فقط لأنه اليمن
 

عبدالباسط السلامي

بلد صغير وفقير.. حين تقاس المساحة بالأميال المربعة التي بقيت ليوسف ولم يقتطعها إخوته بالحروب والمؤامرات والاستقواء، أو بالصمت والاعتراف بالكيانات والدويلات والممالك التي ظلت تنهش في خارطة الدولة اليمنية ما قبل مارس 2015م، أو ما قبل فبراير 2011م، باعتباره تاريخاً أدق لبدء العدوان والتدخل العسكري المباشر.
وصغير.. بمدى ما يتيح له النظام الدولي الرأسمالي الانتهازي من أدوار بالنيابة، ومدى إيغاله في التاريخ كبانٍ لواحدة من أعرق الحضارات إن لم تكن الأعرق والأثرى والأكثر عمقاً وتنوعاً وعظمة وخلوداً.. وفقاً لمعايير هذا النظام وهذا الحلف المسيطر على ثروات ومقدرات الأمم، والمحتكر للنفوذ والقرار على المستوى الدولي وعلى مستوى الدول والمجتمعات البشرية.
وصغير.. بقدر ما يمنح هذا الحلف وهذا النظام صكوك عفوه وغفرانه وتذاكر العبور لكيانات أخرى مصطنعة ولقيطة بمستوى ضآلة مخزونها الحضاري والأخلاقي، وتجذُّر إحساسها كدولة وشعب وتاريخ بالنقص وهشاشة الإرث والبنية والكيان والأحلام والإبداع والفنون، وهي أمور وشروط لو توفرت لهذا البلد (اليمن) لكان كبيراً باحتياجه للاحتماء والتطفل على سواه من الدول والأحلاف المهيمنة على النفوذ والقرار الدولي.. كما اندفاعه الفطري لتضخيم الذات واستعراض الاكتفاء حد التخمة بالوفرة والاستمتاع بما لذَّ وطاب من منتجات الأمم من سلع مادية لا حصر لها في صدارتها نهود القاصرات وفق ثقافة تقوم على تسليع الحياة والأخيلة والغيب والشهادة بلا استثناء من المقدس إلى المدنس، بما في ذلك الخالق العظيم والسياسي اللئيم، وشفاه وقلم الإعلامي الزنيم، على نحو ما يحدث للدويلات والممالك الطارئة في صحارى النفط والغبار والأعراب الخليجية، وعلى منطق لا يفرق البتة بين آخر صيحات الأزياء وأحدث تفحيطات السيارات وآخر نهد طفلة في بلد فقير أو متاح أو قصيّ.
هذا الحرص على ادعاء وإظهار واستعراض الاكتفاء يأتي في سياق نفي الحاجة إلى هوية أصيلة، ونفي الافتقار إلى الحد الأدنى من ركائز وأسس وملامح يمكن أن تقوم عليها أية هوية.
وبلد فقير.. حين لا يُلتفت لرصيدك كـ(بلد، شعب، دولة) الثقافي، ورصيدك الإنساني والحضاري، وتاريخك الطويل في التعايش وقبول الآخر والكفاح الشريف، ولا يُلتفت لحقوقك وقدراتك وموقعك في الزمان والمكان والأحداث، وغناك العام، ولا يُلتفت لاعتدادك باستقلال قرارك واعتدادك بتعريفك السيادة باعتبارها الحق والضرورة والوجود.
وفقير حين تعامل هذه الأرصدة بإهمال وتجاهل ما يجعل شواهد العظمة والثراء الأصيل المكافح والصابر باعتبارها شهادات دامغة على الاضمحلال والخواء وعدم الأهمية وانتفاء الاستحقاق لأيٍّ من حقوق النماذج المقابلة، بما في ذلك الحق في الحياة /البقاء /الوجود.. واستيجاب اللعنة الأممية بإرادة وقرار تحالف مصارف واحتكارات وأرصدة وسبائك وسلطات دولية تفرض السوق ونمطه وتحكمه، وتعبث بجغرافية الكوكب والحياة والإنسان، ويدخل في ذلك المؤسسات والمنظمات والهيئات التي تُعرض كمنابر تمثل كافة الدول والشعوب والثقافات، ومعنية بتنمية الروابط والعلائق بغرض تحقيق العدالة في التمثيل والحماية واتخاذ القرار، ويظهر دورها الحقيقي في مواقف وتصرفات وممارسات هذه الأشكال إزاء القضايا والأحداث والمشكلات بين الدول والجماعات، وتعمل مع الحلف طبقاً لتعريفات وتعاليم تؤكد - بفجاجة - أحقية مئات من المحتكرين وأرباب المال وعشرات من الشركات الاحتكارية التي تصادر البلدان، بقرارها وسيادتها وثرواتها وغالبية أهلها.
ويملك ويستخدم الحلف الدولي بأذرعه السياسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية، آلة إعلامية هائلة تعرض وتقدم أبشع وأقذر وأحطَّ القيم والممارسات وأقساها (كقدس أقداس) التحضر والتمدن والطهر والتضحية والحق والخير والجمال.
بلد صغير وفقير، لكنه اليمن، فعلى الرغم مما سلف، ورغم وضعه المادي المزمن، والقيود التي فرضها التصنيف الدولي لتحالف المال والنفوذ والقوة، وبالنظر لجملة عوامل ذاتية وموضوعية وروحية جغرافية واجتماعية ثقافية، يمكننا وبقليل من الكلمات وكثير من التأمل، أن نرى يمناً يوشك على استكمال صورته وهيئته، ونرى ملامح وطن قاب قوسين أو أدنى من إتمام تحرير روحه، يزيح آخر الغشاوات عن عينيه، ويمزق آخر قيود تعيق روحه الوثاب ليذهب بعيداً وعالياً.
نرى اليمن يحرق آخر ريشة هرم وآخر ليلة شيخوخة طال أمدها، لينبعث جديداً وشاباً وحراً وسيداً على نفسه وحقه ومستقلاً بإرادته وقراره.
وملامح النجاح تلوح في ملاحم الصمود، وهو يتحدى أبشع صور الإجرام والقسوة والحصار والحرب الهمجية في عدوان يستهدف استئصال أمة تأبى ويأبى عليها تاريخها وشرفها وعمرها الممتد بعيداً في الصدارة، وعالياً في الحضارة، وعميقاً وعظيماً وشاهداً ومنارة.
بلد صغير.. وفقير، لكنه اليمن، شعبٌ فتح ذراعيه للسلام، وأقسم ألا ينحني. وطن يدافع عن اسمه وروحه وكرامته وذرات رمله.
بلد صغير وفقير ينوب عن قارات وشعوب، ويرى ذلك واجباً يمارسه أصالة عن أصل الحضارة وأصل الإيمان وأصل الحياة. يواجه أكبر جيوش وأنظمة وأرصدة ومسوخ الأرض أصالة عن نفسه، ولكن.. كيف يحدث هذا؟ فقط لأنه اليمن.
يبلغ هذا المستوى الأسطوري من الثبات والاستعصاء والحنكة والصبر والتضحية والشموخ والاقتدار على الإنجاز والإعجاز وإذلال الحلف بعديد جنوده ولا محدود عتاده وإمكاناته.
يحدث ذلك، ويراق الكثير الكثير من الدم اليمني على جوانب الشرف الرفيع، ويقتحم الجندي والمقاتل اليمني بسلاحه الشخصي أحصن مواقع العدوان، والموت يترصده في الجهات الـ6.. يجترح جيش اليمن ولجان الشعب وقبائل البلد كل هذا الصمود وهذه العظمة والبطولة، دون أن يخسروا قطرة من رصيد أخلاقهم وتساميهم عن مجاراة المعتدين.. محتفظين بسجل حافل بالعظمة وشرف الخصومة واحترام المواثيق والعهود التي نسيها وباعها وتبول عليها المجتمع الدولي المفتري.
بلد صغير وفقير.. لكنه اليمن، فتأملوا سورة الصمود، وصورة يمن يوشك أن يعود.

أترك تعليقاً

التعليقات