«لا» 21 السياسي -
عام 1871م، في إقليم نينغشيا في شمال الصين، كان المرشد الخامس للطريقة الصوفيّة الصينيّة المسمّاة بـ«الجاهريّة» محاصراً في حصنه، وقد وصلت الحال الى حافّة اليأس. كان المرشد قد ألجأ عنده عدداً من المسلمين الفارّين، بعد تمرّدٍ فاشل ضد الدولة، وتعهّد بحمايتهم.
فلاحقهم الجيش الإمبراطوري ووضع أتباع الجاهريّة في مرمى الانتقام: حاصر مدنهم وقلاعهم وواجههم بقوّة فائقة وسدّ في وجههم السّبل. في ليلةٍ بعد اشتداد الحصار، وجيش السلطان معسكرٌ خارج الأسوار، توجّه المرشد - وكان اسمه ما هوالونغ - إلى الشّيخ، سائلاً إيّاه عن أثمن أضحيةٍ يمكن أن يقدّمها المرء في العيد. وبعد حوارٍ قصيرٍ مع الإمام يشرح المرشد أن الأضحية الحقيقية ليست حين تقدّم نعجةً أو ناقةً، بل هي تتمثّل في النبي إبراهيم حين سلّم ابنه للموت. ثمّ أضاف: «ومن أجل إنقاذ الجماعة، لقد قرّرت، فسوف أقدّم نفسي أضحيةً». ثم خرج برجليه من البوّابة وسار إلى جهة العدوّ ليسلّم نفسه إلى قائد المعسكر. لم يتمّ إعدام ما هوالونغ مباشرة، بل تمّ تعذيبه ببطء على مدى شهرين قبل أن يموت، وقد قتل الجيش الامبراطوري كلّ فردٍ من نسله تمكّن من الوصول إليه - أكثر من ثلاثمئة من أقاربه بالإجمال. ولكن على الرّغم من ذلك فإنّ تضحية المرشد قد أوقفت الحرب فعلاً، ونجَّت الجماعة من خطر الإبادة.
هذه من القصص الكثيرة التي يرويها الكاتب الصيني جانغ تشنغجي عن تراث الطريقة الجاهريّة في كتابه الشهير «تاريخ الرّوح». والجاهريّة طريقة صوفيّة دخلت إلى الصّين في القرن الثامن عشر عبر «وليّ» صينيّ ارتحل إلى اليمن وتعلّم فيها قبل أن يعود إلى بلاده ويؤسّس جماعته. واسم الجاهريّة يأتي من مبدأ «الجهر» بالمعتقد، ومذهبهم يقوم على أن تصمِّم حياتك بحسب قناعاتك والتعاليم التي تعتبرها أخلاقيّة، وأن تعيشها بوضوحٍ مهما كان الثّمن. لهذا السبب تُعلي الجاهريّة من مقام الشجاعة والتضحية، ولهذا أيضاً فإنّ لها سلسلةً من القادة – «مرشدين» - سقطوا كلّهم شهداء في وجه الدولة. وقد قرّر الكاتب الصيني جانغ تشنغجي، حين تعرّف إلى الطائفة وأصبح من مريديها، أن يكتب تاريخها عبر سلسلة المرشدين الشهداء، بدءاً من أوّلهم الذي قتلته دولة التشنغ في أواسط القرن الثامن عشر، ووصولاً إلى المرشد السابع الذي مات عام 1920م.
في إحدى زياراته إلى شمال الصين وجد جانغ نفسه، بالصدفة، في قريةٍ يسكنها مسلمون من الطائفة الجاهريّة، وبعد أن تعرّف إليهم واستضافوه مرّ هناك في ليلة شتاءٍ قارسٍ وعاصفة ثلجية، بتجربةٍ روحيّة يقول إنها بدّلت حياته: جعلته يعود إلى الإسلام ويعتنق الطريقة ويصبح فرداً من الجماعة. ثمّ جلس هؤلاء القرويون معه لأشهر وهم يروون له تاريخهم وقصص أسلافهم وتضحيات قادتهم، ليقوم جانغ بتدوين وتوثيق هذه الروايات ونشرها في كتابه الشهير «تاريخ الرّوح»، وهو خليط بين الرواية والتأريخ والأرشيف.
يكتب ستيفان هينينغ في دراسته عن الكاتب الصيني أن جانغ تشنغجي قد قارب تاريخ الجاهرية عبر تفسيرٍ خاصّ صاغه لمفهوم الأضحية والقربان الإبراهيمي. اعتبر جانغ أنه كان مقدَّراً أن يتم قمع الجاهريّة حتى تفرض الدولة الإمبراطورية كيانها وناموسها. الجماعة الصوفيّة، بمعنى آخر، هي بمثابة «قربان» كان لا بد من التضحية به لكي يحيا نقيضها، ولكي تلتئم الصين - الدولتية الماديّة - وتستقرّ كما هي.
قد نكون نحن أكثر من يفهم هؤلاء الناس في عصرنا الحالي، نحن الذين أصبحنا أعداء للنظام والسُّلطة في العالم بمحض وجودنا، وكوننا لم نتبع دين الإمبراطور. البارحة فقد الناس مرشدهم، لأنه كان النقيض الحقيقي لكلّ المنظومة التي تحيط بنا، وفي الأخلاق قبل السياسة. عبّر لي أحدهم قبل فترةٍ عن صدمته وخيبة أمله من رد الفعل العربي والشعبي تجاه مذبحة غزّة، وكيف أنه لا يرتقي البتَّة إلى مستوى الحدث وتاريخيته. هذا عندي ليس حكماً على الجماهير العربيّة و»الناس العاديّين»، الذين يفتقرون إلى التنظيم والتسييس، ويعيشون يومياً تحت حملات الإفقار والإخضاع والتضليل. بل هو دليلٌ على نجاح النظام العربي- «الإسرائيلي» في الهيمنة على الثقافة العربية خلال العقود الماضية، وإعادة تشكيلها- بشكلٍ جذريّ- وخصيها بالكامل. هو يظهر لك كيف أصبح المثقفون والنخب والفئات التي يفترض بها أن تشارك في التنظيم والتنظير وخلق حالة ثوريّة، إما يعملون في خدمة النظام، أو تم تحييدهم، أو دفعوا لمغادرة أوطانهم.
ثم لديك، على المقلب الآخر من كلّ هذا، الشهيد حسن نصر الله. كان بمجرّد وجوده عدوّاً ونقيضاً لهؤلاء وما يمثِّلون. حتى لو أنه لم يعادهم فهم كانوا سيعادونه. وهذا نوعٌ خاصٌّ، غريزي، من الخصومة. مع أنه سياسي ظاهراً إلا أنه يتجاوز السياسة: أنظر إلى العرب الذين أصبحوا تابعين، إلى الفئات البورجوازية الحقيرة في لبنان وغيره، إلى كلّ من اشتراه رأس المال الخليجي والغربي. خصومة هؤلاء مع الشهيد كانت أعمق من خصومتهم مع أيّ طرفٍ آخر، فهو لا يطرح برنامجاً سياسياً يعارضونه، بل يمثِّل نظاماً للحياة والعيش يتناقض بالكامل معهم ومع أسباب وجودهم. الموضوع هنا ليس «أيديولوجياً»: حين اجتمع هؤلاء كلهم على معاداة السيّد وحاربوه فهم كانوا، قبل أيّ شيء، يدافعون عن مصالحهم وموقعهم الاجتماعي، وهذه أبسط وأفعل أيديولوجيا في العالم (والرهان على القوّة لا يحتاج إلى كثير تفكيرٍ وتحليل). أنت تجد اليوم بينهم وبين «إسرائيل»، «وحدة حال» حقيقية لم يعد أكثرهم، لحسن الحظّ، يجهد في إخفائها.
ولهذا السبب فهم سوف يرمون الآن بكلِّ ما لديهم ضدَّكم، وأنا لا أقصد «إسرائيل» وحدها، فـ«إسرائيل» ليست سوى رأس الحربة. أنت تواجه منظومةً واحدةً متكاملة، تبدأ في واشنطن وتنتهي في الرياض وأبوظبي. وإن نظرت إليهم على أنهم متفرّقون ومتمايزون فهم بالمقابل يعملون ضدّك سويّة وبتنسيق، وكلما فهمنا هذا الواقع أسرع كلّما كان أفضل. لا يمكن أن تنتصر في مواجهةٍ وصراع إن سمحت لخصمك بأن يحدّد لك ميدانها. أكثر من ذلك: إن كان هناك من درسٍ لأحداث السنة الماضية، يجب أن يعرفه كلّ فلسطيني وعربي، فهو ليس دعوةً لـ«التعقُّل» والخضوع، بل على العكس تماماً. ما حصل في غزّة ولأهل غزّة لم يحصل مثله لا في العراق ولا في سوريا ولا أيّ مكانٍ آخر في بلادنا المنكوبة. المعنى هنا هو أنّ كل تراكم ٍللقوة الأمريكية في المنطقة سيدفع ثمنه، أولاً، الفلسطينيون، وسيترجم إبادةً وعنفاً جماعياً ضدّهم قبل أيّ طرفٍ آخر. إن كان هناك من درسٍ هنا فهو في التخلّي عن وهم «التوفيقية» واختيار الطريق الوسط، فهو غير متاح. فكرة أن قضية فلسطين قد تحلّ من تلقاء نفسها، بالمناورات والتفاوض أو الفهلوة، أو في انتظار شيءٍ وصفقة يمنُّ علينا بها الغرب. أو باختصار، النمط الشائع بأنك تريد أن تحرّر فلسطين وأن يتوظّف ابنك ويعمل، في الوقت نفسه، في الإمارات ودبي. إن لم تجعل حرب غزّةٍ هذه الأمور واضحة لك فلا شيء سيفعل ذلك.
لا يقدر المستكبرون على إزالة الفعالية عن شعبٍ عبر قتل قادته. بل عبر تجريده من التنظيم وتفكيك قدراته الجماعيّة، وقبل أيّ شيء، عبر جعل النّاس يتخلّون عن المبدأ ويخافون ويتعلّمون الامتثال. بالمعنى التاريخي، نحن لا زلنا في البداية، والحرب الكبرى التي تجري لا تزال في أولها. سوف تظهر الأيام والسنوات القادمة المعنى الحقيقي لحياة السيّد حسن نصر الله ومعنى شهادته. في الصين اليوم لا تزال الطريقة الجاهريّة موجودة، وأتباعها يعدّون بمئات الألوف، ومن تقاليدهم أنهم ما زالوا، مع كلّ صلاة صبحٍ، يردّدون دعاءً موجّهاً لمرشدهم الخامس الشهيد، فيستذكرون في تسعة وخمسين ثانية، الأيام التسعة والخمسين التي قضاها المرشد في الأسر. الشهيد حسن نصر الله، بالمقابل، سوف تبكيه أمّةٌ كاملة من الناس، جلّها من الفقراء والمستضعفين. بعضهم سيبكي في صمتٍ وبعضهم الآخر في السرّ. أما عن أعدائه وقتلته، فنحن والزمن كفيلون بهم.

عامر محسن كاتب لبناني