مريم السبلاني

مريم السبلاني / لا ميديا -
في خضم التصعيد العسكري والسياسي للحرب «الإسرائيلية» على قطاع غزة، اتخذ اليمن خطوة تصعيدية لافتة، تمثلت بإعلانه الحظر البحري على ميناء حيفا. يأتي هذا القرار كنوع من الضغط على كيان الاحتلال، الذي يتعنت معلناً استمرار الحرب ويمعن بتعطيل المفاوضات لوقفها. وبالتالي، يكون اليمن قد انتقل إلى مرحلة أخرى بإغلاقه أحد أبرز الشرايين الاقتصادية في فلسطين المحتلة، وما يسمى «بوابة إسرائيل إلى العالم».
ميناء حيفا، الواقع شمال غرب فلسطين المحتلة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط، يُعد من أهم موانئ الكيان، ويشكل منفذاً رئيسياً للتجارة فيه، لاسيما تلك القادمة من آسيا وأوروبا. وبحسب بيانات هيئة الموانئ “الإسرائيلية”، يتعامل الميناء مع أكثر من 30 مليون طن من البضائع سنوياً، ويخدم مئات الشركات الصناعية والتجارية في الشمال والوسط.
وقد شهد الميناء خلال السنوات الأخيرة توسعة كبيرة باستثمارات أجنبية، شملت تشغيل محطة الحاويات الجديدة من قبل شركة “شنغهاي إنترناشيونال بورت جروب” الصينية، ما رفع طاقته الاستيعابية وجعله نقطة محورية في مبادرة “الحزام والطريق” الصينية. هذا التحول الاستراتيجي جعل حيفا مركزاً بحرياً متقدماً في شرق المتوسط، ومحطة أساسية في سلاسل الإمداد العالمية المتجهة إلى “إسرائيل”.
تستورد “إسرائيل” نسبة كبيرة من وارداتها من الأسواق الآسيوية، وخاصة الصين والهند، عبر المسار البحري الممتد من المحيط الهندي إلى البحر الأحمر، مروراً بقناة السويس، ثم إلى ميناء حيفا. هذا المسار هو الأسرع والأقل كلفة مقارنة بمسارات بديلة. ومع إعلان صنعاء حظرها، برزت مخاوف جدية من حدوث اختناقات في سلاسل التوريد، وتأخير الشحنات، وارتفاع تكاليف الشحن والتأمين البحري.
وتشير تقارير اقتصادية، من بينها تقرير صادر عن معهد دراسات الأمن القومي “الإسرائيلي” (INSS) في كانون الثاني/ يناير 2025، إلى أن أي اضطراب في حركة الشحن عبر هذا المسار سيكلف “إسرائيل” خسائر بمئات ملايين الدولارات شهرياً، بالنظر إلى اعتمادها على هذا الخط الحيوي لاستيراد المواد الخام، والمعدات الصناعية، والسلع الاستهلاكية.
في ظل هذا الحظر، تبرز أمام “إسرائيل” خيارات محدودة؛ ولكن لكل منها أثمانه الخاصة التي قد ترجح كفة الخسائر والتكلفة على حساب الفوائد المرجوة. من بين البدائل المطروحة:
- التحويل إلى ميناء “أشدود”؛ إلا أن موقعه الجنوبي يجعله أكثر عرضة أيضاً لأي تصعيد عسكري، كما أنه لا يتمتع بالبنية التحتية المتقدمة نفسها.
- الاستعانة بميناء “إيلات” ثم النقل البري عبر صحراء النقب إلى الداخل، وهو خيار مكلف وبطيء نسبياً.
- الاعتماد على الموانئ القبرصية أو اليونانية مع شحن البضائع جواً أو بحراً إلى “إسرائيل”، ما يزيد الكلفة والتعقيد اللوجستي.
- التعاون مع موانئ خليجية والنقل البري عبر الأردن، وهو سيناريو مشروط بالاستقرار الأمني والتوافقات السياسية.
وبحسب تحليل صادر عن مركز “ستراتفور” للدراسات الجيوسياسية، فإن هذه البدائل مجتمعة لا تستطيع تعويض القدرة التشغيلية الكاملة لميناء حيفا في حال تعطلت خطوط الإمداد.
قراءة هذا التحرك لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل تمتد إلى معادلة الردع الإقليمية. فالقرار الصادر من صنعاء يأتي ضمن استراتيجية تهدف إلى الضغط على “إسرائيل”، وخلق حالة من الإرباك الاستراتيجي. هذا التحول يربك التقديرات “الإسرائيلية” التي اعتادت على حروب قصيرة ومحدودة الجبهات.
ورغم أن اليمن لا يملك قوة بحرية تقليدية، فإن قدرته على استخدام الطائرات المسيّرة والصواريخ البحرية، إلى جانب تمركزه الجغرافي في مضيق باب المندب، يمنحه أداة فعالة في تعطيل حركة السفن.
إذا استمر الحظر اليمني، خاصة في ظل توسيع نطاقه، فإن ذلك قد يُحدث تغييراً جذرياً في السياسات البحرية “الإسرائيلية”. من المتوقع أن تلجأ “تل أبيب” إلى حشد دعم دولي ضد هذه الإجراءات، أو اتخاذ خطوات عسكرية لتعزيز أمن الملاحة. غير أن التعقيدات التي تعيشها العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” خلال هذه الفترة، ومنها انسحاب واشنطن من المواجهة مع صنعاء، تضع كيان الاحتلال في موضع حرج محكوم بمحدودية الخيارات الموضوعة على الطاولة.
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن استمرار الحظر قد يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاستيراد، وزيادة الضغط على الموانئ البديلة، وتباطؤ في سلاسل التوريد الصناعية، الأمر الذي قد ينعكس على قطاعات متعددة، من الغذاء إلى التكنولوجيا.
يمثّل الحظر اليمني لميناء حيفا أكثر من مجرد أزمة ملاحية، بل هو تجلٍّ جديد لتحوّل أدوات المواجهة في المنطقة، حيث لم تعد الحروب تقتصر على الجبهات العسكرية، بل باتت تشمل الاقتصاد والممرات البحرية. ومع تنامي دور صنعاء في هذا الملف، تصبح “إسرائيل” أمام تحدٍّ استراتيجي حقيقي، ليس فقط لحماية شريانها البحري، بل لإعادة تقييم تموضعها الإقليمي في ظل متغيرات سريعة وفاعلين جدد.

أترك تعليقاً

التعليقات