تحقيق/ نشوان دماج - مرافىء -

أكثر من 30 عاماً وطه الحداد يفترش بسطته في ركنٍ منزوٍ بحي التحرير، معلقاً يافطة صغيرة في مدخل الزقاق: «مكتبة النهضة الأكاديمية».
كتب متفرقة على جانبي المدخل موزعة بشكل عشوائي، بعضها يبدو أنه قد سئم وضعه منذ أشهر، وربما منذ سنوات. تصادف عيناك بعض العناوين لكتب وروايات ليست مكتملة، تبحث عن بقية أجزائها، فتتعب سريعاً، إذ ربما أنك لن تجدها وسط كل ذلك الركام. لكن بمجرد أن تخبر عامل البسطة عن العنوان الذي تريده، حتى تسارع يداه آلياً في النبش، لتجد ما طلبته قد أصبح أمامك.
إذا تعرف عليك طه أكثر، من خلال ترددك على بسطته، قد يتكرم بإطلاعك على مخازن قريبة يتركك هناك لانتقاء ما يحلو لك، خصوصاً إذا كنت تبحث عن كتب شتى لا تحضرك عناوينها، ولا يكون هو في وارد أن يعددها لك تاركاً عمله ومنشغلاً بك، وبالتالي يوكل إليك مهمة البحث بدلاً عنه. 

كتب الأرصفة كظاهرة عالمية
كتب الأرصفة هي ظاهرة عالمية تعكس اهتماماً متزايداً بالكتاب، وخصوصاً الكتب القديمة؛ فمنطقة البرامكة بدمشق مثلاً، وتحديداً تحت جسر الرئيس، مكان يؤمه آلاف السوريين يومياً بحثاً عن الكتب القديمة والمستعملة. كذلك الأمر في سور الأزبكية بالقاهرة وشارع المتنبي ببغداد، وسوق أربات وسط موسكو، وغيرها الكثير من أسواق وأرصفة الكتب التي يدين لها عدد جم من المثقفين، بحيث لا يكاد هناك مثقف ولا أديب إلا ويدين لتلك الأرصفة. 
صنعاء كغيرها من العواصم العربية عرفت كتب الأرصفة منذ عقود، ولعل ميدان التحرير بقلب العاصمة هو المكان الذي عرف أكثر من غيره بتلك الظاهرة، حيث تحتل بسطات الكتب مساحة على امتداد رصيف الحديقة جوار البريد الرئيسي. وإلى جانب تلك البسطات، التي تم رفعها مؤقتاً مع فعاليات المولد النبوي من قبل البلدية، هناك أيضاً البسطات الثلاث لطه الحداد، وبسطة مديدة لقابوس العزعزي عند فرزة الباصات، وتحديداً جوار ما كان يسمى سجن الرادع، والتي يقول عاملها مهيب عقلان إن أكثر مبيعاته من الكتب يكاد ينحصر في الآونة الأخيرة بكتب القانون والسياسة، بالرغم من أن تلك المبيعات انحسرت جداً مقارنة مع الفترة السابقة، وبالذات من بعد أزمة كورونا، بحسب مهيب، مضيفاً أن كثيراً من الكتب المعروضة في بسطته هي «كتب تحت التصريف، من قبل أناس يريدون بيعها». 
كما كان هناك رصيف كتب واسع في منطقة العرضي القريبة من باب اليمن. لكنه اختفى مع الحريق الذي ضرب المنطقة في 2013، بالإضافة إلى بسطات الكتب أمام بوابة جامعة صنعاء، وأخرى جوار وزارة الشباب والرياضة في شارع الزبيري.

كثير من الكتب تطبع محلياً بسبب الحصار
يشير قابوس العزعزي، صاحب البسطة التي بجانب فرزة الباصات، إلى نقطة هامة، وهي أن كثيراً من الكتب، خصوصاً في مجال المذهب الزيدي والفلسفة والتنمية البشرية، أصبحت تطبع محلياً بسبب الحصار؛ وذلك حرصاً على الاستفادة.
يقول فؤاد الأبيض، وهو طيار في القوات الجوية ومدرب في التنمية البشرية، إن استفادته كقارئ ومرتاد لهذه الأماكن كبيرة جداً، بحيث يلقى هناك كل مبتغاه، مؤكداً أن وجود الكتاب في المجتمع مازال يمثل وجهاً حضارياً. 

دارا التقدم ورادوغا الروسيتان
في مطلع الألفية الجديدة، حصل طه الحداد على صفقة كتب معظمها عن داري التقدم ورادوغا، ذات الأغلفة المتينة التي تغريك بشرائها مهما كلف الثمن. لكن الجميل أنها كانت تباع بثمن بخس، مقارنة بأسعار كتب أخرى: 100 ريال لكل نسخة، أنطون تشيخوف، مكسيم غوركي، شولوخوف... الخ. يقول العاملون إن طه حصل عليها من مخازن في عدن بعد الوحدة، ومايزال هناك مخازن أخرى ينتظر تهريبها من هناك «مع بائعي القات وأصحاب الخضرة». باع منها ما باع، وبقي بعضها حتى أكلت الشمس والغبار عناوينه وألوانه. يقول فيصل طه (الابن)، ذو الـ17 عاماً، إنه مستعد الآن أن يدفع في النسخة الواحدة بدل المائة ألف وألفي ريال. فالكمية التي كانت بحوزتهم نفدت أو تكاد، والطلب زاد كثيراً على تلك الكتب بالذات.
فيصل طه يعمل منذ 5 سنوات على واحدة من بسطات والده الأربع، اثنتين متقابلتين في نفس الزقاق، وواحدة في الجهة المقابلة إلى جوار التوجيه المعنوي، والرابعة جوار بوابة جامعة صنعاء، بالإضافة إلى 5 مخازن (دكاكين مستأجرة إلى جوار البسطتين الرئيستين). يقول فيصل إن الإقبال على شراء الكتب خف إلى أقصى حد في الآونة الأخيرة نظراً للعدوان وللوضع الاقتصادي المتردي، بحيث لم يعد هناك حركة بيع رائجة في سوق الكتب. 
وكنوع من الاستعراض، يأخذ فيصل في سرد عناوين لكتب يعرف أنها ستلفت انتباهك، مضيفاً أنه ليس مجرد بائع كتب، بل مطلع جيد، أصبح يستطيع أن يقدر أهمية وقيمة كل كتاب. ثم يقود نظرك بإشارة من إصبعه إلى اللوحة: إننا مكتبة النهضة الأكاديمية، وكل باحث وصاحب دراسات عليا يستعين بنا ويجد عندنا من المراجع ما لا يجده عند غيرنا. أما سعر الكتب فمنخفض جداً مقارنة بسعرها في المكتبات الرسمية. 

مصادرة 10 آلاف كتاب وسجن عامين
في 2013، تمت مصادرة 10 آلاف نسخة من مكتبة طه الحداد، بحجة أنها كتب تروج للزيدية ولآل البيت. كان الفاعل، بحسب فيصل، حزب الإصلاح وحكومة عفاش. لم يكتفوا بمصادرة الكتب، بل أضافوا إليها عقوبة أخرى لطه الحداد بحبسه لمدة عامين في عمران. لم يجد فيصل جواباً على سبب سجن أبيه في عمران بالذات، إلا أنه رجح أن السبب في النهاية قد يعود إلى ما كانت تمثله عمران في تلك الآونة بالنسبة للإصلاح. 
أما مضايقات البلدية لهم فلا تفتأ تتكرر من حين لآخر، بحسب فيصل. «لكن أبي مُشارع كبير قلع عيونهم لمدة 6 سنوات حتى يئسوا إلا من هَبّات يقومون بها من حين لآخر».
عبده الجعفري، عامل البسطة المقابلة، يعمل منذ 7 سنوات لدى خاله طه. شاب خجول لكن يبدو أنه أكثر خبرة. يقول عبده إن أكثر الكتب المرغوبة والتي يكثر شراؤها الذي أصبح شحيحاً هذه الأيام، بحسبه، هي التاريخية بالدرجة الأولى، تأتي بعدها الروايات، ثم البقية. يشير إلى ظاهرة أصبحت ملحوظة في الآونة الأخيرة أكثر من ذي قبل، وهي أن شراءهم للكتب أصبح أكثر من بيعهم لها. فكثيرون يأتون لبيع كتبهم وقد تكون كتباً هامة وقيمة، فيشترونها منهم إما مباشرة أو عبر سعاة، بحيث يكادون يستغنون عن شراء أي كتب من المكتبات الرسمية. بل قد لا يكون لدى تلك المكتبات ما لديهم هم من كتب يشترونها من الناس، كما يضيف.

كتب نادرة لا يمكن الحصول عليها في أماكن أخرى
يوافقه نجيب الجلال، الجالس باهتمام على كرسي مركون إلى الظل، وبين يديه كتاب مصور لمخطوطة ما. يقول نجيب إن بسطة الحداد هي أكثر الأماكن التي يرتادها، بعيداً عن حياة التقنيات وقنوات الإعلام التي جعلت من الكثيرين، وخصوصاً هذا الجيل، مفرغاً لا يهتم بالقراءة ولا المطالعة، بحيث أصبحت ثقافتهم محصورة في هاتف جوال وإنترنت.
أما سبب تردده من حين لآخر على هذا المكان، فيرجعه نجيب إلى احتواء بسطة طه الحداد على الكتب النادرة، وعدم وجود تلك الكتب حتى في المكتبات العامة، مضيفاً أنه حصل فيها على مجموعة من الكتب هي عنده بمثابة ثروة، ومتأكد من أنه لن يحصل عليها في مكان آخر. «كما أن الأسعار مناسبة هنا»، يقول نجيب. «حيث إن معظم الذين يريدون بيع كتبهم يتجهون إلى أصحاب الأرصفة، وإلى هذا المكان بالتحديد باعتباره أشهر مكان، فيتاح لي أن أحصل على عناوين مهمة جداً بالنسبة لي، خصوصاً في التاريخ. فاهتماماتي متركزة على هذا الجانب، وبالذات تاريخ اليمن».

بيع الأبناء كتب الأب لأن اهتماماتهم تختلف عنه
أما ظاهرة بيع الناس لكتبهم بشكل متزايد فيحيلها الجلال إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة واضطرار الأسر لبيع كتبها لدى أصحاب الأرصفة، ثم إلى عدم تقدير تلك الأسر لما تملكه. «فعندما يكون الأب مثقفاً ويحرص على تكوين مكتبة في بيته، كجزء من اهتماماته، يأتي من بعده الأولاد باهتمامات غير اهتماماته وينظرون إلى تلك الكتب بنظرة أقل، وبمجرد أن يُتوفى يبادرون إلى بيعها كأشياء لا تعنيهم، غير مدركين أهميتها ولا قيمتها». 
تتجه جنوباً إلى قلب ميدان التحرير، حيث مازال في جدولك امتداد مهيب من أرصفة الكتب لا بد من التعريج عليها، والتعرف على أصحابها الذين يقول عنهم فيصل الحداد إن غالبيتهم بائعو كتب مدرسية لا أكثر وليسوا مطلعين أو ضليعين في مجال عملهم حتى لو تكدست من حولهم الكتب والمجلدات. فالواحد منهم، بحسب فيصل، تأتي لتسأله عن عنوان معين فيجيبك مباشرة بأنه غير موجود، فيما قد يكون الكتاب خلف رأسه مباشرة.
لم أصدق رواية الحداد الابن، ووجدتها من باب التنافس بين بائعين. بل ربما أنني حدثت نفسي، وأنا على بعد خطوات من أماكنهم، بأن العكس سيكون هو الصحيح، وأنهم لا يقلون اطلاعاً عن ذلك الشاب المتحمس لإمكانياته. 

البلدية ترفع بسطات الكتب
المفاجأة التي لم يخبرني عنها فيصل، والتي لا شك يعرف أنني ذاهب إليها، هي أنه لم يعد لأولئك ولا لبسطاتهم من وجود في ذلك الامتداد الذي كان يملأ النظر. كان المكان خالياً تماماً، وليس ثمة من كتب إلا نزر يسير من كتب مدرسية متفرقة هنا وهناك ومركونة كما تركن قوارير البنزين في السوق السوداء. 
سألت أحدهم: «أين اختفت الكتب؟»، ليجيبني مباشرة: «أي كتاب تبحث عنه وأنا أجلبه لك في الحال». اعتبرت جوابه تهرباً، فكررت السؤال ليجيب بأنه لم يعد ثمة من بسطات، وبأن المجلس المحلي والبلدية «كرشونا»، بحسب تعبيره، من هنا منذ يوم المولد النبوي. بشير الخديري يبدو واحداً من الذين لم يعودوا يأملون بعودة بسطاتهم إلى أماكنها، على الأقل في القريب العاجل، فيترصدون لمن يأتي سائلاً عن كتاب ما، ليحضروه إليه من مكان ليس من المتاح معرفته كما يبدو. 
يقول بشير: «كان هناك ما لا يقل عن 8 بسطات، ثم في ليلة المولد النبوي الشريف، ودون سابق إنذار، داهمتنا 10 أطقم من المجلس المحلي لمديرية التحرير، وصادروا على كل بسطة من 5 إلى 10 شِوَالات كتب، بحجة أن البسطات تشوه المنظر. والآن بدل أن تجد أمامك مشهد كتب، أصبحت تجد مشهد القراطيس والنفايات»، مضيفاً أن النبي لم يكن ليرضى بأن تعدم رزقها 30 أسرة، حيث كان على كل بسطة ما لا يقل عن 4 عمال.

المجلس المحلي مغلق والثقافة لا شأن لها
اتجهت إلى مبنى المجلس المحلي لمديرية التحرير، المحاذي لمجلس النواب، علّي أجد جواباً لما حدث، فأجده مغلقاً. فاعتقدت أنني سأجد الإجابة المقنعة في وزارة الثقافة، التي لا تبعد سوى القليل من الخطوات عن البسطات، فاتجهت مسرعاً إلى هناك، ملتقياً أول مسؤول صادفته، ليخبرني بأنه لا علاقة لوزارة الثقافة بتلك البسطات لا من قبل ولا من بعد، وأن أمانة العاصمة هي المسؤولة عن إزاحة بسطات الكتب عن أرصفتها بحيث أصبحت أرصفة فارغة لمخزّني القات في ساعات النهار. ليضيف آخر إلى جانبه: «صحيح أن أصحاب البسطات كانوا يلجؤون إلينا عندما تضايقهم البلدية، فتقوم الوزارة حينها بمخاطبة أمانة العاصمة بكف الأذى عن أرصفة الكتب، فتعود من جديد. لكن هذه المرة يبدو أن الوزارة نفسها لم تعد في وارد أن تتحمس لتلك المبادرات نظراً لما تعيشه من وضع بائس»، قبل أن يشير بيده إلى قناديل المكتب المطفأة، ودون أن يحتاج إلى القول بأنها وزارة بلا كهرباء.