدم مفارقة والدتي. وأمر إخواني؛ البدر الشهيد، وعبد الله، بمواصلة الاتصال اليومي بالأطباء لمعاينة الوالدة، وأخي علي يرحمه الله يأتي في كل يوم من منزله لزيارة والدتي، حتى كان ما كان، ووقع الرحيل الأبدي.
أما أنا فقد دأبت على قراءة القرآن، حتى ختمت القرآن، وأبلغ والدي بختمي للقرآن، وكان فرحاً جذلاً بعد أن امتحنني في القراءة، وكافأني بإقامة حفل خاص لي بمناسبة ختم القرآن الكريم، وكان حفلاً كبيراً دعوت إليه صديقاتي وزميلاتي في مدرسة السطوح، وارتدت الزميلات والصديقات أجمل ملابسهن، أما أنا فألبستني خالتي باكزة والدة أختي عزيزة زوجة أخي القاسم، الثياب البيضاء الجميلة، وسار موكبنا الحمائمي في جولة في حديقة دار السعادة، وهن ينشدن الأناشيد الدينية، وأنا في وسطهن مفتخرة معتزة، وقدمت لي الهدايا، وما ألطفها، ثم مدت لنا مائدة طعام خاصة زينتها أنواع المأكولات من الحلويات وغيرها، وكانت فرحتي عظيمة لا توصف.
إن ختمي للقرآن الكريم أدخل الفرح والسرور على قلب والدي، وزاد اهتمامه بي، وفي حديث رقيق مع الوالد ألزمني بمطالعة الكتب الأخرى، وطلب من زوجة أخي القاسم رعاها الله، وكانت بارعة في الخياطة، وماهرة في الأشغال اليدوية؛ مثل النسج، وأشغال الإبرة، وتطريز القصب والترتر الأصيل بأنواعه؛ الذهبية والفضية، والدنتيل بأنواعه. وبالفعل فقد علمتني هذه الأشغال على أقمشة كانت تصل إلى عدن من الهند، من مقصب ومخمل، الذي لا يغيره الغسيل، والأقطان، والمقلم بالحرير والجرجيت بأنواعه الجذابة والبلوري.
***
كانت التوجيهات والالتزامات كثيرة ويومية، وكنت أخالف بعضها، فلا أحفل بمداومة الالتزام بارتداء الملابس التقليدية الكاسية الثقيلة، فألبس ما تخيطه لي الخالة باكزة والدة أختي عزيزة التي أحببتها، وكثيراً ما قلدتها في ملابسها الجميلة، وقد ظلت صداقتنا متينة والود بيننا موصولاً إلى أن توفاها الله إلى رحمته.
وذات يوم استدعاني والدي ورحب بي، وأجلسني إلى جانبه، وطلب إليَّ أن أبدأ بحفظ القرآن الكريم غيباً، بعد أن ختمت القرآن الكريم قراءة، وأوكل إلى أخي عبد الله أن يسمع لي في كل صباح ما حفظته غيباً، على ألّا يقل عن ثمن الجزء، وفعلاً باشرت الحفظ، وبدأت من سورة البقرة، وأخي عبد الله ـ رحمه الله ـ يواصل التسميع كل صباح، وأعانني الله على حفظ سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة إلى آخرها.
وفي هذه الفترة توفي خالي العلامة عبد الله غمضان، وكان عالماً فاضلاً زاهداً، عكف على التدريس تطوعاً بهمة لا يعتريها فتور ولا يصاحبها كلل ولا قصور، وشيعت جنازته بموكب حافل ضم كل من في المدينة من السادات والأشراف والعلماء والفقهاء والأعيان والأفراد، ولم يتولَّ الخال عبد الله أي عمل حكومي، وقضى حياته ينشر العلم ويحرض على الإقبال عليه. ولقد واساني والدي بوفاة خالي، وما أزال أذكر عباراته وأنا عنده قال: أعظم الله أجرنا جميعاً في خالك، فإنه كان قطباً من أقطاب الإسلام. وللذكر فإن خالي عبد الله غمضان وأخي الحسين كانا متآلفين روحياً وعلمياً، لا يترك أخي الحسين فرصة تلوح إلا واجتمع به، كانا يكملان بعضهما الآخر، ينهلان من بحور العلم سوياً.
يتبع العدد القادم