احمد الحبيشي

تعزيزاً لما تقدّم يمكن العودة الى ابن قتيبة الذي أورد في كتاب (الإمامة والسياسة - الجزء الأول، ص90) أن معاوية طلب من أبي هريرة - وكان صديقـاً حميمـاً له قبل أن يعتنقا الإسلام معاً في السنتين الأخيرتين من حياة الرسول ـــ بالإضافة إلى كعب الأحبار وأبي الدرداء، أن يذهبوا إلى الخليفة علي بن أبي طالب كممثلين عنه، ويطلبوا منه أن يدفع إليهم قتلة عثمان، لكن علي بن أبي طالب لم يكتفِ برفض الطلب، بل قام بطردهم، مذكراً إياهم بحربهم على الإسلام، وما عاناه الرسول من أذى على أيديهم. ولم ينسَ علي بن أبي طالب أن يذكر كعب الأحبار بأن عمر بن الخطاب كان يزجره بسبب إسرافه في رواية الأحاديث التي ينسبها الى رسول الله، مع أنه لم يترك الديانة اليهودية التلمودية ويعتنق الإسلام إلا بعد عدة سنوات من وفاة الرسول!
وإلى هذه الواقعة يعود الدور المركزي الذي لعبه أبو هريرة وكعب الأحبار وأبو الدرداء في رواية أخطر الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، وأكثرها إثارة للجدل والخلاف، والتي انقسم وتـقاتـل بسببها المسلمون بعد أن أفادت معاوية بن أبي سفيان عقب استيلائه على الحكم وتحويله إلى نظام وراثي ملكي. وقد لعبت الأحاديث والروايات التي رواها أبو هريرة وكعب الأحبار وأبو الدرداء، الى جانب عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأوزاعي الذي وضع حديث حد الردة، دوراً أساسياً في تأسيس المذهب الملكي السُّني.
ومما له دلالة أن الخليفة علي بن أبي طالب حرص على الاستشهاد بالأعراف الانتخابية التي استقرت في الحياة السياسية لدولة الخلافة الراشدة منذ انتخاب أبي بكر الصديق، وهو حق أهل المدينة باختيار الخليفة، وسريان مفعول البيعة في المدينة على سائر الأقطار، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تلك الأعراف لم تكن وحيـاً منزلاً من السماء أو امتداداً للسيرة النبوية المطهرة، وإنما هي نتاج موضوعي للواقع نتيجة لعدم توافر وسائل المواصلات، وعدم نضج الشروط الهيكلية للدولة الجديدة، على الرغم من وجود إمكانية انتخاب ممثلين لزعماء القبائل والمدن والأقاليم المختلفة، ودعوتهم للاجتماع في المدينة، أو إرسال مندوبين عنهم. ولكن محددات الوعي السياسي العام والأعراف الدستورية المكتسبة آنذاك، لم تكن في ذلك العصر تسمح بالتعاطي مع هذا النوع من الاتفاق العام بين جميع المدن والأقاليم لضمان أوسع بيعة جماعية للخليفة الجديد. فقد انحصرت تلك المحددات في أن يوكل أمر انتخاب الخليفة إلى أهل المدينة المنورة في (مركز دولة الخلافة) بمعنى العاصمة، وهو ما يفسر استشهاد الخليفة علي بن أبي طالب ببيعة الخلفاء السابقين في المدينة كسوابق دستورية متعارف عليها، ورفضه حق الغائبين بالرفض والخروج على الخليفة الذي تمت بيعته.
ومن جانبه، كان معاوية يشكك بحق المهاجرين من قريش إلى المدينة في اختيار الخليفة علي بن أبي طالب، بحجة مشاركتهم في الثورة على عثمان بن عفان وقتله بوحشية، فكتب إلى علي بن أبي طالب قائلاً: (لعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك وأنت بريء من دم عثمان، كنت كأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، ولكنك أغريت بعثمان المهاجرين وخذلت عنه الأنصار.. وقد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان، وقد كان أهل الحجاز [المهاجرون] الحكام على الناس وفي أيديهم الحق، فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام)..
فرد عليه الخليفة علي بن أبي طالب: (ما أمرت فيلزمني خطيئته عثمان، ولا قتلت فيلزمني قصاص القاتل. أما قولك إن أهل الشام هم الحكام على الناس، فهات رجلاً من قريش الشام [الطلقاء] يقبل في الشورى لو تحل له الخلافة، فإن سميت كذبك المهاجرون والأنصار). وقد أكد هذا المعنى عبدالله بن عباس في جوابه على رسالة تحريضية وصلته من معاوية قال فيها: (إن الخلافة لا تصلح إلا لمن كان في الشورى، فما أنت والخلافة وأنت طليق الإسلام وابن رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر) (ابن قتيبة - الإمامة والسياسة، الجزء الأول، ص155).
وبحسب ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة)، فقد أصاب اليأس معاوية بن أبي سفيان، من استجابة علي بن أبي طالب لشروطه ومطالبه، فطرح فكرة الاستقلال بالشام، وقال لأحد الوسطاء: (اكتب إلى علي أن يجعل لي الشام ومصر جباية)، ولكن الخليفة علي بن أبي طالب رفض هذا الطلب أيضـاً، الأمر الذي دفع معاوية إلى إعلان نفسه خليفة على المسلمين، وأخذ البيعة لنفسه من أهل الشام فقط، في الوقت الذي كان يوجد فيه خليفة شرعي لعامة المسلمين في الحجاز ومصر والعراق واليمن وبلاد فارس وسائر الأمصار الإسلامية، وهو ما كان بمثابة انتهاك لقانون دستوري إسلامي يحرم قيام خليفتين في وقت واحد، ما أدى إلى إشعال نيران حرب داخلية ضروس بين المسلمين، استمرت سنوات طويلة، وقضت على أكثر من 100 ألف مسلم من الطرفين، وانتهت بانتقال مركز الخلافة إلى دمشق على يد معاوية بن أبي سفيان، وتحولها الى نظام ملكي وراثي، قبل أن يخترع فقهاء المذهب الملكي السُّني في وقت لاحق حديثـاً نسبوه إلى النبي (إذا تنازع على البيعة خليفتان فاقطعوا عنق الثاني)، وفي رواية أخرى (إذا تدافع وبويع على الخلافة اثنان فاقطعوا عنق الآخر)، وهو حديث ظهر لأول مرة بعد مبايعة أهل مكة والمدينة لـلصحابي عبدالله بن الزبير، ومبايعة أهل الشام لعبدالملك بن مروان في وقت متأخر بعد مقتل والده في دمشق، الأمر الذي ترك بصماته على نشوء وتطور المذهب الملكي السُّني منذ بداياته الأولى، وحتى استقراره في صيغته الحنبلية الراهنة على أيدي أحمد بن تيمية الحراني ومحمد بن عبدالوهاب النجدي.
ومن المعروف أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان - بما هو أكبر وأشهر الفقهاء المؤسسين للمذهب الملــكي الســني -ولد سنة 26 للهجرة، وتربّى في المدينة المنورة، حيث كان أبوه مروان بن الحكم والياً عليها في عهد معاوية بن أبي سفيان، فدرس (عبد الملك) في المدينة علوم القرآن واللغة العربية، وتفوق فيها، وانتقل إلى دمشق، ودرس في مجالس فقهاء النظام الأموي، وعلى رأسهم الأوزاعي، حتى أصبح من كبار الفقهاء المؤسسين للمذهب الملكي السُّني، ثم تكونت شخصيته السياسية القيادية - الى جانب مكانته الفقهية ـــ في دمشق حاضرة الدولة الأموية. وهو فوق ذلك شاعر وأديب وخطيب مفوّه. كما لقب بـ(أبي الملوك)، إذ إن 4 من أبنائه تولوا الخلافة وراثة من بعده وهم (الوليد، سليمان، يزيد الثاني وهشام)!
وتروي كتب التاريخ المعتبرة عند أهل السنة، وفي مقدمتها كتب الطبري وابن الأثير وابن كثير وابن خلدون، أن عبد الملك بن مروان ورث الخلافة بعد مقتل والده مروان بن الحكم، وكانت الدولة الإسلامية في بداية توليه الحكم منقسمة بين خلافتين: الأولى ممثلة بالدولة الأموية وكانت تحكم مصر والشام، أما الثانية فقد كانت تحكم العراق والحجاز والطائف واليمن وعُمان تحت خلافة عبد الله بن الزبير الذي كان يدير خلافته من مكة بعد أن تمت بيعته في مكة والمدينة قبل شهر من مبايعة أهل الشام لعبدالملك بن مروان الذي بعث بالحجاج بن يوسف الثقفي فور توليه الحكم، لكي يبسط نفوذ الأمويين على كامل أراضي العراق والحجاز، حيث خرج الحجاج بن يوسف الثقفي إلى العراق، وهزم والي البصرة، ثم توجه بجيشه إلى الطائف، وانتظر الخليفة ليزوده بمزيد من الجيوش، فتوالت الجيوش إليه حتى تقوّى تماماً، فسار إلى مكة وحاصر ابن الزبير فيها، ونصب قذائف المنجنيقات على جبل أبي قبيس وعلى قعيقعان. ودامت تلك الحرب عدة شهور تعرضت فيها الكعبة المشرفة لقصف شديد بنيران المنجنيق من قبل جيش عبدالملك بن مروان، وانتهت بقتل عبدالله بن الزبير حفيد الصحابي الجليل والخليفة الراشد أبي بكر الصديق، بطريقة وحشية وغير إنسانية كانت سبباً في وفاة أمه أسماء ذات النطاقين ابنة أبي بكر الصديق، وأخت عائشة بنت أبي بكر، وزوجة الزبير بن العوام أحد العشرة المبشرين بالجنة، حزناً وكمداً على ابنها.
وعند أول حج للخليفة عبدالملك بن مروان بعد مقتل عبدالله بن الزبير، وقف ــ وهو المعروف بأنه الأكثر ورعاً وفقهاً وتقوى - ليخطب أمام الناس بعد أن وضع قدميه فوق قبر ابن الزبير، قائلاً: (والله لو أن أحدكم أمرني بتقوى الله لقطعت عنقه بحد هذا السيف)، الأمر الذي يحفزنا للتوجه نحو مزيد من المقاربة الموضوعية لمسار نشوء وتطور المذهب الملكي السُّني.
ومما له دلالة أن البيعة بعد تحول الخلافة إلى نظام ملكي وراثي، ارتبطت بإجبار الناس على الاستحلاف بالله للتأكد من ضمان ولائهم للحكام، وهو ما لم يكن الناس يجبرون عليه بعد أداء البيعة في عهد الخلفاء الراشدين الأربعة. وقد بدأ هذا التحول في عهد معاوية بن أبي سفيان الذي أخذ البيعة بالإكراه، ثم استحلف الناس بالله بعد البيعة على طاعته، وتبعه في هذه السنة الملكية ابنه يزيد وبقية الحكام الأمويين والعباسيين والسلاجقة والمماليك وملوك وسلاطين دول الطوائف الذين استولوا على السلطة بالقوة والغلبة.
وقد تطورت أشكال البيعة من الاستحلاف بالله إلى الاستحلاف بالطلاق والعتاق، حيث أورد أحمد بن عبدالله القلشقندي في كتابه (مآثر الإنافة في معالم الخلافة - الجزء الثاني - ص260) نموذجـاً للبيعات القسرية المرتبطة بالاستحلاف، كأن يقال: (أنا فلان بن فلان أبايع أمير المؤمنين فلانـاً بن فلان الذي ولاه الله واصطفاه وارتضاه خليفة له، وجعل طاعته موجبة على الخلق، وأقسم بالله على السمع الطاعة لما يقوله الأمير.. فمتى ابتعدت عن هذه المحجة أكون قد جحدت الله ربوبيته، وأنكرت وحدانيته.. وكل ما أحله الله لي محرم عليّ، وكل ما أملكه يوم رجوعي عن هذه البيعة وهذه المحجة من مال موجود ومذخور ومصوغ ومضروب وسارح ومربوط وسائح ومنقول وأرض وضيعة وعقار وعقدة ومملوك وأمة وصدقة، محرم على مر السنين. وكل امرأة أتزوجها طالق ثلاثـاً بتاتـاً طلاق الحرج والسنة لا رجعة فيها، وهذه اليمين أحلف بها وأقولها قولاً فصيحـاً، ولا يقبل الله مني توبة ولا رجعة ولا إقالة عثرة.. وأشهد الله على بيعتي واستحلافي، وكفى بالله شهيدًا).
ومن المفارقات العجيبة أن المواطن العادي كان يبايع الحاكم بحلف اليمين المغلظة على الطلاق والعتاق وغضب الرحمن.. لكنه لم يكن يأخذ بالمقابل عهدًا من الحاكم بأن يلتزم بشيء يضمن له العدل، لأن ثمة حديثاً اخترعه فقهاء الاستبداد ونسبوه إلى الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، يلزم الناس بالسمع الطاعة للحاكم الظالم، والصبر عليه حتى وإن جلد ظهورهم ونهب أموالهم، وهو ما أدى إلى تكريس ثقافة الاستبداد وثقافة الخضوع التي صرفت الأمة عن مراقبة الحكام وتقويمهم بالنقد والمعارضة.

أترك تعليقاً

التعليقات