محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
ما من شك أبداً في أنه وعقب نجاح المشروع الرجعي والانهزامي في سورية فإن هذا البلد وشعبه المكلوم مقدمان على مرحلة حالكة ومضنية من الفوضى السياسية والاجتماعية والعرقية والأمنية التي لن تنتهي بصورة محمودة كما قد يتصور البعض.
فالخاسر الأكبر والأبرز من وراء إنجاح تلك المعادلة الانقلابية هو الشعب السوري ذاته، الذي يوشك دون مواربة على الولوج، وبمختلف فئاته وطوائفه المذهبية والطبقية والعرقية والدينية، في نفق معتم وأشد ظلاماً وسوداوية ربما من باقي تجارب التغيير الحضاري المزعوم، التي عمت العديد من بلدان منطقتنا العربية خلال العقد والنصف الفائتة.
فـ"دواعش" سورية، الذين استعادوا حضورهم بشكل ملفت ومكثف منذ انهيار نظام الأسد في عدد من المحافظات السورية المهمة، مثل الحسكة ودير الزور وحمص، ها هم اليوم يتقاطرون بعقلياتهم الدموية والإجرامية ولحاهم المسربلة الممزوجة بصرخات التكبير الهادرة المنطلقة من حناجرهم العفنة، في محاولة لاستغلال حالة الفوضى الناشبة والفراغ السلطوي، من منطلق قناعتهم التي أعلنوا عنها عقب انهيار نظام الأسد، وعبر مجلة "النبأ" خاصتهم (المجلة الناطقة باسم تنظيم الدولة الإسلامية)، والمتمثلة برفض تنظيمهم التكفيري القاطع الاعتراف بأي شكل من أشكال السلطة الوطنية في سورية غير سلطة التنظيم المتطرفة، التي يأملون تكريسها على أرض الواقع وفق تطلعاتهم الفقهية المريضة والمتبلدة كأساس منهجي لحكم سورية المكتوية وشعبها بمجونهم اللاهوتي المحكوم بنزعة التنكيل الاستئصالي الطاغية ضد مختلف الطوائف والقوميات المذهبية والعرقية والدينية الأخرى الداخلة في البنية الهرمية التاريخية للشعب السوري، مثل الأقليات الكردية والمسيحية والعلوية والشيعية وحتى القوى السياسية والحركية العلمانية أيضاً، كمبدأ سلطوي مهم سيضاف دون مواربة إلى هوسهم الفقهي التقليدي المعهود، والمتمثل بالتقطيع العبثي للأيدي والرؤوس والتمثيل بالآدمية، كأساس منهجي لإقامة "دولة الإسلام" المأمولة على قاعدة التطبيق الصنمي والماضوي للتعاليم والشرائع السماوية، بوصفهم -كما يزعمون- الطائفة المحتكرة بشكلٍ حصري دون غيرهم لتمثيل الله على الأرض والمخولين قطعاً بتطبيق شرائعه.
إنها التطلعات التي نالت على الدوام حظها من الرضا والإسناد (السعودي - التركي) المشترك، بالنظر إلى التقاء وتوافق المصالح المشتركة لثالوث الإرهاب الديني (الدواعش والرياض وأنقرة)، وإن اختلفت من حيث مضمونها الجيوسياسي؛ إذ إنه، وفي حين تنطلق رغبة أردوغان في هذا الشأن من قناعته بأن أهمية هيمنة "الدواعش" وحلفائهم على مفاصل الحكم والقرار السياسي السوري سيساهم من وجهة نظره في لجم التطلعات القومية لأكراد سورية الذين تمكنوا خلال العقد والنيف الفائتة، وفي خضم فوضى الحرب الأهلية، من تعزيز حضورهم الطبقي بصورة غير محمودة بالنسبة لأردوغان وفاشيته الدينية، بما يمتلكونه حاليا (أي أكراد سورية) من موارد مادية ولوجستية مسنودة بقوى مليشياوية منظمة ومسلحة جيداً قد تمكنهم في قادم الأيام -وهذا مؤكد- من فرض حضورهم في معادلة القوى السورية النافذة، ومن التمتع بالعديد من الحقوق والمزايا الطبقية المفترضة، مثل الحصول على امتيازات الحكم الذاتي لمدنهم ومناطقهم المحاذية في أغلبها للحدود التركية، حيث ترى أنقرة في وجودهم المتنامي ذاك خطراً يزعزع أمنها القومي، بسبب الارتباط القومي الوثيق للقوى الكردية في كلٍّ من سورية والعراق وتركيا.
هذا هو الأمر الذي سبق لتركيا الأردوغانية أصلاً أن لعبته علناً وباحتراف وأمام أنظار المجتمع الدولي ككل خلال سنوات الحرب الأهلية السورية، حينما وفرت كل الشروط والمقومات والتسهيلات المادية واللوجستية التي مكنت تكفيريي "داعش" من إنشاء دولتهم الإسلامية الهجينة في أراضي العراق والشام وبصورتها الأبشع التي سادت خلال الفترة من العام 2014 وحتى سقوطها الدرامي، بصورة ما كان يمكن لها أن تتحقق على أرض الواقع لولا المساهمة التركية الرئيسية حينما فتحت حدودها ومنافذها البرية والبحرية والجوية لاستقبال واستقطاب العصابات "الداعشية" المتقاطرة آنذاك من شتى أصقاع العالم.
ليس أدل على ذلك من حجم المؤشرات الأردوغانية الأخيرة التي برزت في وقت مبكر عقب انهيار نظام الأسد وسيطرة "هيئة تحرير الشام" على دمشق من خلال المواجهات العسكرية الضارية التي نشبت، وبإيعاز من أنقرة، بين "الجيش الوطني" السوري الموالي لها وبين القوات الكردية المتمركزة في شمال شرق سورية.
الموقف ذاته يتوافق بصورة أو بأخرى مع موقف النظام السعودي، الذي تكمن مصالحه الحيوية في دعم وإسناد التطلعات "الداعشية" في الهيمنة بشكل خفي وعلني لإغراق البلاد (سورية) أولاً في دوامة من الصراعات الدموية، عبر تسخير أدواتها الإجرامية (الدواعش) وتوجيهها لشن صدامات مذهبية مع الأقليات الشيعية والعلوية وتلك القريبة منها المصنفة "داعشياً" بالطوائف الدينية المارقة... إلخ، ولمنع سورية من ناحية أخرى من لملمة جراحها ومحاولة النهوض مجدداً لاستعادة بأسها وقرارها الوطني المستقل عبر قواها الوطنية الحية من مناهضي الانبطاح والعمالة والرجعية.
الأمر ذاته بات واعداً جداً بالنسبة لكلٍّ من الرياض وأنقرة، بالنظر إلى جذور وهوية القوة الرئيسية المهيمنة حالياً على العاصمة دمشق والتي شكلت حكومتها المؤقتة (هيئة تحرير الشام) وتعد في الواقع جزءاً رئيسياً من مكون التشكيلات ذات النشأة التكفيرية، بالنظر إلى ماضي وهوية قائدها الأول (الجولاني) الذي نشط إبان فترة الاحتلال الأمريكي للعراق بمعية أبي مصعب الزرقاوي كقائد عسكري ميداني مع تنظيم "القاعدة" قبل أن ينتقل لاحقاً إلى سورية ويسهم بشكل فاعل ورئيسي في تأسيس "جبهة النصرة" التكفيرية سيئة الصيت.
وبالطبع، ومع انجرار سورية حالياً صوب الفوضى والتمزق الذي كان عصياً في الماضي وتحولها إلى ساحة معركة وتنافس للعديد من اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين يحمل كلّ منهم أجندته الخاصة، باستثناء مشيخة الإمارات المناطة والمجندة على الدوام وفي أغلب مناطق نفوذها من سورية إلى اليمن ولبنان والسودان لخدمة توسع مصالح أسيادها الرئيسيين الصهيوأمريكيين، والتي (أي أبوظبي) تحملت عبئاً رئيسياً منذ بداية الأزمة السورية في تنظيم وتسليح عملائها تحت اسم "الجيش السوري الحر"، في خطوة كان ولا يزال الهدف من ورائها تقليص الحضور الثوري لسورية وتعويم شعبها لتجريدهم من خاصيتهم العروبية المقاومة وتحويلهم إلى أداة طيعة في مهرجان التطبيع الصهيوأمريكي السائر على قدم وساق في محيط أمتنا العربية الثكلى بفعل التفاني الخليجي، والذي تلوح ملامحه جلية في الأفق، بسبب الأرضية الخصبة التي باتت مهيأة في الواقع لفرض معادلة التطبيع والتبعية على الشعب السوري، الذي تكمن نكبته الكبرى في الوقت الراهن لا بسقوط نظامه الوطني فحسب، وإنما بكون جميع تشكيلات القوى المليشياوية المبندقة والوريثة لمشهده الوطني تعد من حيث المبدأ فصائل مسلوبة الإرادة والفاعلية؛ كونها مشكلة أساساً لخدمة تلك الأجندة، بحيث لا تلتقي في مجملها عند هدف أو مشروع وطني محدد، بسبب حالة التضاد المحمومة القائمة فيما بينها من النواحي الأيديولوجية والولاءات السياسية والتبعية للقوى الخارجية، مما يصعّب تماماً التكهن بقدرتها على إدارة شؤون البلاد بحس ومشروع وطني حقيقي وباقتدار أيضاً مبعثه الإحساس الفعلي بعظم المشاعر الوطنية التي باتت شيئاً من الماضي.

أترك تعليقاً

التعليقات

Carley
  • الأربعاء , 25 يـنـاير , 2017 الساعة 8:54:42 AM

At last, soonmee comes up with the "right" answer!