د. حسناء نصر الحسين

د. حسناء نصر الحسين - باحثة سورية -

حينما أعلنت واشنطن عن مشروعها في الشرق الأوسط، والذي جاء على لسان وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس، عام 2006م، والذي سُمي مشروع الشرق الأوسط الجديد، كان منبر هذا الإعلان آنذاك هو لبنان، والمبني على نظرية الفوضى الخلاقة وفكرة فتح الطريق لإعادة رسم المنطقة من جديد، ليمر المشروع بمراحل فشل متلاحقة، وتذهب الولايات المتحدة الأمريكية إلى تبني نظريات جديدة ضمن مشروع الفوضى، كان أبرز هذه النظريات هو ما بات يُعرف لاحقا بـ»القيادة من الخلف»، لتُحيل أمريكا المنطقة إلى حالة من الدمار والخراب والاحتراب وتتسع الفوضى.
بالنتيجة لم تقتنع أمريكا بالنتائج التي حصدتها من تلك الفوضى والتي صنعتها عبر أدواتها التدميرية، ومثلت جماعات التكفير والإرهاب أبرز الأدوات خلال مرحلة الفوضى هذه، وخلال العقود السابقة حصلت الانتكاسات الكبرى في هذا المشروع عبر ضرب الأدوات وإزاحتها من الميدان، لتكلل تلك الانتكاسات بصعود قوى وأقطاب جديدة في النظام العالمي الجديد، وتحول روسيا والصين لقوى عظمى، وتحول حزب الله بعد الحرب السورية تحديداً من قوة داخل الدولة اللبنانية إلى قوة إقليمية، كما تراجع الدور الأمريكي وانحساره الكبير في منطقة الشرق الأوسط، كل هذه عوامل أدت إلى إعادة استخدام نظرية الفوضى الخلاقة من قبل الأمريكيين عبر استخدام العقوبات الاقتصادية للدول المستهدفة، مما يُحرك الشارع داخل هذه الدول ضد حكوماتهم، من هنا دخلت أمريكا لتحقيق أهدافها مستخدمة الشعوب وحراكها الاحتجاجي.
ورغم شعور أمريكا بأن مشروعها يذهب إلى الفشل والزوال، إلا أنها لم تتخل عن فكرة المشروع، لمعرفتها أن من استُهدف ليس المشروع، وإنما الأدوات التي استُخدمت ضمن المشروع، وذهبت نحو تغيير في مضمونه ومحتواه عبر استبدال أدوات المشروع وإعادة إحياء مشروع الفوضى في إطار نسخة جديدة بأدواتها الجديدة والتي تم التعبير عنها بحراك الشعوب الموجه وفق نظرية الفوضى الأمريكية، مع فارق أن هذه المرة قد تتجاوز أمريكا فكرة الفوضى من أجل التغيير، إلى فكرة الفوضى من أجل التدمير، وما يجري في لبنان كنموذج من حراك شعبي واحتجاجات وصلت في أسقفها الفوضوية إلى مستويات تدعو للقلق على هذا البلد العربي المستهدف أمريكياً باعتباره المنطلق الأول لتحقيق مشروع الفوضى وفق الرؤية الأمريكية الأولى، والذي وئد قبل ولادته عبر مقاومة لبنان الإسلامية التي أفشلت المشروع بانتصار تموز 2006م.
إعلان كونداليزا رايس للمشروع من لبنان كمنطلق للمشروع يفسره حديث جيفري فيلتمان مؤخراً بأن لبنان ساحة للتنافس الاستراتيجي العالمي. كلام فيلتمان أمام الكونغرس الأمريكي جاء في مسار التفسير والتوضيح والتأكيد لما كان عبر عنه مايك بومبيو قبل عدة أشهر حين وضع اللبنانيين بين خيارين: إما مواجهة حزب الله أو دفع الثمن، لنفهم من كلام فيلتمان أن خيار الالتزام بسياسات واشنطن هو مواجهة حزب الله، ودفع الثمن الذي ذكره بومبيو جاء تفسيره الجلي في تصريح فيلتمان، وهو الانهيار، ولذلك أنا أتفق مع من يقول بالترادفية القائمة في الوقت الحالي بين الاحتجاجات الشعبية وبين استثارة الفوضى وإحداث التدمير، وهذا بعيداً عن جدلية العفوية من عدمها التي قد تكون رافقت الشرارة الأولى للاحتجاجات.
احتجاجات شعبية ومواطنون يخرجون للساحات العامة مطالبين بالقضاء على الفقر والفساد، باحثين عن استعادة حقوقهم وحرياتهم المهدورة، مع تعبيرهم عن فقدان الثقة في المنظومة الحاكمة. واشنطن ترى في هذا الفضاء بتفاصيله السابقة نافذة جديدة للدخول إلى موجة ومرحلة جديدة من الفوضى التي تشرع أبواب البلدان المستهدفة لمفاعيل سياسية وأمنية وعسكرية جديدة يُشكل من خلالها مشهد مختلف بأدوات مختلفة.
تركيز الفوضى الأمريكية ضمن جغرافيا محور المقاومة يكشف الأهداف غير الخفية من هذه الموجة الجديدة من الفوضى ضمن السيطرة الأمريكية، وهذا ما لا يمكن تقديره بالشكل الدقيق مهما وضعت واشنطن لنفسها تقديرات وتقييمات للوضع القائم ضمن جغرافيا الاستهداف لهذه الفوضى التي تصنعها، ويبقى الهدف الأساس بعد المصالح الأمريكية وحمايتها هو الرعاية والحماية المطلقة للكيان الإسرائيلي باعتباره أهم عناصر تلك الحماية للمصالح الأمريكية، وما يحكم هذه النزعة الأمريكية تجاه الكيان الإسرائيلي هو الوضعية التي وصل لها حزب الله مما يُسمى فائض القوة، والذي يمكنه من كسر وتغيير المعادلات لصالحه في أية مواجهة قد يدفع بها الكيان الإسرائيلي.
لجوء أمريكا لورقة الفوضى الخلاقة بنسختها الجديدة يحمل دلالة أساسية عن طبيعة المرحلة التي تعيشها الولايات المتحدة الأمريكية، وهي مرحلة الفشل المتصاعد والانتكاسات المتوالية، لترى واشنطن نفسها في حاجة ملحة لتفعيل هذه الاستراتيجية بالشكل الذي يحقق لها عنصرين أساسيين هما حماية المصالح الأمريكية والحفاظ على الكيان الإسرائيلي المتدحرج نحو النهايات.
كل هذا المشهد الدراماتيكي يجعلنا نقطع بالقول إن الفوضى ليست حالة ترفية بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، وإنما هي حاجة أمريكية ومنهجية ثابتة لدى العقل الأمريكي، وأحد أعمدة السياسات الخارجية الأمريكية في العالم.

* باحثة سورية في العلاقات الدولية ـ دمشق

أترك تعليقاً

التعليقات