عارف شكيب

عارف شكيب / لا ميديا -
مجرد محاولة في سطور قد تخفف شدة الحزن وتجمع شتات الفراق وألم رحيل معلمنا العظيم ووطننا الكبير عباسنا الزريقي..!
في يوم الثلاثاء الحزين والمؤلم رحل عنا معلمنا الثقافي وملهمنا الفكري والفلسفي والسياسي المخضرم، المناضل المرحوم الدكتور المهندس عباس محمد صالح الزريقي. رحل عنا ومن حياتنا، بعد صراعه مع المرض، تاركاً خلفه أثراً وفجوة كبيرة لا يمكن ملؤها.
ولد معلمنا منتصف القرن الماضي في عزلة الصنعة زريقة مديرية الشمايتين محافظة تعز، وسافر في صغره إلى جمهورية جيبوتي الشقيقة هاربا من عصر الظلام والجهل والفقر ليتلقى تعليمه الأولي في مدرسة النجاح الإسلامية، وبعد قيام ثورة الــ26 من سبتمبر المجيدة عاد إلى اليمن وبالتحديد إلى مدينة تعز وأكمل تعليمه الإعدادي والثانوي في مدرسة الشعب بداية سبعينيات القرن الماضي، وقد كان الكثيرون آنذاك لا يكملون دراستهم الثانوية، حيث بلغ عدد الحاصلين على شهادة الثانوية عندما تخرج عباسنا ما يقارب 17 طالبا في جميع محافظات شمال اليمن..!
في فترة دراسته الثانوية تأثر بالحركات الإسلامية ورموز الفكر الإخواني كسيد قطب والبنا، ولكن سرعان ما تراجع عن ذلك ومن ثم تأثر بالفكر اليساري الاشتراكي.
وقد كان عباسنا شغوفا يحب القراءة والمطالعة منذ نعومة أظافره حيث ظل صديقا ورفيقا للكتاب أينما حل وارتحل.
حصل على منحة دراسية في الاتحاد السوفيتي سابقاً، في قسم الهندسة المدنية بكلية الهندسة بجامعة موسكو، نال درجة الماجستير واستقى من الاتحاد السوفيتي الفكر اليساري الاشتراكي، عاد إلى عاصمة اليمن صنعاء وعمل فيها فترة بسيطة وكذلك عمل في المحافظات المجاورة لصنعاء كصعدة وغيرها مشرف مشاريع حكومية حتى منتصف الثمانينيات، سافر مرة أخرى إلى موسكو لإكمال دراساته الأكاديمية ونال شهادة الدكتوراه في الهندسة المدنية، مكث في روسيا ومنها تنقل وزار الكثير من البلدان الأوروبية وبلدان شرق آسيا وتعرف على ثقافاتها حتى بداية التسعينيات عاد إلى اليمن، وبسبب خوف النظام الحاكم باليمن آنذاك من الفكر اليساري الاشتراكي بوجه عام وخريجي الاتحاد السوفيتي بوجه خاص لم يحصل عباسنا على وظيفة تليق بمقامه الأكاديمي كدكتور جامعي..!
تم توظيفه في قطاع البلدية، مكث قليلا في صنعاء وطلب دكتورنا أن يتم نقل وظيفته إلى محافظة تعز، وفعلا كان له ما يريد، وظل يخدم في قطاع البلدية في المحافظة بكل شرف وأمانة فلم يخن ولم يرتش فلسا واحدا، ظل نزيها نظيفا بسيط الحال لا يملك سوى راتبه، نعم راتبه فقط، وكغيره من الشرفاء البسطاء استأجر شقة بسيطة له ولأسرته، وفي شقته المتواضعة كان يملك ديوانا يجتمع فيه كل المثقفين والسياسيين والشعراء والأدباء مع اختلاف أفكارهم وتوجهاتهم ومناطقهم، ففي ديوانه يجتمع كل أفراد الوطن، نعم الوطن كله من صعدة إلى المهرة..!
كان عباسنا شخصية استثنائية، يتحدث بحب وعاطفة عن الثقافة والفنون والأدب والسياسة والفلسفة والمنطق والفكر والتاريخ وغيرها الكثير، فهو عبارة عن مكتبة متنقلة تحتوي على الآلاف من الكتب والمجلدات بصورة إنسان يمشي على الأرض، كان يلهمنا بأفكاره وتفاصيلها الرائعة، كان يجبرنا على التفكير بعمق والبحث عن الجوهر الحقيقي للأشياء، وكان يدعونا للتفكير في الحياة والوجود والمعنى الحقيقي للوجود.
في ديوانه كانوا يأتون إليه ليجدوا عنده ضالتهم، فيستقوا من ثقافته وفكره فقد كان يساريا ليس كاليساريين، لا يحب التعصب ولا يغلق فكره في البحث والقراءة في الفكر اليساري فقط، بل كان يقرأ ويطالع كل فكر يخالف فكره اليساري، فيعجب بإيجابيات ذلك الفكر، ولا يكترث في انتقاد سلبيات فكره اليساري، كان بكل اختصار رجلا منطقيا لا يخالف العقل..!
وقد كان ديوانه بمثابة صرح جامعي أكاديمي تخرج منه عشرات الأدباء والسياسيين والشعراء والصحفيين والذين أصبحوا اليوم شخصيات مؤثرة كلا في مجاله وعمله..!
وعند اندلاع العدوان في تعز عام 2015 وبسبب مواقفه تجاه ما تسمى "المقاومة" وتعرضه للتهديد والتصفية من قبل مرتزقة المدينة اضطر للنزوح إلى صنعاء حتى فارق الحياة فيها بتاريخ 16 مايو 2023 كنازح خفيف الظل، رزين الفكر، قوي المنطق غزير الثقافة.
لقد كان عباسنا شخصاً فريداً من نوعه، لن يُعوض فراقه الكبير في حياتنا مهما حاولنا ذلك.
فعندما مات، ماتت معه الحكمة، ماتت الثقافة، مات الفكر والمنطق، مات ما تبقى لنا من رموز الفكر اليساري المعتدل، مات كل شيء يدعو للقراءة، اندثرت الكتب وتساقطت أوراقها..!
عباسنا العظيم قل لي بربك من سوف يحثني على القراءة والمطالعة؟ من سيدلني ماذا أقرأ وأي كتاب أقتني؟ ومن سوف يعيرني كتبه ويفتح لي أبواب ورفوف مكتبته؟ ومن سوف يجيب على تساؤلاتي؟! ومن... ومن... ومن غيرك يا معلمي العظيم..!
نسأل الله العظيم أن يرحمك ويغفر لك ويسكنك فسيح جناته.. لروحك السلام والطمأنينة ولطيفك وذكرك المجد والخلود.

أترك تعليقاً

التعليقات