فرانك ميرمير - ترجمة: شهدي جمال -

ملخص لما سبق:
بدأ وديع حداد نشاطاته في عدن في بداية عام 1970، وخُصصت له فيللا في حي خورمكسر. وكانت هذه المدينة مركزية بالنسبة لفعاليات مجموعته ولمركز التدريب الذي أقيم فيها. فقد كان معسكر جعار الذي عُرف باسم معسكر عدن مركزاً للتأهيل العسكري والأيديولوجي لمجموعة وديع حداد، وتدرّبت فيه عدد من الخلايا الثورية والمقاتلين اليساريين على مستوى العالم.
ولم يكن باستطاعة المعسكر أن يستقبل للتدريب العسكري والسياسي إلا حوالي 40 شخصاً، وكان النظام فيه قاسياً، إذ كان وديع حداد رئيساً صارماً يحرص على الانضباط الشديد. ويقال إنه أسند المسؤولية لكارلوس خلال رحلة قام بها إلى بيروت ونيروبي. وأورد هانس يواكيم كلين، وهو من عتاة حركة 2 حزيران وساهم في أخذ الرهائن في فيينا، شهادة مُرّة تطعن بوديع حداد، الملقب بـ "أبو هاني". ونستطيع الظن، ولو دون تيقّن، أن وصف معسكر التدريب ينطبق على معسكر جعار، لأنه قرر عندما كتب مذكراته، وخوفاً من العمليات الانتقامية، ألاّ يذكر البلدان العربية التي استقبلته، قال: "كان هناك فصل تام بين الزعماء والجنود. وكان أبو هاني بالتأكيد مسؤولاً عن الجميع. وكان ساكي ساعده الأيمن، بعد أن حيّد جهازُ الموساد في نيروبي أبا حنّفة وآخرين. وكان ساكي، فضلاً عن ذلك المسؤول عن المعسكر، ولكنه تخلّى عن هذه المسؤولية لمرؤوسيه، وهكذا لم يترتب عليه أن يأتي إلى هذا المعسكر غير المريح إلاّ مرّة كل يومين أو ثلاثة. وكانت في المعسكر أيضاً "مها" التي خطفت طائرة مع ليلى خالد، وكانت "حافظة أسرار ومرافقة" أبو هاني (هكذا كان لقبها الرسمي)، بالإضافة إلى "سوسو" بنت أخيها التي كانت تهتم بالجانب التجاري للمعسكر، بما فيه المصروفات التي كان يتعيّن عليها أن توقّع على بياناتها باسمها المستعار. وكان فيه أيضاً بعض نواب الزعماء. وكان المندوبون السياسيون الذين يأتون إلى المعسكر أحياناً، يلتقون فقط بـ"أبوهاني" وبعض الأشخاص آنفي الذكر. خلال الأشهر الثمانية عشر التي قضيتها هنا (وكان جلها داخل المعسكر)، حضرنا درساً سياسياً واحداً أعطاه للجنود أحد المندوبين السياسيين الذي قدم خصيصاً إلى المكان... القادة في... [لم يذكر اسم المعسكر عمداً]... كان أبو هاني في كل مكان ويتمتع في أغلب الأحيان بالمباهج التي يمكن أن تؤمنها العاصمة، كالذهاب إلى السينما وزيارة المرقص، والمشاركة في ولائم الفندق. وكان في جيبه ما لم يكن يمتلكه أي جندي: أي العملات، ولم تعطَ هذه الامتيازات إلا لجوني ولي، وأعطيت جزئياً لزعماء فصيل الجيش الأحمر، ولزعماء الخلايا الثورية. ولم يحظَ باقي أعضاء حرب العصابات القادمين من ألمانيا الغربية والرفاق الفلسطينيون إلَّا ببعض الحقوق".
وهكذا أصبحت عدن القاعدة اللوجستية للناشطين الألمان، بسبب العلاقات التي ربطتهم بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وكان "التضامن الثوري" متفاوتاً مع المناضلين الألمان التابعين للخلايا الثورية. كان هؤلاء يقومون بعمليات إرهابية لصالح وديع حداد مقابل الحصول على الأسلحة والنقود والتدريب. وهكذا قتل العديد من الناشطين الألمان في عمليات خطف الطائرات. وكانت بيروت وبغداد تشكلان محطتين أخريين لتلك العلاقة القائمة بين الزبون ورب العمل أو بين المرتزق ومُصدِر الأوامر؛ ولكن عدن كانت تتمتع بمزايا أهم (لاسيما المزايا الدبلوماسية، بالنسبة لكارلوس خصوصاً)، فانعزالها وبُعدها عن خط الجبهة مع "إسرائيل"، بالإضافة إلى الحماية السوفييتية جعلت منها معبداً نفيساً، لاسيما وأن دعمها للقضية الفلسطينية كان يحمل طابعاً عاطفياً (علاقات شخصية بينيّة) وتوجهاً راديكالياً (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين أكثر من فتح). وهكذا في عام 1972، أشادت حكومة اليمن الجنوبي بعملية نفذها كومندوس تابع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وتم فيها "اختطاف" زورق حربي سريع من مرفأ عدن أُخذ ليقصف، قرب جزيرة بريم، ناقلة النفط "كورال سي" المتوجهة نحو "إسرائيل".
يجب التصديق بأن المدينة وجدت وظيفتها كمحطة، ليس على صعيد التجارة الدولية، وإنما على صعيد نوع جديد متمثل بخطف الطائرات، الذي اختصت به الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين خلال سنوات 1970. فقد استقبل مطارها الطائرة الأولى في شباط 1972، عندما خطف مناضلو "المجال الخارجي"، طائرة تابعة لشركة "لوفتهانزا" من مطار نيودلهي وأجبروها على الهبوط في عدن. فدفعت الحكومة الألمانية فدية قدرها 5 ملايين دولار، واستسلم الكومندوس للسلطات اليمنية التي لم تتأخر في إطلاق سراحهم. وبعد ذلك بسنتين، اقتحم كومندوس مشترك من منظمة الجيش الأحمر الياباني والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين السفارة اليابانية في الكويت وخطفوا رهائن عديدين بينهم السفير، وانضمّوا إلى مجموعة أخرى فلسطينية يابانية قادمة من سنغافورة أخذت كرهائن عدداً من ركاب سفينة تنقل السيارات والركاب، ونقلتهم طائرة تابعة لشركة الخطوط اليابانية من الكويت إلى اليمن الجنوبي حيث اختفوا. ومع ذلك، طُرد من عدن مرتين خاطفو الرهائن المرتبطون بمجموعة وديع حداد. في عام 1974، اليابانيون الثلاثة الذين خطفوا رهينة من السفارة الفرنسية في لاهاي غادروا هولندا على متن طائرة توجهت إلى عدن، ولكن سلطات اليمن الجنوبي منعتهم من مغادرة الطائرة. فقبل السوريون باستقبال الطائرة. وفي تشرين الأول 1977 خطف كومندوس فلسطيني طائرة بوينغ تابعة لشركة لوفتهانزا تعمل على خط بالما في مايوركا - فرانكفورت، وطالب بإطلاق سجناء تابعين لفصيل الجيش الأحمر الألماني وفلسطينيين معتقلين في تركيا، وكان من المتوقع أن تحط الطائرة في عدن في نهاية المطاف. صحيح أنها حطت فيها، ولكن لم يسمح لها بالبقاء فأقلعت إلى مقديشيو حيث هاجمتها القوات الخاصة الألمانية وقتل جميع مختطفي الرهائن، ماعدا اللبنانية سهيلة السايح. وكان هذا الخطفُ العمليةَ الأخيرة المدوية لوديع حداد، واستخدمت كمناسبة لجناح عبد الفتاح إسماعيل من الحزب الاشتراكي اليمني للإطاحة بسالم ربيع علي الذي سمح لوديع حداد بهبوط الطائرة في عدن فأعدم عام 1978.
وكانت المدينة أيضاً ملجأ للمناضلين المطاردين في أوروبا أو في أماكن أخرى فوجدوا في اليمن الجنوبي غُفْليّة تعويضيّة أو خلوةً قصيرة قبل أن يغوصوا ثانية في العمل السري داخل بلدانهم. بعد أن تعرّض العديد من أعضاء الجيش الأحمر الياباني لعمليات تطهير دامية عام 1972 ولموجات من الاعتقالات على يد الشرطة، يقال إنهم عرّجوا على عدن.
شارك ألمانيان مع كارلوس في أخذ وزراء الأوبيك كرهائن في كانون الأول 1995، وتبنت منظمة أيلول الأسود تنفيذها ووضعت تحت مسؤولية اللبناني كمال خير بك. ويقال إن هذا الأخير التقى بكارلوس في عدن قبل العملية بشهر ولم يقبل المشاركة فيها إلّا بعد موافقة وديع حداد. وبعد العملية توقف هانس جواشيم كلين وكارلوس في الجزائر وليبيا، ثم لاذا بعدن. وفي أحد البنوك في عدن سُلمت الفدية الباهظة التي طُلبت من إيران والسعودية عن وزيري النفط جمشيد أموزيغار وأحمد زكي اليماني. وتوّجت العملية باسم وديع حداد الذي استدعى كارلوس إلى دارته في خورمكسر كي يشرح له كارلوس لماذا خالف أوامره ولم يقتل الوزيرين الإيراني والسعودي، وألزمه من ثمّ بالالتحاق بمعسكر جعار.
ومن أصل ستة سجناء أطلق سراحهم مقابل تحرير الرهينة بيتر لورنز - وهو نائب عن الاتحاد المسيحي الديموقراطي، كانت قد خطفته حركة 2 حزيران في شهر شباط 1975- ذهب خمسة منهم إلى اليمن الجنوبي، وهناك وجدوا فيرينا بيكر "الخطيبة السوداء" لحركة 2 حزيران التي التحقت بفصيل الجيش الأحمر RAF في عدن حيث حطت رحالها هناك في السنة نفسها قبل أن تسافر من جديد إلى ألمانيا عام 1977. ووُجد في عدن مناضلون هاربون من أمثال بيتر يورغن بوك (من فصيل الجيش الأحمر) الذي شارك في خطف هانس مارتان شليير، رئيس نقابة أرباب العمل في ألمانيا الغربية في أيلول 1977. وتم إيقافه في يوغسلافيا في أيار 1978، فطرد إلى اليمن الجنوبي حيث بقي حتى نهاية 1999. إلى عدن لجأ كارلوس بعد فشله في القبض على رهائن في عينتبه حيث اقتحم كومندوس إسرائيلي في حزيران 1976 طائرة إيرباص تابعة للخطوط الجوية الفرنسية كانت قد خطفتها مجموعة مشتركة من حركة 2 حزيران ومن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
بعد توحيد اليمن في أيار 1990، ولاسيما بعد هزيمة الانفصاليين التابعين للحزب الاشتراكي اليمني في تموز 1994، لم تعد عدن ملاذاً للقانطين الأمميين الذي تحوّلوا إلى مجرد مرتزقة متقاعدين في أغلب الأحيان. في عام 1991 طردت سوريا أعضاء مجموعة كارلوس إلى اليمن الجنوبي سابقاً، ولكنهم عادوا إلى دمشق بسرعة فسُلّموا إلى ليبيا ثم إلى الأردن. ومن الأردن أرسل كارلوس عام 1993 إلى الخرطوم حيث اعتقلته الشرطة الفرنسية في السنة التالية. وتوصّل يوهانس فاينريش، وهو عضو في الخلايا الثورية وكان الساعد الأيمن لكارلوس. توصّل إلى البقاء في عدن لسنوات عديدة، ولكنه اعتقل أخيراً في حزيران 1995. وتسليمه لألمانيا يدل بالتأكيد على نهاية هذه الحقبة. 
 
تشظيات ما قبل الانحسار 
في عدن، عاصمة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية سابقاً، تصاحب شعور بالانتماء المديني مع حنين غامض ومزدوج للفترة البريطانية ولفترة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. والحنين الأول مرادف للاحتلال والقمع وللازدهار الاقتصادي أيضاً وللحداثة الاجتماعية والسياسية وللاختلاط الديني، في حين أن الحنين الثاني الذي أطلقت عليه تسمية "أيام الحزب" يحيل إلى الأمن وسيادة نظام الدولة الذي لا ينازع ويحيل أيضاً إلى غياب الحريات الاقتصادية والسياسية وإلى الصراع الدامي على السلطة داخل الحزب الاشتراكي اليمني. وتاريخ 13 كانون الثاني 1986 في هذا الشأن هو تاريخ حاسم لأنه دلَّ على الانحسار المحتوم لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية.
انطلاقاً من تلك الفترة، راحت نساء كثيرات يتحجّبن، وراح الرجال يعودون إلى الجوامع تكفيراً عن زندقة الطبقة الحاكمة وعن فسقها المفترض أو المؤكد.
بعد ذلك بعشرين سنة، أي في 13 كانون الثاني 2008، جمعت مظاهرة حاشدة عشرات الآلاف من الأشخاص في عدن لمحو آثار الشقاق وللإعلان عن وحدة سكان الجنوب، وللمطالبة بإنهاء إجراءات التمييز التي يمارسها نظام صنعاء ضد سكان الجنوب. وسميت "تجمّع المصالحة" وانتهت بأعمال عنف أدت إلى سقوط العديد من الضحايا في أوساط الجيش والمتظاهرين.
وشكلت هذه "المصالحة الوطنية" الكبرى هدنة لسلسلة من الاجتماعات القبلية والإقليمية التي انعقدت في الأشهر السابقة للتخلي عن عمليات الثأر. مع العلم أن الدولة في الفترة الاشتراكية (1967 - 1990) كانت قد قمعتها بشدة، ولكنها بزغت من جديد منذ قيام الوحدة.
أصبح أحد أشكال التراث السلبية في الفترة الاشتراكية المتمثلة بالمجازر بين الإخوة المتصارعين التي وقعت في 13 كانون الثاني 1986، أصبح للمفارقة رمزاً للاصطفاف والتعبئة لدى جزء من سكان المحافظات الجنوبية التي تستعيد الآن ذاكرة "أيام الحزب" وترى فيها مكوّناً أساسياً لفرادتها التاريخية والاجتماعية والثقافية. وبما أن كل ذاكرة هي ذاكرة انتقائية وجمعية أيضاً، فإنها قد تتغير بسرعة تغيّر مجرى الأحداث وميزان القوى. إن سنوات الاشتراكية في اليمن الجنوبي التي دامت ثلاثة وعشرين عاماً تشكل سجلاً ذاكرياً يتوسط ماضياً بعيداً لجنوب شبه الجزيرة العربية تحت الحماية البريطانية والعقدين الأخيرين من عمر اليمن الموحد الذي يبدو حاضره المقلقل، وكأنه يعيد بعض الألق الجنيني لتلألؤ النجمة الحمراء ماضياً.