محمد الأيوبي

د. محمد الأيوبي / لا ميديا -
«إننا نعيش في عالم تهيمن عليه القوة، لا الأخلاق». ما كان منذ عقود تحذيراً أكاديمياً، بات اليوم معيشاً يومياً، خصوصاً في عالمنا العربي، الذي يجد نفسه خارج الزمن، يراقب عالماً ينهار من دون أن يكون جزءاً من لحظة ولادة بديل.
الولايات المتحدة، التي لطالما تصرّفت «كإله سياسي فوق البشر»، تجد نفسها اليوم أمام طريق مسدود: إنها تخسر الحرب في أوكرانيا، كما ستخسر المنافسة مع الصين. ليست هذه مجرد قراءة انفعالية، بل سردية استراتيجية تتقاطع مع ما يقوله أكاديميون أمريكيون كبار، من أمثال إيمانويل تود، عن أفول الغرب، لا بكونه نظاماً اقتصادياً فحسب، بل وأيضاً كونه منظومة قيم. فهل نحن أمام لحظة سقوط أخلاقي عالمي؟

حضارة الغرب متصدعة.. بين «العولمة السائلة» وانسحاب الإمبراطورية
ما يجري اليوم لا يمكن فهمه من خلال الأدوات السياسية التقليدية؛ إذ إنّ المنظومة الغربية، التي أسّست على نهب الشعوب واستعباد الضعفاء تحت شعارات «الديمقراطية» و»الحداثة»، لم تعد قادرة حتى على إنتاج وهم النظام. والسيولة التي وصفها زيغمونت باومان باتت تحكم كل شيء؛ لم يعد هناك يقين سياسي، ولا مشروع اجتماعي، ولا حتى أخلاق عالمية. «العولمة» لم تُنتج قرية عالمية، بل مقابر جماعية على امتداد الخرائط الجنوبية، من غزة إلى الخرطوم، ومن صنعاء إلى بيروت.
في المقابل، تنهض الصين مركزاً لقوة جديدة؛ لكنها ليست مشروعاً بديلاً أخلاقياً، بل إمبراطورية برّية تختلف في أدواتها، وتتشابه في منطق السيطرة. العالم -إذن- لا يشهد فقط لحظة انتقال من مركز إلى آخر، بل دخولاً في زمن التعدد الوحشي، حيث كل قوة تبحث عن مكان لها فوق أنقاض القانون الدولي.

أمريكا.. الإمبراطورية التي لم تعد تؤمن بإمبراطوريتها
الولايات المتحدة ليست دولة في أزمة، بل مشروع حضاري مأزوم. ما كتبه توماس فريدمان عن «الانهيار الأمريكي الكبير» ليس سوى اعتراف ناعم بما هو أعنف: إن الإمبراطورية الأمريكية فقدت شرعيتها. فمنذ حرب العراق، ثم أفغانستان، ثم ليبيا، ثم سورية، وأخيراً أوكرانيا، لم تحصد واشنطن سوى الهزائم المغلّفة بالدبلوماسية. فشلها في إقناع حلفائها الأوروبيين بجدوى الحرب في أوكرانيا، وفي كبح صعود الصين، وفي احتواء روسيا، يعكس محدودية ما تبقّى من أدوات الهيمنة.
لكن الأخطر أن مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، والذي أعيد تصنيعه بأسماء مختلفة، ما يزال فعّالاً. فما نعيشه اليوم، من تفكك عربي وتطبيع مجاني وتدمير للمجتمعات، ليس صدفة، هو جزء من إعادة رسم خرائط المنطقة بما يتناسب مع انسحاب الإمبراطورية، من دون خسارة مصالحها.

أزمة الصهيونية لا حلول لها.. مشروع هش بلا روافع
ما كان -يوماً- يُقدّم على أنه «النموذج الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط»، بات اليوم يعاني أعمق أزمة داخلية. «إسرائيل»، رغم تفوقها العسكري والتكنولوجي، هي عاجزة عن إنتاج روافع اجتماعية وثقافية تُبقيها لاعباً مركزياً في المنطقة. ولا تحمل «إسرائيل» اليوم أي مشروع أخلاقي أو إنساني. ما يحدث في غزة ليس حرباً، هي مذبحة تُبثّ على الهواء مباشرة، في صمت أخلاقي عالمي مطبق. لا صوت يرتفع داخل الغرب الرسمي، لا صحف كبرى، لا جامعات، لا منظمات... الكل دخل في حالٍ من الإنكار الجماعي.
إلى ذلك، كون المشروع الصهيوني لم يقم على دولة، إنما على «وعد»، فإن سقوطه لا يكون بانهيار سياسي، بل بانكشاف رمزي. غزة كشفت هذا العري الأخلاقي، وأظهرت هشاشة «إسرائيل»، لا بصفتها قوة عسكرية، بل بصفتها كياناً غير قادر على تسويغ وجوده أمام أي معيار إنساني.

الضمير العالمي الميت..حين تصبح المذبحة حدثاً عادياً
«الهمجية المعاصرة» هي التعبير الأدق لما وصفناه سابقاً. ما نراه ليس مجرد صراع دولي، هو انقراض أخلاقي. في زمن سابق، كانت المجازر تُرتكب في الظل. اليوم، تُرتكب في الضوء، ولا أحد يحرّك ساكناً. هل الغرب ميت أخلاقياً؟ ربما الجواب الأصدق: لم يكن حياً يوماً، هو بارع في تغليف جرائمه بورق الحرية. ما يجري في غزة، وما جرى في سورية واليمن ليس تعبيراً عن فشل النظام الدولي فحسب، هو سقوط الفكرة الغربية في ذاتها؛ الفكرة التي وعدت بالحرية، وأنتجت الاستعمار؛ بشّرت بالديمقراطية، ومارست العنصرية؛ وعدت بالسلام، وأطلقت الحروب.

العرب.. الغائبون الحاضرون في مآدب الخراب
ما بين تهاوي الغرب وصعود الشرق، تاه العرب. يتصرف الخليج على أنه مركز مستقل، والمغرب العربي يعيش هويته المتوسطية الخاصة، والمشرق يعاني تحلّل الدولة، والجامعة العربية تحوّلت إلى مَجْمَع بيانات.
إنها لحظة تيه حقيقي. لا مشروع عربي موحّدا، لا رؤية استراتيجية، لا هوية جامعة. حتى «الهوية العربية» باتت محل نزاع، واستبدلت بها هويات قاتلة: طائفية، مناطقية، أو «إبراهيمية» تفرّط بالذاكرة وتغسل الدم.
في هذه اللحظة، هناك سؤال وجودي: هل من مشروع مقاومة عربي؟ لا مقاومة من دون نهضة. لا نهضة من دون وعي. لا وعي من دون تحرير العقل. وهنا، تعود النقطة الجوهرية: لا يكفي أن نرفض. علينا أن ننتج. لا نريد مقاومة رد فعل، بل فعلاً تاريخياً. لا نريد شعارات، بل منظومة تفكير. لا نريد شعوباً تتحمّس، بل عقولاً تؤسّس.

المقاومة تبدأ من العقل.. نداء للمثقفين لا للساسة
المهمة -إذن- ليست مهمة العسكر ولا السياسيين، هي مهمة المثقفين. الفعل السياسي في غياب البنية الفكرية سينتهي إلى استبداد أو فوضى. نحن بحاجة إلى إعادة بناء العقل العربي، لا على قاعدة السلف الصالح، إنما على قاعدة المستقبل المُمكن.
الهوية ليست صندوقاً مغلقاً، هي عملية بناء مستمرة. والعروبة ليست نقيضاً للحرية، يجب أن تكون تجلياً لها. نحتاج إلى «عروبة ديمقراطية» قاعدتها العدالة والمساواة والاعتراف بالآخر. وهذه العروبة لا تعادي إيران أو تركيا أو الأكراد. هي تتكامل معهم تحت مفهوم «الجوار الحضاري». نحن لسنا أمة تكره. نحن أمة تنشد شراكة. لسنا أمة تطلب الحماية، بل تصنع الاحترام.

ما العمل؟ العالم يموت.. فلنصنع عالماً آخر
«نحن أمام نقطة تحوّل في تاريخ البشرية. إما أن نفعل شيئاً، وإما تكون نهايتنا». إنها دعوة قاسية؛ لكنها صادقة. العالم لا يحتاج إلى خطابات، بل مشاريع. المقاومة ليست بندقية فقط، هي كتاب وفكرة ومصنع ومدرسة. لا خلاص في انتظار أمريكا أو بكين. الخلاص يبدأ من سؤال صعب: ما العمل؟
الجواب ليس عند الزعيم، هو عند المثقف؛ ليس عند الخارج، هو في الداخل؛ ليس في الماضي، هو في المستقبل.
لقد آن أوان أن نستعيد عقلنا، لا لنحكم العالم، بل لننقذ ما تبقّى من إنسانيتنا.

كاتب صحفي فلسطيني

أترك تعليقاً

التعليقات