«لا» 21 السياسي -
في نداء غير مسبوق، دعا أبو عبيدة، المتحدث باسم كتائب عز الدين القسام - الجناح العسكري لحركة حماس، جميع قراصنة العالم إلى الاتحاد ضد الكيان الصهيوني المحتل. نداء يضيف بُعداً جديداً إلى الحرب المستمرة على الشعب الفلسطيني. إذ يشير إلى أنّ الفضاء الرقمي قد يصبح ساحة معركة حيوية مثل القوات البرية والغارات الجوية. ولا يمكن التقليل من أهمية هذا النداء، فهو يسعى إلى استغلال شبكة عالمية قوية من الأفراد الذين أثبتوا قدرتهم على تعطيل الأنظمة، ونشر المعلومات، والمقاومة بطرق لا تستطيع الحرب التقليدية أن تحققها.
لطالما ارتبط القراصنة السيبرانيون بصور نمطية سلبية؛ إذ يُنظر إليهم عادةً على أنهم شخصيات غامضة تزرع الفوضى في العالم الرقمي. وغالباً ما يرتبط هؤلاء بالنوايا السيئة أو الأنشطة الإجرامية. مع ذلك، يكشف نداء «أبو عبيدة» عن حقيقة لم تأخذ حقها من التداول: القراصنة والمجموعات النضالية في مجال القرصنة قد انخرطوا في أوقات معينة في الدفاع عن قضايا التحرّر والمقاومة والعدالة الاجتماعية. على مرّ السنين، انضمت مجموعات عدة من النشطاء القراصنة، أبرزها «أنونيموس»، لدعم القضية الفلسطينية، فحاربوا في ظلال الفضاء السيبراني لمواجهة السرديات الصهيونية، وتعطيل المواقع الحكومية، ورفع الوعي بالقضية.
تسمح الطبيعة المجهولة لهذه المجموعات بضرب أهداف لا تستطيع وسائل الإعلام التقليدية أو النشاط الميداني الوصول إليها. في هذا السياق، يمكن اعتبار رسالة «أبو عبيدة» دعوة للتسلّح الرقمي تتناغم مع شعور يتبناه العديد من القراصنة بالفعل، وهو أنّ الأدوات الرقمية يمكن أن تُستخدم لتحقيق الخير، وأن المقاومة عبر الإنترنت شكل من أشكال الحرب الحديثة.
يمكن تتبّع العلاقة بين القضية الفلسطينية ومجتمع القرصنة السيبرانية إلى لحظات تاريخية معيّنة، أبرزها تدخّل «أنونيموس»، وهي مجموعة لامركزية من القراصنة الذين شاركوا في حملات متعددة استهدفت المواقع الحكومية والعسكرية «الإسرائيلية». وتنوعت هجماتهم ما بين هجمات ضرب الخدمة الموزعة (DDoS)، التي تؤدي إلى تعطيل المواقع مؤقتاً، إلى اختراقات أكثر تعقيداً حصل فيها تسريب معلومات حساسة.
بعد عملية «عامود السحاب»، «الإسرائيلية»، على غزة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، أطلقت «أنونيموس» حملة «عملية إسرائيل» (OpIsrael)، وهي هجوم سيبراني واسع النطاق هدف إلى تعطيل البنية التحتية الرقمية «الإسرائيلية». وجرت العملية في 7 نيسان/ أبريل 2013، وكانت رداً على سياسات «إسرائيل» في غزة. اخترقت الحملة مئات المواقع «الإسرائيلية»، بما في ذلك مواقع حكومية وعسكرية وشركات خاصة. وبرّرت «أنونيموس» العملية بأنها محاولة «لمحو إسرائيل من الإنترنت»، في انعكاس لموقفها الداعم للشعب الفلسطيني. لم تتسبّب العملية في تعطيل الخدمات فحسب، بل جذبت أيضاً انتباهاً عالمياً نحو معاناة الفلسطينيين، مما جعلها واحداً من أبرز أعمال القرصنة النضالية في الذاكرة الحديثة. إلى جانب «أنونيموس»، شاركت مجموعات أصغر وأكثر إقليمية في أنشطة سيبرانية داعمة للقضية الفلسطينية. شارك قراصنة من تركيا وماليزيا وحتى أمريكا اللاتينية في عمليات مماثلة على مرّ السنين. عادةً ما تتضمن أساليبهم تشويه المواقع «الإسرائيلية»، وتسريب المعلومات السرية، وشن هجمات (DDoS) على الأنظمة الحيوية. وتُظهر هذه الأعمال أنّ القراصنة لا تحدهم الحدود أو الجنسيات، بل يُحركهم إيمان مشترك بمعارضة ما يرونه من ظلم.
يرتبط مصطلح «قرصان» (hacker) غالباً بمعانٍ سلبية: مجرمين سيبرانيين يسرقون البيانات، يشنّون هجمات الفدية، أو يخلقون الفوضى في الأنظمة المالية... ولكن ليس كل القراصنة يتبعون هذا النموذج. في الواقع، لطالما كان هناك فصيل في مجتمع القراصنة مكرّساً للقرصنة الأخلاقية أو النضالية. يرى هؤلاء الأفراد أنفسهم مدافعين عن حرية التعبير، والخصوصية، والعدالة الاجتماعية، وقضايا التحرّر، ويستخدمون مهاراتهم لمكافحة تجاوزات الحكومات، والرقابة، والظلم.
القراصنة ليسوا بالضرورة أشراراً. كثيرون يعملون ضمن إطار القرصنة الأخلاقية، فيكشفون عن الثغرات في الأنظمة لحمايتها من الهجمات الضارة أو يساعدون في عملية نشر التسريبات. على سبيل المثال، تسريبات موظف الاستخبارات السابق، إدوارد سنودن، حول التجسس الجماعي الذي تمارسه الحكومة الأمريكية، انتشرت بفضل القراصنة وخبراء الأمن السيبراني الذين يؤمنون بالشفافية والمساءلة.
نداء «أبو عبيدة» محاولة لاستغلال هذا الجانب الأخلاقي من القرصنة، وجمع الأفراد الذين يعارضون الاحتلال «الإسرائيلي» وقمع الفلسطينيين. هو وجّه نداءً إلى أولئك الذين يرون أنفسهم مقاتلين رقميين من أجل الحرية وليسوا مجرمين، مشيراً إلى أنّ مهاراتهم يمكن أن تخدم هدفاً أسمى، وهو المقاومة والعدالة.
رغم أنه لا يزال من غير الواضح مدى انتشار وتنسيق الاستجابة العالمية لهذا النداء، فلا شك في أنّ الجبهة الرقمية أصبحت جزءاً مهماً من الحروب الحديثة. تقدم الهجمات السيبرانية ميزةً غير متكافئة، خصوصاً لمن لا يمتلكون ترسانة عسكرية توازي خصومهم. بالنسبة إلى الفلسطينيين، الذين يواجهون أحد أكثر الجيوش تقدماً ووحشيةً في العالم، يُعد هذا النوع من المقاومة وسيلةً لتحقيق التوازن، ولو بشكل مؤقت؛ إذ يمكن للحرب السيبرانية تعطيل الخدمات الحيوية، ونشر الفوضى، بل وتغيير السردية من خلال كشف الحقائق الخفية. يستهدف القراصنة المواقع الحكومية أو قواعد البيانات العسكرية بهدف كشف انتهاكات حقوق الإنسان، ولفت الانتباه الإعلامي، وحشد الرأي العام. هذه الأنشطة ليست مجرد محاولات لخلق إزعاج مؤقت، بل هي ضربات مؤلمة. ومع ذلك، فإنّ تصعيد الحرب السيبرانية ينطوي على مخاطر. تمتلك «إسرائيل» بعضاً من أكثر القدرات السيبرانية تقدماً في العالم، ومن غير المفضل دخولها من قبل الهواة أو المتحمّسين من دون خبرة فعلية في كيفية حماية أنفسهم من عمليات التعقب العكسي أو خطر الانكشاف.
في عصر الديجيتال، لم تعد الحرب مقتصرة على القنابل والأسلحة. تمتد ساحة المعركة إلى العالم الافتراضي، إذ تلعب المعلومات والمعلومات المضللة أدواراً متساوية في الأهمية. نداء «أبو عبيدة» هو تعبير عن فهم حقيقي لهذا الواقع الجديد، إذ إنّ النضال من أجل فلسطين لا يُقاتل فقط في شوارع غزة، بل أيضاً في شبكة واسعة من الخوادم، وقواعد البيانات، والمواقع الإلكترونية التي تشكل الإنترنت.
يستعد القراصنة، بقدرتهم على تجاوز أشكال الرقابة والسيطرة التقليدية، للعب دور متزايد الأهمية في الحروب الحديثة. وكما شهدنا في الحملات السيبرانية السابقة، مثل (OpIsrael)، فإنّ هؤلاء المحاربين الرقميين قادرون على تحدّي الاحتلال، وزيادة الوعي. من خلال دعوة القراصنة حول العالم، بعث أبو عبيدة رسالةً واضحة: المقاومة الفلسطينية لن تقتصر على الحدود المادية أو القيود العسكرية، بل ستمتد إلى الفضاء السيبراني.

علي عوّاد - كاتب عربي