دمشق - خاص / لا ميديا -
تنقل تقارير إخبارية أن الرئيس السوري السابق بشار الأسد قال للرئيس الروسي فلاديميير بوتين، في آخر لقاء بينهما، إنه لا يستطيع -لأسباب عديدة- توقيع اتفاق سلام مع «إسرائيل»، فكان رد الرئيس بوتين: «حسناً».
ما لم يقله بوتين في تلك اللحظة كان أهم مما قاله؛ لأن استكمال قراءة ما وراء رده على الأسد، بعد ما شهدنا من تطورات متسارعة في سورية، كان: «حسناً، فليكن غيرك»؛ إذ لم يطل الوقت بعد هذا اللقاء حتى حصل التغيير الدراماتيكي في سورية، بسقوط الرئيس الأسد ووصول «هيئة تحرير الشام» والفصائل المسلحة المتحالفة معها إلى دمشق، ووصول رئيس الهيئة، أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع)، إلى القصر الجمهوري وتولي السلطة.
بالتأكيد هذا الكلام لا يعني أن قرار التغيير صدر من موسكو، أو أن موسكو تآمرت على الرئيس الأسد؛ لكن المؤكد أن هناك قراراً إقليمياً ودولياً كان قد اتخذ، وبمعرفة موسكو، بالتغيير في سورية، وكان دور بوتين نقل آخر رسالة إلى الأسد، وما تلا ذلك من أحداث أصبح معروفاً.
كانت أول التصريحات التي صدرت عن الشرع، وغيره من القادة الجدد في دمشق، أنهم ليسوا على عداء مع أحد، ولن يشكلوا تهديداً لأحد من جيرانهم. وواضح لكل من يعرف الوضع الجيوسياسي لسورية أن المعني بهذا الكلام هو الكيان الصهيوني لا غيره؛ لأن سورية لا تصنف أحداً من جيرانها في باب العدو، بمن فيهم تركيا، سوى الكيان «الإسرائيلي».
ما تلا ذلك، من تصريحات وتحركات ولقاءات، أكد أن السلطة الجديدة في سورية تعني ما تقول، وأنها منخرطة بقوة في قرار السلام والتطبيع مع الكيان الصهيوني، والدخول في «الاتفاق الإبراهيمي»، وهو ما كانت تنتظره الدول الإقليمية السائرة في هذه السياسات؛ لأن هذا المسار لا يمكن أن يأخذ مسار التسارع والتطبيق الكامل بدون سورية.
ولم يكد يمضي سوى وقت قليل، بعد التغيير في دمشق، حتى بدأت الأخبار تتناقل -بدون إعلان أو تبنٍّ رسمي، سواء من دمشق أو «تل أبيب»- عن زيارات ولقاءات سياسية وعسكرية سورية – «إسرائيلية»، بعضها في الجانب السوري من الحدود، وبعضها في دمشق وفلسطين المحتلة، وبعضها في دولة ثالثة، مثل تركيا والإمارات وأذربيجان. وتأكدت هذه الأخبار من النتائج التي رأيناها على الأرض، وكان أبرزها نقل رفات الجندي الصهيوني تسيفكا فيلدمان، الذي قُتل خلال الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982، واستعادة أكثر من 2500 وثيقة من وثائق الجاسوس «الإسرائيلي» إيلي كوهين، الذي أعدم في دمشق عام 1965، كانت محفوظة في الأرشيف الرسمي السوري، وأكدت وكالة «رويترز» نقلا عن مصادر سورية أن عملية التسليم كانت بمبادرة من جانب الحكومة السورية.
السلام والتطبيع بين الجانبين يقتضي -وفق الرؤية الصهيونية- أن تكون سورية -كما الأردن ولبنان- بدون جيش يستطيع شن هجمات على «إسرائيل»، ولا حتى الدفاع عن دمشق والأراضي السورية. ولهذا لم تمض سوى أيام قليلة بعد سقوط الأسد حتى شن الجيش «الإسرائيلي» مئات الهجمات الجوية، قام خلالها بتدمير كل ما يمكن تدميره من المعدات العسكرية ومخازن الأسلحة والطائرات والمطارات ووسائل الدفاع الجوي ومراكز البحوث السورية، وبدون أن يصدر أي موقف من القيادة السورية الجديدة، أو من أي جهة إقليمية أو دولية. وهذا يؤكد أن التصرف «الإسرائيلي» لم يكن منفرداً، وإنما هو بموافقة من كل القوى والدول المعنية بشؤون سورية والمنطقة.
كما تحرك الجيش «الإسرائيلي» لاحتلال أماكن استراتيجية في منطقة الجولان كانت بيد الجيش السوري، ودخل إلى مدينة القنيطرة المحررة، ومناطق بجوارها، وأعلن قادة «إسرائيل» السياسيون والعسكريون صراحة أنهم لن يسمحوا بتمركز الجيش السوري في منطقة الجنوب المحاذية للجولان وفلسطين المحتلة، كما لن يسمحوا بوجود أسلحة تهدد كيانهم.
ما جرى من تحركات سياسية وعسكرية لاحقة، أكد أن هذا التطور الدراماتيكي في العلاقات السورية - «الإسرائيلية» لم يكن وليدة لحظته، وإنما يأتي وفق رؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وتياره السياسي والاقتصادي، للشرق الأوسط الجديد، والقائمة على نقل الصراع والوضع في المنطقة من الجانب العسكري، كما كانت تنص خطط «الشرق الأوسط الجديد» وفق رؤية اليمين الأمريكي المحافظ منذ وصوله إلى إدارة البيت الأبيض مع إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، إلى الجانب السياسي والتنمية الاقتصادية، وهو ما يعني «شرق أوسط جديد» (من الفرات إلى النيل، وجوارها) بقيادة «إسرائيل»، قائماً على التعاون السياسي والاقتصادي، بدل الصراع العسكري.
الرؤية الترامبية، التي جاءت بعد أحداث عديدة - أبرزها تداعيات «طوفان الأقصى» وحرب أوكرانيا وصعود الصين وتراجع المكانة الجيوسياسية لأوروبا، ظهرت بوضوح خلال زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية ولقائه هناك رئيس السلطة الانتقالية في سورية، أحمد الشرع، وإعلانه من هناك رفع العقوبات عن سورية، والتصريحات اللافتة للمندوب الأمريكي إلى سورية، توماس باراك، الذي تحدث عن انتهاء مفاعيل «سايكس – بيكو»، وتصريح مستشار الرئيس الروسي، سيرغي كاراجانوف، بأن «الشرق الأوسط سيكون المكان المزدهر البديل لأوروبا»، وهذا يؤكد تلاقي رؤية الرئيسين ترامب وبوتين حول مستقبل منطقة «الشرق الأوسط» والأزمة الأوكرانية ومكانة أوروبا بشكل عام.
هذه الرؤية لـ»الشرق الأوسط الجديد»، وفق التيار الترامبي، تؤكد أنها كانت وراء التغيير في سورية، لاستحالة تحقيقها بدون سورية؛ فلا استقرار في المنطقة بدون سورية، ولا تنمية ومشاريع اقتصادية بدونها.
بدا ذلك واضحاً من خلال وضع التطبيع بين سورية والكيان الصهيوني، ودخول سورية في «الاتفاق الإبراهيمي»، كشرط رئيسي لرفع العقوبات الأمريكية والأوروبية عنها. وكل الدلائل تؤكد أن حكومة الشرع ماضية في هذا الاتجاه. لكن اللافت أن التطبيق العملي لهذه الشروط، والانفتاح على سورية، يتسارع أكثر مما كان يتوقعه حتى أكثر المتفائلين بهذا المسار.
العلاقات السورية - «الإسرائيلية» يبدو أنها وصلت إلى مرحلة متقدمة، وباتت على بعد خطوة واحدة من انتقالها إلى العلن، وبشكل رسمي، وهي بانتظار نضج الظروف الداخلية والإقليمية والدولية لإعلان هذه الخطوة، التي تبدو أقرب مما نتوقع بكثير.