«الزمن الجميل».. هـــل كـــان جميــــلاً حقـــاً؟! الحلقة ٤7
- مروان ناصح الثلاثاء , 11 نـوفـمـبـر , 2025 الساعة 12:15:02 AM
- 0 تعليقات

مروان ناصح / لا ميديا -
جمع الطوابع.. نافذة صغيرة على عالم كبير
كان طابع البريد في الزمن الجميل أداةً صغيرة تصنع دهشةً كبيرة؛ تفتح أمام أعيننا بوابة على القارات الغامضة، وتجعلنا نحلم بالمدن البعيدة والملوك والرؤساء والعباقرة والجبال، والأنهار التي لم نتنسمْ رذاذها.
البداية مع أول طابع
كانت الشرارة الأولى غالباً بسيطة: ظرفاً قديماً جاء من قريب مغترب، رسالة نُسيت في درج خشبي في بيت الجد... وحين نزعنا الطابع من زاويته بحذر، فكأننا اقتلعنا قطعة من العالم لتكون ملك يدنا.
الألبوم.. الكتاب السحري
ما إن نمت الهواية صار البحث عن "ألبوم الطوابع" هدفاً عزيزاً.
بعضنا حصل على ألبوم جاهز بصفحات خاصة. آخرون صنعوا دفاتر بأيديهم، يلصقون فيها الطوابع أو يضعونها بين جيوب شفافة.
كان ذلك الألبوم كتاباً سحرياً يتفتّح على صفحات ملونة؛ كل صفحة حديقة، وكل صف من الطوابع قصيدة بصرية.
كان أحدنا يعتني بترتيب الطوابع كما يعتني الراهب بمخطوطاته، فلا يقبل بوجود طابع مائل أو متسخ، فالنظام والجمال كانت لهما حصة من طقوس هذه الهواية.
التبادل بين الأصدقاء
في ركن من أركان المدرسة، أو على الدرج المؤدي إلى الفصول، كانت تتم جلسات المساومة الصغيرة: "أعطيك طابعاً من الهند مقابل طابعك الفرنسي"، أو "خذ اثنين من الطوابع العادية مقابل ذلك الطابع الساحر".
لم يكن التبادل تجارة صغيرة، بل كان جسوراً من الصداقة والمشاركة، يختلط فيها الحماس بالوفاء، وكأن الطوابع أوراق لعهد غير مكتوب.
الطوابع النادرة.. كنز الهواة
أما إذا وقع أحدنا على طابع نادر، فقد كان ذلك أشبه بامتلاك جوهرة.
بعض الطوابع كانت تحمل صوراً لملوك أو أحداث عظيمة، وبعضها جاء من بلدان لا نعرف حتى كيف نلفظ أسماءها.
كان الطابع النادر يُعرض أمام الأصدقاء بفخر، وكأنّ صاحبه وجد كنزاً أثرياً، ويُحفظ في الألبوم بعناية زائدة، فلا يُمس إلا بالأطراف، ولا يُذكر إلا بفخر خاص.
وكان حلم كل هاوٍ أن يضم طابعاً نادراً إلى مجموعته، ليشعر أنه يملك قطعة فريدة من التاريخ.
نافذة على الجغرافيا والتاريخ
في زمن لم تكن فيه القنوات الفضائية ولا الإنترنت، كانت الطوابع مكتبتنا المصورة. منها عرفنا أن هناك بلداً اسمه البرازيل، وأن هناك نهراً عظيماً يدعى الأمازون، وأن برج إيفل في باريس يعلو فوق المدينة رمزا للجمال.
الطوابع علمتنا التاريخ أيضاً: مناسبات قومية، ذكرى استقلال، أو إنجاز علمي كبير...
لقد كانت تلك الأوراق الصغيرة دروساً صامتة تعلّمنا ونحن في غمرة الهواية الجميلة.
القيمة التربوية للهواية
هواية جمع طوابع البريد لم تكن محض ترفٍ بريء، بل كانت مربّية في حد ذاتها. علمتنا الصبر في البحث، والنظام في الترتيب، والدقة في الحفظ.
جعلتنا نتلهف إلى أسماء جديدة، ونبحث في الكتب عن معالم وصور لا نعرفها.
وأجمل ما فيها أنها جمعت بين المعرفة والمتعة. فالعلم جاءنا في ثوب هواية، وشغف القراءة تسلل إلينا عبر ورق صغير مطبوع بحبر ملون.
خاتمة
اليوم، هجرتنا تلك الهواية مع ازدحام العصر وسرعة الأيام، ووسائل التواصل المعرفية المذهلة.
لكن أثرها لم يغادر قلوبنا. ما زالت الطوابع القديمة ترقد في أدراج مغلقة أو بين دفاتر منسية؛ لكنها حين تقع في أيدينا من جديد، تعيد إلينا دفعة واحدة مرحلة عمرية كاملة.
نبتسم ونحن نتذكر لهفتنا، مساوماتنا، وفرحتنا البريئة بطابع جديد.
لقد صارت الطوابع، في النهاية، رمزاً لبراءة زمن كامل، وزينة لذاكرة لا تشيخ.










المصدر مروان ناصح
زيارة جميع مقالات: مروان ناصح