الدكاك يسلخ روحه الوطنية المنكسرة هذه المرة في «بناء على ما تهدم»
- محمد القيرعي الأحد , 19 أكـتـوبـر , 2025 الساعة 1:08:41 AM
- 0 تعليقات
محمد القيرعي / لا ميديا -
في ديوانه الشعري الأخير "بناء على ما تهدم" والذي صدر بالتزامن من ناحية أولى مع حلول الذكرى السابعة والأربعين لتأسيس حزبنا الاشتراكي، ومع الذكرى الثانية والستين لقيام ثورة أكتوبر الاشتراكية في جنوب ما قبل الوحدة، كان الرفيق المناضل والمثقف الثوري والوطني الفذ صلاح الدين الدكاك مبدعا ومتألقا كعادته في تبني هموم الواقع والماضي والحاضر الوطني المثخن بالدم والدموع والجراح المنبثقة من فواجع النكسات المتعاقبة بتعاقب دورات الحروب والصراعات الأهلية المتوالية، والتي حفلت بها مصفوفته الشعرية المثقلة هي الأخرى بالشجن والحسرات وبوحشة الاغتراب الممزوجة بتعابير روحه المنكسرة وهو يرقب كـ(ثائر) بذهول كل آماله ونضالاته وتطلعاته الكفاحية وتضحياته المرة تذوي مندحرة تحت أقدام "الفاشست الجدد" من أمراء الحروب وجحافل مغول العصر القادمين من حواصل القرون الوسطى.
إنها سمة الدكاك الثورية التي لازمته بشكل وثيق طيلة حياته والذي عرفته أصلا من خلالها منذ ما يقرب من عقدين زمنيين ونصف، حيث لم يسبق لي قطعا طيلة هذه الفترة أن قرأت أو طالعت مقالا له أو نثرا يمدح من خلاله زعيما معينا أو رئيسا أو قائدا حركيا وحزبيا أو شيخا عشائريا أو أمير حرب على غرار الكثير من مثقفي الغفلة وحملة أقلام النفاق السياسي الرخيصة والمبتذلة التي تحفل بهم ساحتنا الوطنية على الدوام.
إذ إن كل كتاباته ونثرياته وقصائده، وحتى شطحاته "الدكاكية"، كانت ولا تزال مكرسة في مجملها لتبني هموم الواقع الجماهيري والوطني المرير والمتسعة باتساع معاول الهدم الناخرة في بدنه من قبل الزاعقين والناعقين زورا باسم الوطن والوطنية، لدرجة جعلتني أتوق حقا، وأتمنى من كل قلبي لو أن المشيئة تمنحني يوما ما الفرصة والشرف الكافيين لأتشاطر مع هذا الرجل "الدكاك" جزءا من إرثه المتسامي ومن شغفه الثوري وميراثه الكفاحي المصلوب كتاريخ كل من سبقوه من أحرار هذه البلاد ممن اندثروا في براثن الإقصاء والتجريم والتخوين المعمم بحراب المتفيدين.
إنه الشغف ذاته الذي خصني به الرفيق صلاح الدكاك بسخاء الفاتحين الحقيقيين في ثنايا ديوانه آنف الذكر، من خلال قصيدته النثرية التي خصني بها والمهداة لشخصي، بوصفي الأممي الأخير من منظوره الرفاقي والمعنونه بـ"نهاية حمراء فاتحة" والتي عكس من خلال حروفها المتقدة ضراوة آلام وفواجع النضال الحزبي والحركي الشاق والمرير الذي خضناه معا في إطار حزبنا الموءود (الاشتراكي اليمني) على مدى عقود زمنية مضنية وفائتة.
وعموما وبما أنني قد أكون استحققت أمميتي كعقائدي ماركسي من منظور الرفيق الدكاك، من خلال تشبثي الراسخ والمطلق بمبدأ الخلاص الذاتي المنبثق من عمق نشيدنا الشيوعي العالمي القائل: "لن يأتينا أحد بالخلاص.. لا الرب.. ولا الملك.. ولا الأبطال.. بل سنتوصل إلى تحرير أنفسنا بأيدينا بالذات".
إلا أن الأمر الملهم في هذه المسألة يكمن في كون ملحمته "نهاية حمراء فاتحة" شكلت في الإجمال ومن خلال مكنونها السردي والتحليلي العميق شهادة حية وموضوعية مؤثرة من ثائر مجرب وضليع بخبايا الدسائس والمؤامرات الحركية التي طبعت ولعقود زمنية مضنية مضمون العلاقات الكفاحية والرفاقية داخل الحزب بما تخللته من مشاريع ومؤامرات إقصائية وإلغائية طالتنا في الداخل الحركي وبصورة تعدت في بعض جوانبها المخجلة خسة ووحشية خصومنا في انظمة الحكم الديكتاتورية المتعاقبة، ومن قبل رفاق وقادة حركيين كانوا مدفوعين في جانبهم الأعم بهوس الظن والتصوف الرجعي في أن نبوغنا وصعودنا الكفاحي والحركي قد يقوض -بطريقة ما- مواقعهم المشيدة بجدران التراتبية الطبقية الممسوسة بجان التفوق العرقي.. وبنزعة الاستعلاء الطبقي التي كان لها دورها الفاعل في نهاية المطاف في إيصال حزبنا الاشتراكي إلى ذلك المستوى المرير والمخزي من التردي والانهيار الذي وصل إليه اليوم فيما يخص حضوره الثوري والسياسي والجماهيري والحركي بصورة لا أمل في تعافيه منها، جراء الغياب التام والانعدام المنهجي الذي شاب مسيرة الحزب الكفاحية والفكرية الطويلة لذات السمات النقدية والتقييمية المثلى التي يتسم بها الرفيق الدكاك، والتي عكست وتعكس معتقداته الكفاحية والثورية في سياق تقديسه المبدئي الراسخ لخاصية الجدل السياسي والنظري المفتوح والمفترض توافره داخل بنيان الأحزاب والحركات الثورية إجمالا، والذي لا يعد توافره فحسب من منظور العمل الحزبي السليم بمثابة عماد التوجيه والتنوع المنهاجي المثمر والمطلوب للدفع بسيرورة الكفاح الحزبي والوطني قدما إلى الأمام، بقدر ما يؤمن في الوقت ذاته شروط البقاء والظفر الثوري والديمومة الكفاحية لآجال مستقبلية طويلة مهما عصفت أعاصير الردة من حولنا.
لقد لخص الرفيق الدكاك في أيقونته "نهاية حمراء فاتحة" مكامن الخلل الحركي التاريخي المستشرية في مفاصل حزبنا الاشتراكي جراء استفحال النزعات المنحرفة والمشوهة التي أفقدت الحركة الاشتراكية الوطنية مناعتها أمام سيل الانحطاط القيمي والفلسفي الذي أودى بها في نهاية المطاف إلى الهلاك والتقوقع على هامش الحياة والتاريخ الوطني.
ما يعني أن كل فشل وكل إخفاق منينا به على امتداد مراحل العمل الثوري الاشتراكي في بلادنا خلال الحقبتين الشطرية والوحدوية كان مبعثه بالدرجة الأساس أولئك الثوريين المزيفين، الذين شخصهم الرفيق القائد (لينين) بأن أبرز سمات فشلهم الأساسي تكمن في إخفاقهم المنهجي عن فهم خصائص الارتباط والتناقض بين الثورة والثورة المضادة، الأمر الذي حولهم على الدوام إلى أبرز أدوات الهدم الجبارة لكافة الأسس والمبادئ الثورية التي كافحنا وضحينا طويلا في سبيل إرسائها.
وعموما لا أدري كيف دفعني إمعاني المتبصر بفحوى عنوان الإصدار الشعري آنف الذكر للرفيق صلاح الدكاك إلى استحضار ذات النمط الثوري الملهم والمشحون بكل عوامل التعاسة والانكسار الكفاحي الذي سبقته إليه أوائل القرن العشرين الرفيقة القائدة والشهيدة روزا لوكسمبرغ، التي أريق دمها ودم رفاقها في الكفاح الثوري (عصبة سبارتاكوس) أمثال المناضل كارل ليبخنت، قبل مائة وأربع سنوات وعشرة أشهر تحديدا على يد رفاقهم المفترضين في حكومة الاشتراكية الديمقراطية التي كان يقودها آنذاك -مدعي الماركسية- المعتل فريدريك أيبرت الذي لعب الدور التآمري الأكبر والأقبح في تاريخ الاشتراكية وباسم الكفاح البروليتاري على الحركة الاشتراكية والعمالية الألمانية برمتها وباسم الماركسية طبعا، وبالشكل الذي أسهم إسهاما جوهريا وفاعلا في توفير الظروف والمناخات الأيكولوجية الكافية لنشوء وتطور الأيديولوجية النازية التي هيمنت آنذاك على الساحة الوطنية الألمانية للعقدين التاليين.
خلاصة القول، هو أنه وحتى في أحلك المنعطفات وأكثر اللحظات حرجا وتعاسة وديماغوجية، فإننا غالبا ما نجد بعض المتنفس من خلال أولئك المملوئين بهجة وغبطة ووقارا ثوريا يندر في عالم يكسوه الزيف والبغض والرذيلة بأسوأ وأحط أشكالها، على غرار الرفيق صلاح الدكاك الذي وبقدر امتناني الشخصي والرفاقي له، بقدر ثقتي الأكيدة أيضا في أن حضوره الذاتي الراسخ في ذاكرتي وذاكرة أبنائي وأحفادي وأبناء جلدتي "المهمشين" سيمنح أجيالنا القادمة والتواقة للانعتاق الحافز الكافي للدفع بصيرورة كفاحهم العرقي والطبقي التحرري إلى مصافات مثمرة ومظفرة لا محالة، وليكن على ثقة من أنه وإذا لم تكتب لنا المشيئة اللقاء مجددا في دنيانا المثخنة بالعثرات، فإن روحي ستجد طريقها إليه دائما، حتى ولو كنت في أعماق الجحيم.
المصدر محمد القيرعي
زيارة جميع مقالات: محمد القيرعي