دور الیمن في الحَدّ من القدرات العسكرية الصهيونية وحماية المنطقة من توسيع النفوذ الأمريكي -"الإسرائيلي"
- محمد بن دريب الشريف الأثنين , 21 يـولـيـو , 2025 الساعة 8:28:32 PM
- 0 تعليقات
محمد بن دريب الشريف / لا ميديا -
حضور أنصار الله في قلبِ معتركِ صناعةِ القرار الإقليمي ومشاركتهم في مضمار خلق التوازنات الأقليمية والعالمية وتقرير مسارات سياسية ونظامية (ثابتة أو متغيرة) لدول المنطقة كان ينبغي أن يحظى باهتمام لائق ومناسب لحجم هذا الحضور على المستوى الإعلامي والأكاديمي ومراكز البحث والتحقيق، فالحاصل من تقديمٍ لهذا الحضور الفاعل لا يتناسب مع حجم الحدث ولا مع طبيعته بأي حال.
وكل ما يُذكر حول دور اليمن بقيادة أنصار الله وحضورهم في قلب المعركة بفاعلية كبيرة وتأثير طاغ على مسار الحرب ونتائجها في كلٍ من الأراضي الفلسطينية المحتلة ولبنان وفي إيران مؤخراً لا يرقى إلى مستوى مُستحق لهذا الحضور الفتي الذي قلب الموازين في المنطقة بأسرها، ولم يُعط حقه من التنويه والتقرير بما هو مترتبٌ على أبعاده الاستراتيجية وتأثيره العميق على حاضر ومستقبل المنطقة، بل وعلى ضمان الأمن والاستقرار والتوازن المطلوب لحفظ مصالح ومنافع دول وحكومات منطقتنا الإسلامية بشكل عام.
ولفهم مستوى الأبعاد الاستراتيجية والتأثيرات العميقة التي فرضها حضور أنصار الله في المعترك الإقليمي والدولي، والتي أثرت سلباً على مسار السياسات الجديدة أو البديلة التي أنتجتها آلة المؤامرة الغربية بقيادة أمريكا وحاولت فرضها كخيار وحيد ومصير لا مفر منه على دول وشعوب المنطقة تحت شعار "شرق أوسط جديد"، لا بد من فهم طبيعة الصراع بين أمريكا وحركة أنصار الله وتسليط الضوء على مراحل هذا الصراع منذ نشوء الحركة إلى يومنا هذا، والذي ظهرت فيه بشكل كبير ثمرة ذلك الصراع وتجلت في حضور مقاتل عنيد ومصارع شرس برز ملوحاً بِشارة التحدي في حلبة صراع الكبار ومعتركهم الفاصل في وضع الخيارات ورسم المسارات وتقرير مصير الشعوب والحكومات، وفَرَضَ قواعد اشتباكه الخاصة في ميدان "لعبة الأمم" بالشكل الذي أخل بضوابط هذه اللعبة وفرض التغيير الحقيقي على أطرافها وقواعدها وأدواتها، وبالتالي على مآلاتها ونتائجها.
وعند تسليط الضوء على طبيعة هذا الصراع نجده صراعا أيديولوجيا يرتبط بالثوابت والمبادئ العقدية، وبالتالي تقابل بين الحق والباطل، وهذا يجعل من أمريكا مصدر كل الشرور وكل المفاسد في نظر أنصار الله ويحتم المواجهة معها في كل المجالات وعلى كل المستويات وبلا حدود زمانية أو مكانية، فيترتب على هذه المواجهة البناء التنظيمي والفكري والثقافي والسياسي والتجهيز العسكري، وهو ما اشتغل عليه أنصار الله في وقت مبكر وبكل علانية.
وفيما يخص مراحل الصراع، فقد لعب أنصار الله دوراً بارزاً في مواجهة المشروع الصهيوني الذي تقوده أمريكا في اليمن عندما كانت الحركة ضمن نطاق جغرافي محدود لا يتعدى محافظة واحدة من محافظات اليمن، وكانت الصرخات تعلو مستهجنة أي تعاط مع الأمريكان، بل رافضة أي علاقة بين البلدين لا تقوم على أساس احترام السيادة اليمنية والقرار المستقل.
ولم تضع أمريكا رجلها في اليمن كموطئ قدم جديد في الجغرافيا "الشرق أوسطية" إلا وأنصار الله في جهوزية كاملة واستعداد كبير لمحاربة هذا التواجد بما تتطلبه تلك المرحلة من وسائل وخيارات، ومن هنا أوعزت إدارة البيت الأبيض للسلطة والحكومة اليمنية العميلة آنذاك لإخماد هذه الشعلة المتوقدة وإخفات هذا الصوت الرافض لتواجدها في أهم جزء من جغرافيا "الشرق الأوسط". وفعلاً لم تتوان تلك السلطات وشنت حروبها المتعاقبة على حركة أنصار الله في شمال اليمن في الوقت الذي يمهد الأمريكي موطئ قدمه الجديد ويدعمه بكل إمكانات ووسائل البقاء والديمومة في جنوب البلاد.
وعندما ركزت أمريكا جهودها على بناء قاعدة عسكرية أمريكية في البلاد لم يكن أفضل من اختيار قاعدة العند الجوية كخيار عسكري استراتيجي ومربض طويل الأمد لقواتها الجوية والاستخباراتية وما يلزمها من تجهيزات تدميرية لليمن ولدول المنطقة بشكل عام.. فهذه القاعدة من أشد القواعد تعقيداً وتحصيناً في العالم بمساحة لا تقل عن 20 کیلومترا مربعا، وتوصف استراتیجیاً بأنها "القاعدة الأسطورية" و"أهم القواعد تاريخياً".
وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م وحادثة استهداف المدمرة كول (المشبوهتين) عززت الولايات المتحدة الأمريكية وجودها بشكل أقوى وأخطر، واعتمدت قاعدة العند الجوية في محافظة لحج اليمنية كأهم القواعد الرئيسية الثابتة للجيش الأمريكي في منطقة "الشرق الأوسط"، وربما أن أول انطلاق شهدته المنطقة للطائرات ذاتية القيادة التابعة للجيش الأمريكي كان من هذه القاعدة، والجدير بالذكر أن كل ما تحظى به قاعدة "العيديد" في قطر حالياً من أهمية بالغة وحضور للقيادة المركزية للجيش الأمريكي وتواجد أجهزة الرصد والتتبع الفضائي والأرضي وكل ما تحتويه هذه القاعدة مما يجعلها أبرز وأهم القواعد المركزية الأمريكية في العالم كان يفترض أن تحظى به قاعدة العند الجوية فيما لو بقي ذلك التواجد الأمريكي في الأراضي اليمنية، بل كان القرار الأمريكي آنذاك هو جعل قاعدة العند الجوية بمثابة وزارة حرب ومركز قيادة وسيطرة ومخزن أسلحة استراتيجيا ومربضا لأخطر المقاتلات الجوية ومحطة تزود وقود بأنواعه، وثكنة لأكثر عناصر الجيش الأمريكي خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية.
وخلاصة القول، بهذا الصدد إن الأمريكان لم يعتمدوا قاعدة "العيديد" في قطر كقاعدة قيادة وسيطرة ومركز يدير كل قواتهم العسكرية المنتشرة في منطقة "الشرق الأوسط" والمحيط الهندي إلا بعدما فقدوا قاعدة العند الجوية في اليمن إثر انسحاب قواتهم العسكرية من كل الأراضي اليمنية خلال العامین 2014 و2015م على وقع الثورة الشعبية المجيدة التي قادها أنصار الله وترتب عليها سقوط نظام العمالة والارتزاق واستبداله بالنظام الثوري المناهض لسياسة الاستعمار والتبعية العمياء.
من خلال ذلك الانسحاب القسري وإعادة الانتشار للقوات الأمريكية آنذاك نفهم مدى الشرخ العميق الذي أحدثه أنصار الله في قاعدة التوجيه والتحكم السياسي والعسكري، والتأثير الخطير الذي أحدثوه في استراتيجية النفوذ والسيطرة الأمريكية في "الشرق الأوسط"، ومدى الوهن والعجز الذي مُنيت به آلة الحرب العسكرية الأمريكية حالياً ومستقبلاً، والشلل الذي أصاب يدها الضاربة في طول المنطقة وعرضها إثر صراع أنصار الله معها ومواجهة مشروعها الصهيوني منذ العام 2002م إلى حين دخولهم قاعدة العند الجوية في جنوب اليمن وطرد ما تبقى من القوات الأمريكية فيها بتاريخ 25 آذار/ مارس 2015م!
والحرب الأمريكية -"الإسرائيلية" على الجمهورية الإسلامية مؤخراً خير شاهد ودليل على وهن وعجز آلة الحرب الصهيونية، بل خير مثال على حجم الضربة الفاقرة التي وجهها أنصار الله للمشروع العسكري الصهيوني في المنطقة.. ولتوضيح هذا الأمر بشكل أبسط وأدقّ نطرح الاستفسار التالي:
لو أن الذي جرى بين إيران من جهة وأمريكا و"إسرائيل" من جهة أخرى -وهو صراع عسكري نتج عنه خسائر بشرية وخسائر مادية مهولة خلال اثني عشر يوماً من الحرب- حدث في ظل تواجد عسكري أمريكي في اليمن، وعلى فَرْض أن قاعدة العند الجوية مازالت تحت اختيارهم وفيها قواتهم وحسب ما كان يُراد لها من مهام قيادة وسيطرة وبالحجم الذي خُطط له من حيث القوة كماً وكيفاً؟ يا تُرى في أي مستوى كان يمكن أن تقف عنده هذه الحرب؟! وما هو السيناريو المتوقع لحجمها وأمدها ونتائجها؟!
هل كانت ستقف من حيث المدى على اثني عشر يوماً؟ وهل كانت ستقف عند كون الطلقة الأخيرة للجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ بل هل كانت ستقف فعلاً دون هزيمة أحد الطرفين الهزيمة الكاملة التي يتغير على إثرها شكل المنطقة ورسم خارطة "الشرق الأوسط الجديد"؟!
في الواقع إن الجواب على هذا السؤال بنعم أو لا يتطلب دراسة لأهم العوائق التي واجهت مشروع الحرب الأمريكية على إيران مؤخراً، والذي يهدف إلى إسقاط النظام، كما أشار إلى ذلك الرئيس الأمريكي ترامب عقيب الضربة الأمريكية للمنشآت النووية الإيرانية.
وعند استحضار تلك العوائق سنجد في مقدمتها، بل وأبرزها: عدم وجود أرضية صلبه بالقرب من إيران تتوفر فيها الوسائل والأدوات والإمكانيات اللازمة التي تُمكن الجيش الأمريكي من القيام بعملية عسكرية واسعة النطاق وطويلة الأمد تضمن الصمود لهذا الجيش حتى تحقيق أهدافه.
فكل ما يتوفر بيد الجيش الأمريكي (قواعد) تحكمها اتفاقيات مُلزمة لأطرافها تقوم على الحماية والدفاع فقط لأنظمة تلك البلدان وحراسة العروش لملوكها وأمرائها ورؤسائها، ولا يستطيع الجيش الأمريكي بناء على ذلك جعلها منطلقاً للدخول في حرب طويلة الأمد والقيام بعمليات عسكرية تهدف لإسقاط الأنظمة! وهذا الحكم يسري على كل القواعد العسكرية الأمريكية الموجودة في دول المنطقة بدءاً من السعودية والإمارات وقطر والبحرين وينتهي بالعراق وأذربيجان وتركيا.
بالإضافة إلى أن هذه القواعد الموجودة غير مؤهلة لتكون منطلقاً لشن الحملات العسكرية الضخمة لا من جهة التحصين ولا من جهة إمكانيات البلدان التي تتواجد فيها، خصوصاً في مواجهة الجمهورية الإسلامية التي تمتلك ترسانة صاروخية فتاكة لا تقوى على تحمل دوي انفجاراتها مدنُ هذه البلدان فضلاً عن استهدافها المباشر!
ومن هنا تتجلى أهمية اليمن في سياسة النفوذ والسيطرة الأمريكية، وأهمية توجهها لحفظ الوضع الموجود سابقاً في اليمن والاستماتة على الاحتفاظ بذلك النظام السياسي العميل والحرص الشديد على اغتيال حركة أنصار الله في مهدها وتطويقها وخنقها والحد من نفوذها!
اليوم، وبعد سيطرة أنصار الله وحلفائهم على القرار السيادي في اليمن ليس بإمكان أحد أن يجعل من اليمن منطلقاً لمغامراته ولا مرتعاً لوسائل نفوذه وأدوات حربه التدميرية على بلدان المنطقة، بل إن اليمن لم يعد تلك البيئة الصالحة للاستثمار العسكري لصالح المخططات التدميرية الصهيونية.
والنتيجة: أن أنصار الله أفشلوا مخططاً استراتيجياً اشتغلت عليه المخابرات الأمريكية والخليجية منذ العام 1994، وهو العام الذي رأى فيه الخليج والأمريكان ضرورة توفير بيئة صالحة للاستثمار العسكري دون حسيب ولا رقيب (بعيداً عن الأراضي الخليجية)، ولم يكن حينها أفضل من اختيار اليمن لما يتمتع به من خصائص تؤهله ليكون منطلقاً لأي حرب ولأي مهمة ولأي خيار يفرضه الأمريكي دون خشية من أي عواقب ودون حساب لأي ردات فعل قد تطال الشعب اليمني الذي حكموا عليه بالفقر، ووفروا له كل أسباب المعاناة ليهيئوا بذلك البيئة المطلوبة لتنفيذ مخططاتهم التدميرية.
وفي ختام هذا الكلام، لا بد من الإشارة إلى أن الأمريكان حاولوا اختبار الأرض اليمنية مجدداً، وفحص مدى إمكانية توفير هذه الأرض بيئةً صالحةً لبناء قواعد عسكرية استراتيجية (على غرار قاعدة العند الجوية التي تسيطر عليها حالياً نيران القوات المسلحة اليمنية بقيادة أنصار الله) وترَكّز الاختبار على مناطق في أقصى جنوب اليمن كسقطرى ومطار الغيضة وميناء بلحاف ومعسكرات أنشأتها القوات السعودية في المهرة، كما أنه في التاسع من شهر تموز 2021م هبطت طائرات شحن أمريكية ضخمة في مطار عدن، وأنزلت عتاداً عسكرياً مكوناً من عشرات العربات المتطورة و12 طائرة مروحية من نوع "بلاك هوك"، بالإضافة إلى كتيبة مكونة من 300 جندي وضابط من وحدة العمليات الخاصة الأمريكية، وغرفة عمليات ميدانية متكاملة، ولم يعرف وجهة هذه القوات ولا مكان توجهها، وغالب التكهنات أنها استقرت بالقرب من باب المندب كقوة استطلاعية أو مهام خاصة تم سحبها بعد تنفيذ مهمتها.
وعلى كل حال، فإن المتيقن أن هذه الاختبارات التي أجراها الأمريكان مؤخراً أكدت بما لا يدع مجالاً للشك على عدم صلاحية البيئة اليمنية لأي استثمار عسكري صهيوني، وعلى عدم إمكانية توفير أي موطئ قدم ثابت للقوات الأمريكية طالما القرار السيادي اليمني بيد أنصار الله وحلفائهم، وطالما قوات اليمن المسلحة تمتلك الترسانة الصاروخية الفتاكة التي تستطيع أن تطال أي نقطة في جغرافيا المنطقة، وبالتالي وهن المشروع العسكري الصهيوني وعجزه عن خوض أي حرب تهدف إلى تغيير أو تثبيت أي نظام أو أي مصلحة في المنطقة، لأن ذلك يتطلب أرضية صلبة تنطلق منها عمليات كبيرة ومستمرة وطويلة الأمد تحتاج في الحد الأدنى مخزونا استراتيجيا من السلاح والعتاد، وإلى توفير محطات التزود بالوقود الأرضي، وهو ما لم يستطع الأمريكي توفيره خلال عدوانه على الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي كان بصدد إسقاط النظام، ومن هنا نستطيع القول بإن إسقاط أنصار الله لمشروع الصهيونية في اليمن وإفشال مخططها ونفي وجودها مثّل الدور الحاسم في حماية دول المنطقة وفوت على الأمريكان و"الإسرائيليين" الكثير من فرص العبث بمصالح الدول والشعوب من خلال شن الحروب الحاسمة، ولم يعد بمقدور الصهاينة من الآن فصاعداً أي حسم عسكري ما لم تتغير قواعد اللعبة وذلك إما بالعودة إلى احتلال أفغانستان أو تثبيت وجودهم في اليمن.. ودون ذلك خرط القتاد.
المصدر محمد بن دريب الشريف
زيارة جميع مقالات: محمد بن دريب الشريف