نشوان دماج / مرافئ -
لا نستطيع القول بأن أياً من مقيل البردوني ومقيل المقالح قد شكل ما يمكن أن نعتبره صالوناً أدبياً ثقافياً، كالتي اشتهرت بها عدد من العواصم العربية، لكنهما بالتأكيد مثّلا واجهة مهمة بل وربما وحيدة لكل ما هو ثقافي وأدبي في ما كان يسمى اليمن الشمالي قبل الوحدة. كما أننا لا نستطيع القول بأن أياً من الشاعرين قد حرص على اختيار رواد مقيله، بقدر ما أن الصداقات والعلاقات الاجتماعية كانت هي التي تحكم هنا، مثلما تحكم بقية المقايل وجلسات القات في اليمن.
وإذا كان لنا أن نحكم من هذا المنطلق على كلا المقيلين، فإن المقالح كان أوفر حظاً من البردوني، باعتبار أنه كان حريصاً على توفير أكبر قدر من الصداقات وعلى نسج علاقات مستمرة في الداخل والخارج، مستغلاً الظروف التي أتيحت له في هذه الناحية، من حيث لقبه الأكاديمي ومناصبه الثلاثة في آن واحد، كرئيس لجامعة صنعاء ورئيس لمركز الدراسات والبحوث ومستشار ثقافي لرئيس الجمهورية، بالإضافة إلى رصيده حزبياً كأول أمين عام لحزب البعث العربي الاشتراكي، ثم تشكيله مع عدد من الأصدقاء فيما بعد حزباً سموه حزب العمل أو حزب العمال والفلاحين... كل هذا خلق أنسب الأجواء لمقيل هادئ ووديع كما يريده المقالح نفسه، وعاجٍّ بالأصدقاء «الطيبين» كما  سيصفهم في ديوان له، بحيث كان لزاماً على أي أديب أو كاتب أو مثقف يأتي من الخارج مثلاً أن يكون أول عمل يباشره هو أن يعرج على مقيل المقالح، كنوع من التقاليد التي لا بد من أن يتبعها باعتباره مثقفاً؛ وإلا كيف يعود إلى بلده دون إجابة على السؤال الذي يكون قد تشكل في ذهنه واعتقد أنه ينتظره في المطار قبل أي مكان آخر: هل زرت مقيل المقالح أم لا؟!
أما البردوني فعاش ظروفاً مغايرة تماماً، فهو لا يحمل لقباً أكاديمياً ولا يشغل منصباً، بالإضافة إلى الظرف الأهم والعائق جداً، وهو العمى. هذا الظرف لا شك أنه كفيل بجعل المرء محكوماً بالكثير من القيود التي تعوق حركته وتحد تواصله مع محيطه، فكانت الكلمة هي السبيل الأبرز ربما عند البردوني لنسج علاقاته. أما المقالح فكان لديه إلى جانب الكلمة كل من اللقب والمنصب والانتماء الحزبي والشكل وما إلى ذلك. كل هذا لعب دوراً في جعل الأمور لصالح الأخير من حيث عدد الأصدقاء، ونوعيتهم حتى، باعتبار أن الكثير منهم كانوا على علاقة بحزب البعث، الذي كان المقالح أميناً عاماً له نهاية الخمسينيات وأيام الوحدة بين مصر وسورية. وربما لم يشفع لبعثيته تلك عند المخابرات المصرية فيما بعد إلا مقالاته المشيدة بعبد الناصر، والتي ربما أنها هي أيضاً جعلته يتولى منصب مندوب اليمن لدى الجامعة العربية في الستينيات.

علاقات المنصب
بحكم مناصبه الثلاثة في آن واحد، كان بوسع المقالح استدعاء أي من الأدباء والكتاب من مختلف أقطار الوطن العربي إلى زيارة اليمن، وتوفير كل متطلبات الضيافة، من سيارات تابعة لرئاسة الجمهورية وأجنحة فندقية راقية وما إلى ذلك. ولا بأس في العودة إلى الأرشيف الصوري للمقالح لمعرفة حجم وعدد تلك الشخصيات التي زارت صنعاء، والتي كان منها محمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس وعبد القادر القط... وغيرهم. ربما يلتقيهم البردوني في اتحاد الأدباء إن علم بوجودهم في صنعاء، أو ربما يسألون عنه هم فيمرون لزيارته في بيته. لكن كان يحدث أحياناً ألا يراهم ولا يروه، مثلما حدث مع عبد القادر القط، الذي أمضى في إحدى زياراته ما يقارب الشهر في صنعاء، يسأل عن البردوني فيقولون له بأنه في الخارج، وإذا به يكتشف قبل سفره بيوم أو يومين بأن البردوني لم يكن في الخارج ولا يحزنون، فيقوم بزيارته عشاءً إلى بيته، ويقضيان ليلة كأنها اللحظات الأخيرة!

سلطة أبوية بامتياز
لا نستطيع أن نبرئ المقالح من ممارسة سلطة أبوية على الكثيرين من الكتاب والأدباء الشباب من مرتادي مقيله؛ خصوصاً أنه كان كريماً حد الإسراف في كتابة مقدمات لعشرات إن لم يكن مئات الإصدارات، سواء كانت دواوين شعر أم مجموعات قصصية أم روايات، فتكون تلك المقدمة، التي ربما قد يكتبها خجلاً من هذا الصديق أو ذاك، بمثابة صك عبور إلى عالم الأدب؛ إذ يكفي أن تتصدر ديوانك أو مجموعتك القصصية بعض أسطر منه، لتكون قد حصلت على معموديتك وحصل منك على إقرار بالأبوة، دون أن يشعر بذلك أي منكما على أية حال.
أما البردوني فمقل جداً في هذا الجانب، ولربما انتظر منك أن تعمد نفسك بنفسك، كما انتظر من «القعود» مثلاً أن يرتقي حتى إلى «سقبة»، بدل أن يظل طيلة حياته في طور الـ«قعود» (صغير الجمل). كان هذا يأتي لأخذ المادة التي يكتبها البردوني لصحيفة «الثورة»، فيبادره الأخير بذلك التساؤل كنوع من الملاطفة ولتبرير أن المادة تكون قد أرسلت مع من هو أكثر ثقة؛ لا يحذف ولا يغير.

تعيينات حصرية
كما أن المقالح معروف عنه أنه هو من كان يعيّن أو يشير بتعيين وزراء ووكلاء وزارتي الإعلام والثقافة على الدوام، باعتباره مستشاراً ثقافياً لرئاسة الجمهورية، بحيث لن تجد وزيراً ولا وكيلاً في هاتين الوزارتين أو المؤسستين إلا وخرج من عباءته. وهذه سلطة طاغية لا شك، وإن كانت سلطة في الصواب كما يراها البعض. فيما البردوني ليس له ذلك الباع هنا أيضاً، باستثناء ربما التماسه لدى دائرة التوجيه المعنوي، أيام محمد علي مقبل، توظيف علي الشاطر، الصبي الذي قدم من حراز إلى بيت البردوني ليعينه على بعض الأمور، مراسلاً أو موزعاً لصحيفة «الجيش» في الأكشاك، باعتبار أن لديه دراجة نارية يمكن أن تساعد في عملية التوزيع. لتأتي حركة 13 يونيو، بقيادة الحمدي، وإذا بـ«ذلك الصبي» قد أصبح مديراً لدائرة التوجيه المعنوي دفعة واحدة. بعد وقت طويل، وعندما طرح سؤال: هل علي الشاطر كارثة الحمدي أم كارثة البردوني؟ كان الجواب لا علاقة له بالرجلين ولا بعلي الشاطر، وإنما بإحالة مشابهة في مثال أنور السادات وعبد الناصر.

رأس الكبش وقرد الحدا
هذه حادثة تحكى على نطاق محدود، قوامها وليمة لحم وعسل ومدعوون على رأسهم المقالح والبردوني. كان من ضمن المتواجدين الدكتور أبو بكر السقاف، والذي كان على خلاف مع المقالح حول بعض الأمور ذات الصلة بجامعة صنعاء. بعض «الطيبين» صاح بأنه آن أوان أن يتصالح الرجلان، فصاح السقاف حاسماً المسألة بأنه ليس هناك أي خلاف بينه وبين المقالح. لينتقل الصوت موجهاً كلامه للبردوني: ما رأيك في الدكتور عبد العزيز يا أستاذ عبد الله؟ كان البردوني على وشك أن يفتك برأس الكبش الذي بين يديه، بعد أن أتى على بقية الشواء كما يبدو، فلم يجد ما يجيب على السؤال إلا برفع ما بين يديه قائلاً: «المقالح... رأس كبش»، ليُشرَغ من شُرغ، ويكتم ضحكته من حاول كتمها. أما المقالح فلم يجدوه إلا وقد هب من مكانه صارخاً: «قرد الحدا هذا لن يتركنا بسلام»، ومُصرّاً على أن يغادر رغم كل المحاولات لإرجاعه وتهدئته، فغنم من كان إلى جانبه صينية العسل المخصوصة دون أن يشاركه بها أحد.

«ما خلاش قلب سالي»!
وإذا كانت الكلمة هي السبيل الوحيد عند البردوني للتعريف بنفسه، كما قلنا، فإنها أقرب إلى كونها مناكفة، وليست مسالمة في كل الأحوال كما هي عند المقالح. ولذا كثيراً ما رأينا لزملاء المهنة الذين يجمعهم مع البردوني قاسم الكتابة نفوراً منها، لأنها لم تكن لتكتفي بأن تتوجه نحو السلطة فقط، بل وكانت تتوجه نحوهم هم أيضاً. فكلمة البردوني لا تعبأ بخلق أجواء مسالمة مع أحد، بقدر ما يعنيها ما تعتقد أنه الصواب. فلا بد بالتالي من أن يشح مقيله من أكثر أولئك «الأصدقاء». غير أن هذا لا يعني أن البردوني كان منغلقاً أو معادياً للصداقات بشكل عام، لكنه كان يعجبه أن يُزعج وأن يستفز، حريصاً على ألا تفلت منه أية فرصة يجدها قد تهيأت، تماماً كما لو كان لاعباً في مباراة كرة قدم، فيروح يسددها في مكانها، أو فيما يعتقد أنه مكانها، حتى لو كان ذلك المكان شباك مرماه هو أو مرمى فريقه. 
ومثلما يقول هو: «عليّ أن أقول كلمتي وهي تستفز وتقاتل. إذا انتصرت لا أفرح بانتصارها، وإذا سقطت لا آسف لسقوطها». كان لتلك الكلمة أن تنتصر في أغلب الأحيان كما يبدو، وأن تجعل الكثيرين يشيحون عن البردوني ويلتفتون إلى الطرف الآخر الموادع وغير المنفر. فالبردوني لم يسلم منه حتى أصدقاؤه من الكتاب العرب، وكثيراً ما كان يستفزهم لدرجة اضطرت محمود أمين العالم، في مؤتمر عن عبدالناصر، دعي إليه البردوني، أن يأخذ الميكروفون محاولاً تهدئة الغاضبين على البردوني ويقول ما معناه بأنه لا داعي لهذا الغضب فالرجل يستفز حتى الصخر. أما القول الذي استفز المصريين حينها، والعهدة هنا على الراوي، هو أن عبد الناصر كان سيف دولة بلا متنبي. فأحمد شوقي كان شاعراً للخديوي وظل يبحث عن لقب باشا طويلاً فحصل بالكاد على لقب بيك، وحافظ إبراهيم نوبي. كان هذا في مصر، أما في سورية فكان لأدونيس (علي أحمد سعيد) نصيبه هو أيضاً من الاستفزاز، بعد نقاش مستفيض حول مسألة متعلقة بالمتنبي وسيف الدولة. وافقت خالدة سعيد، زوجة أدونيس، رأي البردوني حول تلك المسألة وخالفت رأي زوجها، فما كان من البردوني إلا أن قال لها: «طلقيه وأنا شاتزوجش!». فضجت القاعة بالضحك. وكلامه هذا حتى لو قيل من باب المزاح والمداعبة، إلا أنه كان يحمل نية مسبقة كما يبدو، فالبردوني كان يرى في خالدة كاتبة أفضل من زوجها أدونيس. 
هذا بالإضافة إلى ما كان يناله كتاب وشعراء يمنيون من الرجل «اللي ما خلاش قلب سالي»، على حد قول أحد الظرفاء. ومن ذلك ما يحكى عن «الزفة» التي حدثت للشاعر عثمان أبو ماهر في بيت البردوني، عندما طلب من محمد الشاطبي، أحد قرائه، أن ينقر على الصحن، بينما هو سيغني: «الشاعر الباهر.. عثمان أبو ماهر». وهكذا ظلت «الزفة» طويلاً ولم تنته إلا بمغادرة الرجل المزفوف إلى حيث تقوده قدماه. وكذلك موقفه مع الشاعر محمد الشرفي، وهو يقرأ من ديوان له قصائد حب فيها ورد وزهر وفواكه واخضرار، فقال: «هذي مزرعة يا شرفي، مش حبيبة. شكلك تعشق وزارة الزراعة»!

مخبرون في زي مريدين
لكن إذا كان للكثيرين من «زملاء المهنة» أن ينفروا من نقد البردوني لهم، وخصوصاً الشعراء، فإن نقده للسلطة لم يجعل الأخيرة تشيح عنه مثلما فعل أولئك، بل سلطت تركيزها على البردوني وعلى مقيله، وفرضت على ذلك المقيل وجوهاً ستظل هي الأكثر تردداً والأكثر حضوراً فيه ربما طوال الوقت وليس فقط في مقيله الأسبوعي الذي كان يوم الاثنين. ورأينا من تلك الوجوه من أصبح يتحدث عن البردوني كما لو كانوا تلاميذه الخلص وأبناءه النجباء، وكما لو كان دورهم في النهاية هو إعطاء صورة للبردوني بأنه بائس جداً في مريديه ورواد مقيله، حيث كان ثلث ذلك المقيل عبارة عن مخبرين، وثلث أزلام سلطة، وثلث أخير يأتي ويذهب الكثيرون منهم؛ فلا يكاد يتوفاه الله إلا وقد أصبح ثمة حديث عن اختفاء دواوين بأكملها، وليس فقط قصائد، وسيرة ذاتية وما إلى ذلك، وعن تقاسم لمنزله بين ورثة لا يُدرى من أين أتوا، و… و… و... إلخ.
ومن تبقى من الثلث الأخير من مقيل البردوني كانوا بعدد الأصابع، يعرفهم الناس بسيماهم، هؤلاء فقط هم الذين أخلصوا له في حياته ومماته، إخلاصاً للمبادئ والقيم التي تشربوها منه قبل أي شيء آخر، فكانوا بحق آخر ملامح البردوني المتبقية في «زمان بلا نوعية».