الطموح المعرفي الإيراني واستقلال القرار في مقابل استرخاء وتبعية دول البترودولار أبرز أسباب التضاد
العلاقات السعودية - الإيرانية من العناق إلى الخناق

صبيحة يوم السبت 2 يناير الماضي افتتحت سلطة بني سعود العام الجديد بمذبحة متزامنة مع مثيلاتها في اليمن، طالت الشيخ المعارض نمر باقر النمر (58 عاماً) على خلفية موقفه المعارض للسياسات السعودية العدوانية والظالمة. منظمة العفو الدولية وصفت عملية الإعدام بأنها تصفية حسابات سياسية تحت غطاء مكافحة الإرهاب.
المذبحة كان لها ردود أفعال عدة على المستويين المحلي والخارجي شعبياً وسياسياً ودبلوماسياً، من تظاهرات وتنديدات وإدانات وتصعيدات سياسية، أبرزها ردود الفعل الإيرانية الرسمية والدينية والشعبية، وما بين الإدانة والوعيد والتصعيد السياسي، كان اقتحام السفارة والقنصلية السعوديتين في العاصمة طهران، هو الأبرز على المشهد، حين احتشد جمع غفير من المواطنين الغاضبين أمام السفارة والقنصلية يرددون هتافات مناوئة للمملكة وللجرائم التي ترتكبها، والتي استمرت لعدة أيام منذ لحظة الاقتحام، فيما قابلت السعودية ردود الفعل الإيرانية بإعلانها قطع كافة العلاقات معها على لسان وزير خارجيتها عادل الجبير، مطلع الأسبوع الماضي، الأمر الذي دفع بانهيار العلاقات الواهية أصلاً بين الدولتين. مراقبون رأوا في التطورات تلك انتكاسة في العلاقات إلى ما قبل العام 91م.
المذبحة التي طالت الشهيد النمر، تحيلها بعض الأوساط السياسية إلى كونها استهدافاً مباشراً للجمهورية الإيرانية، ضمن تصعيد بدأت تتعاظم حدته عقب اتفاق لوزان النووي في يونيو العام الماضي، والبعض الآخر يقول بأنه تصعيد للصراع الإثني الطائفي والقومي (أبرزها تصريح وزير الخارجية الأمريكي)، بينما يحيله آخرون إلى كونه تغطية على الانكسارات السعودية المتتالية في الحرب العدوانية على اليمن والبادئة منذ مارس العام الماضي.
قطع العلاقات الدبلوماسية الإيرانية السعودية أخيراً، يعد القطيعة الرابعة في تاريخ العلاقات بين إيران والسعودية ضمن سياق زمني راكمت مشاهده المتقلبة (بالوفاق والفراق) بين آونة وأخرى، جملةً من المتغيرات السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، وبتأثير ثنائي الاتجاه على الصعيدين الإقليمي والدولي، مدشنة بذلك تاريخ بلدين اتسم بالتعقيد والسلاسة معاً، يرصد التحقيق أبرز محطات الوفاق والفراق في العلاقات السعودية الإيرانية، ويقارب الذرائع التي اقتضت هذا الوفاق حيناً والفراق حيناً آخر، عبر الاستعانة بدراسات وأبحاث وآراء متخصصين في هذا المضمار.

محطات الفراق والوفاق.. 
موجز تاريخي
في العام 1943م حصلت القطيعة الأولى في العلاقات بين البلدين، وذلك عقب جريمة قتل الحجاج الإيرانيين على يد البوليس السعودي، وللسبب ذاته في العام 87م بعد قيام الثورة، وفي عام 56م قطعت العلاقات على خلفية خطاب للشاه، وأخيراً قطعت العلاقات بسبب جريمة قتل الشيخ النمر، والتي سبقها قتل الحجاج الإيرانيين واحتجاز عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين في حادث (تزاحم الحجاج) بـ (منى) الذي شكك الجانب الإيراني في كونه حادثاً عرضياً، ليبدأ العد التنازلي في تدهور علاقات البلدين وصولاً إلى القطيعة الدبلوماسية.
مرت العلاقات الإيرانية السعودية بمحطات عدة بين الصراع والاستقرار، فمنذ العام 53م بعد الانقلاب على حكومة مصدق في إيران (على خلفية قرار تأميم صناعة النفط) على يد المخابرات الأمريكية والبريطانية، وإعادة الشاه محمد رضا بهلوي، بدأت العلاقات التحالفية بين النظامين فعلياً، إذ كانت ثورة مصر آنذاك وبما مثلته من نهوض عربي تحرري، هي المهدد الأول لمصالح ونفوذ النظامين الإيراني والسعودي القائمين في دائرة المصالح الأمريكية الغربية، لتدفعهما إلى إعلان تحالفهما في آخر زيارة لشاه إيران إلى الرياض في العام 57م، وإعلانه من هناك أن الملك فيصل هو الأقدر على مواجهة عبد الناصر، وبأنه متحالف مع السعودية ضد مصر.
في اليمن ومع قيام ثورة 26 سبتمبر في 62م، التي حظيت بدعم مصري سياسي وعسكري مباشر، قامت السعودية مع إسرائيل وبريطانيا ودول أخرى، في مواجهتها. وبحسب سرغي لوسيف الباحث في شؤون الشرق الأوسط، في كتابه (الشرق الأدنى: البترول والسياسة)، فإن شاه إيران شارك بإرسال مرتزقة لليمن للحرب ضد الثورة، وكان العام 66م هو الأبرز في إرسال السلاح للمملكة. إلى ذلك، فإن الشاه هو صاحب الفضل في إقناع ملك الأردن حسين بإرسال طيارين أردنيين لشن غارات على اليمن بعد رفض طيارين سعوديين ذلك.
استمرت العلاقات بين نظام الشاه والمملكة بوتيرة مستقرة حتى العام 68م حين انسحبت بريطانيا من البحرين، ليكون الانسحاب أول محطة للصراع على النفوذ بين المملكة ونظام الشاه محمد، وبزيارة الشيخ عيسى آل خليفة إلى السعودية، اعتبر الشاه ذلك اعترافاً سعودياً بالبحرين التي اجتزأتها بريطانيا من الرقعة الإيرانية في عهد شركة الهند الشرقية، مهدداً بعدها بضم البحرين بالقوة العسكرية إلى الأراضي الإيرانية، وفي المقابل أعلن الملك فيصل أنه سيقوم بالرد على أي هجوم إيراني. وفي العام التالي جاء إعلان استقلال البحرين بدعم واعتراف سعودي تصعيداً للأزمة التي احتدت في العام 71م بدخول الشاه عسكرياً إلى الجزر الثلاث (طنب الكبرى والصغرى وجزيرة أبو موسى) عقب الانسحاب العسكري البريطاني منها، وقبل ما يسمى (الإمارات العربية المتحدة) المساحة الجغرافية التي ظل يطلق عليها (جزر الصلح البحري) حتى العام 74م.
في العام 79م قامت الثورة وأطاحت بحكم الشاه محمد رضا بهلوي، ليأتي نظام جديد بقيادة الخميني، قابلته السعودية بعدائية شديدة، وأنشأت مع بقية الممالك الخليجية كياناً تحالفياً في مواجهته، ليتمخض بذلك (مجلس التعاون الخليجي) في العام 80م، وإنشاء ما سموه درع الجزيرة في العام 82م.
حظيت الحرب العراقية على إيران عام 80م وفق كتاب (أسرار حرب الخليج)، بدعم سعودي بلغ خلال سنوات الحرب الثماني، 200 مليار دولار، عوضاً عن أسلحة بما يزيد عن 40 مليار دولار. بينما قدمت الكويت والإمارات للعراق 30 مليار دولار اعتبرتاها قروضاً عليه.
وبانتهاء الحرب عام 88م هدأ الصراع نوعاً ما مع الجمهورية الإسلامية، خصوصاً مع انتقال الصراع بين حلفاء الأمس العراق من جهة والخليج والأمريكان من جهة مقابلة، وكانت خسائر العراق المالية والنفطية بمثابة المفجر لحرب الخليج التي قلبت معادلات التحالفات في المنطقة.
إلا أن 11 عاماً من القطيعة لم تحل دون عودة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين في العام 91م، لا سيما مع صعود الرئيس هاشمي رفسنجاني إلى الحكم، وهو صاحب تصريح (السعودية دعامة أساسية وهامة في العالم الإسلامي)، وشهد العام 97م إبان حكم الرئيس رجائي عودة العلاقات البينية التجارية والنفطية والأمنية لتستمر بوتيرة متصاعدة حتى العام 2001م حين وقعت السعودية وإيران اتفاقية أمنية مشتركة أهم بنودها الرقابة الحدودية ومكافحة الإرهاب وغسيل الأموال.
وبحلول العام 2006م، وبتصاعد الحصار والعقوبات على الجمهورية الإيرانية، تصاعد الخلاف مع المملكة السعودية على خلفية البرنامج النووي الإيراني والطموح المعرفي لامتلاك ناصية التكنلوجيا النووية التي اعتبرتها السعودية خطراً يهددها، وأعادت حرب لبنان بقيادة حزب الله ضد الاحتلال الإسرائيلي العلاقات بين النظامين إلى طور التوتر الذي تصاعد مع حرب 2009م الإسرائيلية على قطاع غزة، وصولا إلى تفجير الحرب في سوريا واليمن.
صراع القوميات والمذاهب أم صراع في عمق قضايا المنطقة؟
طيلة فترة الصراع بين (إيران الثورة) والسعودية، اعتمدت الأخيرة تقديم صورة الصراع بكونه مذهبياً قومياً، الأمر الذي تناقضه حقائق تاريخ علاقات البلدين من جهة، والأخرى مواقف كلا البلدين تجاه قضايا المنطقة.
تاريخياً كانت علاقات البلدين في عهد شاه إيران بأحسن حالاتها، وهو الأمر الذي ينفي صحة الذريعة القائلة بالصراع (الفارسي العربي والتمدد الإيراني الصفوي) الذي تروجه السعودية والمنظومة الاستعمارية الدولية التي تنضوي في إطارها، فشاه إيران عرف بعصبويته القومية والعرقية وبكونه شيعياً أيضاً، فكيف بها تحالفت معه قرابة 40 سنة حتى قيام الثورة؟
بينما الثورة من لحظتها الأولى تبنت القضية الفلسطينية وأقفلت السفارة الإسرائيلية وطردت بعثتها الدبلوماسية وسحبت ممثليها، لتقيم محلها سفارة لفلسطين المحتلة، وتكللت هذه الخطوة بزيارة وفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة الشهيد ياسر عرفات، إلى طهران، وسط حشد احتفائي ضخم. كما أقامت ذكرى سنوية أطلق عليها (يوم القدس العالمي) في آخر جمعة من رمضان كل عام.
في اجتياح الكيان الإسرائيلي للبنان عام 82م، أرسلت القيادة الإيرانية فرقة من الحرس الثوري لتدريب اللبنانيين على الحدود السورية اللبنانية بعدما أعاقت الحرب مع العراق إرسال قوة للمشاركة.
وإزاء أمريكا أطلق قائد الثورة عليها وصف (الشيطان الأكبر)، معلناً أن إسرائيل هي العدو الأول في المنطقة، ليعلو عقبها شعار (الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل)، بينما كان نظام الشاه وثيق الصلة بالكيان الإسرائيلي، ولم يكن ذلك مدعاة في نظر السعودية لتعكير العلاقات معه.
السؤال الذي لا يتوقف عن طرح نفسه في مفارقة هائلة بين الواقع والخطاب السعودي الأمريكي، هو كيف نفهم مواقف دولة (صفوية مجوسية فارسية توسعية معادية للعرب وطائفية اجتثاثية كما تروج السعودية ومنظومتها) أن تقوم بدعم، أولاً دول وحركات مقاومة عربية كفلسطين وسوريا وحزب الله وجماعات المقاومة العراقية (بمختلف توجهاتها) في مواجهة الاحتلال الأمريكي؟ وثانياً كيف بها أن تقوم إذن بدعم حركة حماس الإخوانية في قطاع غزة، وحركة الجهاد الإسلامي السنية، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟
من جانب آخر، إن صحت دعاوى السعودية ورجالات دينها وبقية حلفائها الخليجيين، فلماذا تقوم معهم علاقات تجارية واستثمارات بينية بمئات المليارات من الدولارات، علاوة على اتفاقيات أمنية وسياسية ونفطية عدة بين الجانبين، وكذا سفارات لإيران في كل دولة خليجية والعكس أيضاً؟
وفي الوقت الذي كانت فيه المواقف الإيرانية تتناقض مع المواقف الإسرائيلية والأمريكية، كانت المواقف السعودية متماثلة مع مواقف الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، فمثلاً في حرب 2006م ضد الاحتلال الإسرائيلي ظهرت الفتاوى الدينية السعودية تحرم الالتفاف خلف عصا شيعية، إشارة لحزب الله، وفي حرب 2009م الإسرائيلية على قطاع غزة أفتت السعودية بعدم جواز حتى التضامن بالدعاء لمن هم مدعومون شيعياً! وفي الحرب على اليمن بعد هروب هادي إلى عدن، صرح وزير الخارجية سعود الفيصل أن (صنعاء محتلة)، وهو التصريح ذاته الذي تبعه بيومين على لسان رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. والموقف ذاته في العداء ضد الدولة العربية السورية. علاوة على كون مفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ وقيم مكة عبدالرحمن السديس، أعلنا في أكثر من محطة أن أولوية العداء الآن هي مع إيران، وليست من الكيان الإسرائيلي المحتل!
الثورة الإيرانية أقفلت السفارة المصرية في طهران وطردت ممثليها بعد خيانة أنور السادات رئيس مصر آنذاك، بتوقيعه معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، فيما السعودية كانت جزءاً رئيساً في صناعته.
وما يزيد من تأكيد هذا الطرح هي جملة التصريحات بين الجانبين الإيراني والسعودي في الفترة بين 97م و2006م التي قالت بالموقف الديني المشترك والاعتراف بأهمية كل طرف وضرورة التحالف وتوحيد الموقف، وأبرزها تصريحات الجانبين عقب أحداث 11 سبتمبر. 
إذن، يضعنا العرض السابق أمام حقيقة مفادها أن لا علاقة للدين والانتماء القومي في الصراع الإيراني السعودي وجملة صراعات المنطقة، وطرح ذرائع الدين والقومية لا تحضر إلا كمبرر يتم تكييفه بحسب حاجة تلك الفترة وظروف الصراع والمصالح القائمة. وفعلياً يثبت ذلك أيضاً أن الصراع دائب في صلب قضايا المنطقة بين استعمار وتحرر، في الأول موقع السعودية ووظيفتها، والثاني موقع إيران الثورة وقضيتها.
وفي هذا الصدد يؤكد الدكتور في جامعة تعز عباس الزريقي، الباحث في العلاقات الدبلوماسية لدول المنطقة، أن إيران عقب الثورة الإسلامية تحررت من العباءة الأمريكية الإسرائيلية، وأتت بخطاب إسلامي ثوري عام تجاوز كل العصبيات القومية والدينية التي كان يمثلها الشاه المعروف بتطرفه الشوفيني، وإيران الثورة وقفت مع قضايا المنطقة، واعتبرت أن شرعية ثورتها مستمدة من شرعية ثورة فلسطين، والسعودية لم يرق لها الارتباط الوثيق بقضايا المنطقة ومصالح شعوبها، وأرعبها الدفع والتحريض لتحرير فلسطين التي تخاذل معها العرب منذ السبعينيات، والسعودية وحلفاؤها هم من دفعوا بالعراق للحرب ضد إيران ضمن استراتيجية أمريكية رجت أن ينهار كلا البلدين.
هيكل في كتابه (زيارة جديدة للتاريخ) وفي برنامجه (مع هيكل)، يذكر أن حكام الخليج كانوا يحجون إلى إيران حجاً، فإيران كانت مقدسة بعهد الشاه لكونها اضطلعت بدور شرطي الخليج في المنطقة.

لمحة من العلاقات التجارية بين إيران والخليج في 2005- 2006م

تراوح حجم التبادل التجاري بين إيران والسعودية في عامي 2005 و2006م، بين 250 مليوناً وملياري دولار، بحسب الإحصائية الرسمية آنذاك.
وفي 2006م بلغت صادرات الإمارات إلى إيران نحو 7.5 مليارات دولار، فيما بلغ حجم صادرات إيران إلى الإمارات 2.5 مليار دولار. كما تسعى إيران لجذب الاستثمارات الإماراتية باعتبارها مصدراً من مصادر التمويل وسوقاً مهمة للسلع الإيرانية. ولإيران جالية كبيرة في الإمارات تقدر بنحو مليون مواطن إيراني، وهناك ما يقرب من ستة آلاف وخمسمائة شركة إيرانية تعمل في الإمارات. وبلغت الأموال التي أدخلها المستثمرون الإيرانيون إلى دبي وحدها أكثر من 200 مليار دولار في 2005م، مع قرابة 300 مليار دولار في العام 2006، وكانت معظم هذه الاستثمارات قد توجهت إلى الإمارات أثناء فترة الحرب العراقية الإيرانية، بسبب الحصار الذي فرض على إيران من قبل أمريكا وغيرها من الدول الواقعة في نفس حلفها.
مفارقات الواقع والخطاب

تعرف سينما (شهرام) بإيران باسم (حسن البنا) مؤسس حركة الإخوان المسلمين (السنية)، كما يوجد طابع بريدي يحمل صورة (سيد قطب)، وكذا شارع في العاصمة طهران يحمل اسم (خالد الإسلامبولي) الذي قام باغتيال أنور السادات. بينما يحمل الشارع المجاور لوزارة الخارجية بطهران اسم الشيخ (عبد الحميد كشك).