محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
كلما كتبت مقالا أو تناولت موضوعا نقديا أو تحليليا حول حزبنا الاشتراكي اليمني وتجربته الكفاحية والحركية والسياسية العريقة والمترسخة في الذاكرة الوطنية الجمعية، سرعان ما تنهال علي من هنا وهناك من بعض مثقفي الغفلة ومدعي السياسة سهام النقد والتجريح لشخصي وتاريخي والتشكيك الانهزامي بمثلي وقيمي السياسية والكفاحية.
فمنهم من يتهمني بأنني فرطت بحريتي عمدا مفضلا العودة للمرفع وحياة العبودية، وإن كنت أتساءل هنا عن مضمون هذه الحرية التي فرطت بها، وما إذا كانوا هم -أي ناقدي- قد تمتعوا أو يتمتعون بها أصلا.
فيما يتهمني آخرون بالمقايضة بقيمي وانتمائي وتاريخي الحزبي مقابل بعض الامتيازات السلطوية والمادية، رغم أنني ما أزال أعيش كما نشأت خادما معدما وعلى الكفاف، وذلك على الرغم من إدراك هؤلاء الشامتين والناقمين، قبل غيرهم طبعاً، أنني ومنذ مغادرتي الحزب في شتاء العام 2009 -وعلى خلاف غالبية من غادروه قبلا أو بعدا- لم يسجل لي حتى اللحظة أن كتبت مقالا صحفيا أو منشورا فيسبوكيا أو ألقيت محاضرة هنا أو هناك أسأت من خلالها للحزب الاشتراكي ولتجربته النضالية الوطنية أو تنكرت حتى لماضي معه ولانتمائي الفكري والأيديولوجي العضوي له، بل على العكس من ذلك تماماً.. إذ إن كل كتاباتي وإطلالاتي لاتزال حتى اللحظة تحمل في طياتها شغف الولاء والانتماء لهذا الحزب الذي منحنا القدرة في ما مضى على التفريق ما بين كوفية الحرية وعباءة الأوهام الرخيصة والمبتذلة والوضيعة.
وعموما، فإن "لقافة شامتة" كتلك تعد أمرا واردا وبديهيا للغاية في بلد مأزوم كبلدنا، ليس فقط لتدني مستويات الوعي والثقافة السياسية والحركية والمعرفية إلى مستوياتها الضحلة والمعهودة، وإنما بالنظر أيضا -وهذا هو الأهم ربما من وجهة نظري- إلى الانعدام شبه الكلي أو الكلي -إن جاز التعبير- لخاصية الجدل السياسي والنظري المفتوح الذي يعتري مجمل أطراف المنظومة السياسية والحركية والحزبية في بلادنا، بقديمها وجديدها، بيمينها ويسارها ووسطها وتقدمييها وقبائلها وقومييها.
فالحزبية في بلادنا وباختلاف مكوناتها مجرد إطار لعلاقات قبلية وأسرية وشللية وليست منهاجا ثوريا منظما لرؤى وأفكار سياسية وفلسفية بناءة وملهمة، كما يفترض، الأمر الذي أبقى على الدوام سبل وأدوات الكفاح والعمل السياسي الوطني أمرا عديم الفاعلية وخارج إطار الوعي الحداثي التطوري المأمول والمفترض.
ومع هذا رأيت لزاما علي هنا إيضاح بعض الحقائق المخفية وراء مغادرتي الحزب، علي أحظى بنوع من العدالة في أحكام هؤلاء الفتية الشامتين، الناقمين على شخصي.
فحينما كنت طفلا في سبعينيات القرن العشرين كنت دوما أتساءل في حيرة ما إذا كانت الحياة تمتاز في مجملها بكل ذلك الجبن والهوان والقسوة والعدمية الماثلة في حياتي وحياة أقراني من أخدام ومهمشي قريتنا الذين ولدوا وعلى أعناقهم تتدلى قيود الموروث الدوني العنصري بصورة لا فكاك منها، كان السؤال الأعم الذي يلح في مخيلتي يكمن حول ما الذي يجعل البغض والكراهية يسموان على ما عداهما؟
وبالطبع فقد كنت محقا في ذلك، فلا مكان آمن لمن هو مثلي في وسط هذا العالم الموبوء بالنفاق والكراهية، كنت الوحيد من بين أبناء جيلي الذي يعاني من تبعات تفوقه الدراسي في مرحلة التعليم الابتدائي منتصف سبعينيات القرن العشرين، حيث كنت ذكيا ومتفوقا بالفطرة، بيد أن تفوقي الملحوظ آنذاك كان يعد بمثابة إهانة مرفوضة لأقراني القبائل، وتمردا أو تقويضا ـإن جاز التعبيرـ لبنيان تفوق العرق الأبيض، الأمر الذي كان يتعين علي معه تحاشي تفوقي في كل مرة أحوز فيها على درجات أعلى من غيري، خوفا من ردة الفعل الاجتماعي ومن غضب "الفاشلين البيض" الذين كانوا دوما على حق، حتى في نظر والدي، الذي كان مجرد تفوقي يشكل في نظره أداة جلب لمتاعب هو في غنى عنها أصلا.
وبالتأكيد فقد حفزني ذلك المناخ من البربرية الماضوية آنذاك على الهرب مبكراً من والدي ومن أسرتي ومن المجتمع قبل أن أجتاز حتى مرحلة التعليم الابتدائي، مدفوعا برغبة عارمة وبعزم لا يلين في أن كفاحا من نوع آخر -أشد بأسا وضراوةـ يمكن أن يحررني من لعنة القهر والتسلط الاجتماعي والدونية تلك، ويمكنني من اكتساب مكانتي العادلة في المجتمع، لتكون البداية الحقيقية لكفاحي الثوري المحموم منطلقة في 1978، من عمق إيماني بعظمة الشعار الذي أطلقه الرفيق فلاديمير أليتيش لينين في أن "الأرض والخبز والسلام والحرية ضرورية من أجل الشعب".. حينما كنت ما أزال يافعا في منظمة أشيد (اتحاد شباب اليمن الديمقراطي) ومن بعدها في الحزب الاشتراكي، لأكتشف بعد 4 عقود كاملة كم كانت الحياة غير عادلة معي البتة، حينما تيقنت من شدة زيف دعاة القيم والشعارات التقدمية في بلادنا، التي قاتلنا وضحينا طويلا في سبيلها بسخاء الفاتحين الحقيقيين، حيث كانت ثورتنا الاشتراكية في جنوب اليمن ما قبل الوحدة مجرد يافطة تخفي وراءها مجموعة من برابرة القبيلة المتمترسين بقوة خلف "المطرقة والمنجل"، والذين اعتادوا في الحقيقة على حشو خطبهم الثورية بالعبارات التقدمية المنمقة واحتساء الكحول والجعة بإفراط، ما جعلهم غير مدركين البتة حقيقة أن قضية الحرية الإنسانية لا تعني فحسب خلع الحجاب وتقويض التراتبية الطبقية وتهميش الألوهية الدينية، بقدر ما هي قضية إنسانية مطلقة، تعني تحقيق الأمان لبيوتنا ولآمالنا وتطلعاتنا التحررية ولأطفالنا وحاضرنا ومستقبلنا.
وهي مسائل لا يعد الكفاح في سبيلها واجبا مقدسا فحسب، بقدر ما هو حق ملزم تفرضه علينا ضرورات الصيرورة التاريخية، وكانت الحصيلة النهائية للعملية الثورية برمتها تشكل انعكاسا هائلا لأكبر مظاهر الإخفاق الثوري لنظرية سياسية؛ أيديولوجية "الماركسية" التي ما أزال من أشد المؤمنين والمبشرين الثوريين بمبادئها وأسسها، وبنشيدها الأممي القائل "لن يأتينا أحد بالخلاص... لا الرب ولا الملك ولا الأبطال، بل سنتوصل إلى تحرير أنفسنا بأيدينا بالذات".

مما لا شك فيه أن من أبرز حجرات العثرة التي شابت مسار وتجربة الحزب النضالية، وخصوصا خلال الحقبة الشطرية، كانت ماثلة في طغيان النزعات الفردية، واستفحال الدوغمائية كسلوك استحواذي أدى ليس فحسب إلى انحسار القيم والمبادئ التقدمية المثلى لصالح الفكر الماضوي، بقدر ما أسهم في تقويض كل أسس البناء الحزبي والحركي السليم، وضرب خاصية التنوع الفكري والأيديولوجي والنظري داخل تكوينات الحزب لصالح تعزيز مبدأ عبادة الفرد والقائد وتمجيد النزعات الشللية بطابعها العشائري البحت، إلى حد أن حزبنا الاشتراكي، وبوصفه الأداة الثورية الوحيدة الحاكمة في منطقتنا العربية من منظور فلسفي عميق، كان يفتقر تماما لوجود قاعدة بروليتارية صلبة وسليمة ومتماسكة، بالنظر إلى توزع ولاءات كتل البروليتاريا القاعدية على أسس فردية وشللية وعشائرية بالصورة التي يمكن تبيانها بوضوح من خلال الإمعان بموضوعية نقدية فاحصة لمجريات التشرذم المتلاحقة التي شابت البنيان الفكري والحركي للحزب خلال الحقبة الوحدوية وما تلاها من أحداث، أهمها حرب صيف 1994 وما تلاها.
عقب إعلان الوحدة في أيار/ مايو 1990، وبعد سنوات طويلة من النفي القسري وأحكام الموت الجائرة التي كانت صادرة ضدنا، عدنا إلى قرانا ومناطقنا في الشمال في ظل أوضاع حزبية وسياسية ضبابية مشحونة بعوامل الصراع السياسي وانعدام الثقة وعقليات الإقصاء والتهميش الحركي لحزبيي الشمال، تحديدا جماعة الجبهة الوطنية، والتي استمرت بوتيرة منتظمة حتى نشوب حرب صيف 94، التي من جهتها لم تقوض فحسب كل ما ناضلنا وضحينا في سبيله، بقدر ما أسهمت بدرجة أساسية في تسعير حالة العداء والقمع والترويع الرسمي الممنهج والتجويع والإقصاء الوظيفي الذي طالنا من قبل سلطة المنتصرين، تحالف اليمين الديني والعشائري والعسكري (المؤتمر والخونج)، إلى حد أنني اضطررت، وعلى ضوء نتائج ذلك المناخ القمعي، إلى العمل في "الحُمالة" (كحمَّال) لتأمين قوت أطفالي من جهة، ولتغطية نفقات أنشطتي الميدانية المكرسة في أرياف الشمايتين والحجرية عموما، لإعادة بناء المنظمات الحزبية المشرذمة والمفككة على ضوء نتائج الحرب، والسعي من ناحية أخرى لتأسيس كيان حركي حقوقي خاص بفئاتنا المهمشة (حركة الأحرار السود فيما بعد)، رغم كل ما عانيناه من قمع وترويع وملاحقات.
في أيار/ مايو 2005 عقد المؤتمر العام الثالث لمنظمة الحزب الاشتراكي بمحافظة تعز، وتم انتخابي بأغلبية كبيرة جدا عضوا في لجنة الحزب بالمحافظة ومندوبا للمؤتمر العام الخامس للحزب، في تحول سرعان ما تحول بالنسبة لي إلى انتكاسة نفسية ومعنوية وكفاحية مريعة، بالنظر إلى ما أنتجته تلك الخطوة (أي انتخابي) من عداوات مسعورة نشبت ضدي فجأة في أوساط رفاق الدرب بصورة غير مفهومة أو مبررة البتة، والذين تحولوا بين عشية وضحاها من رفاق تجمعني بهم أواصر العلاقات الكفاحية والرفاقية الودية والمتسامية، رفاق تقاسمت معهم الحياة بحلوها ومرها، إلى أعداء ألداء أشد ضراوة من جلاوزة السلطة، إلى حد أنهم كانوا يحوكون ضدي الاتهامات ويعدون شهود الزور ويعقدون جلسات المساءلة الحزبية ويبتون فيها بوسائل أكثر وضاعة وانحطاطا من وسائل الإذلال المتبعة آنذاك من أجهزة نظام صالح القمعية، في ظاهرة كان أكثر ما يلفني فيها هو الصمت والذهول والصدمة وعدم التصديق، والسؤال الوحيد الذي ظل يتردد بإلحاح في مخيلتي هو: لمااااااذا؟!!
ولإيضاح الصورة لكم بشكل أكثر موضوعية، دعوني أعطكم أنموذجا واحدا فقط حول طبيعة تلك المعاملة الرفاقية الشاذة التي كرست معي، لتدركوا مدى الانحدار الذي اعترى منظومة القيم الرفاقية والأيديولوجية الكفاحية على صعيد الحياة الحزبية الداخلية؛ فعقب إعلان نتائج المؤتمر العام الثالث في المحافظة وحصولي على أغلبية صوتية كعضو قيادة محافظة وكمندوب للمؤتمر العام الخامس، وبدون أدنى مقدمات تذكر، وفيما كنت مجتمعا مع بقية الرفاق من أعضاء لجنة المحافظة المنتخبين في مقر الحزب في جلسة مقيل ودية للغاية، فوجئت بمجموعة من رجالي المهمشين (8 أعضاء في حركة الأحرار السود تحديدا) قدموا إلى المقر لتهنئتي وتهنئة الرفاق الحاضرين أيضا بنجاح المؤتمر الحزبي في تعز، وبعد تبادل التحايا مع الجميع بصورة ودية للغاية انصرفوا لأعمالهم، لأتفاجأ بعد منتصف تلك الليلة بقليل، وكنت حينها في منزلي المستأجر بمنطقة سوق الجملة، باتصال هاتفي غاضب من سكرتير أول منظمة الحزب، الدكتور/ عبدالرحمن الأزرقي، والذي كان من باب التذكير من أقرب أصدقائي ورفاقي حتى ذلك اليوم، يبلغني فيه بصدور قرار تنظيمي بمنعي من دخول مقر الحزب، وبوجوب خضوعي للمساءلة الحزبية يوم الجمعة القادم، على خلفية بلاغ طارئ تقدم به الرفاق يتهمونني فيه بالتهجم عليهم ومحاولة احتلال المقر عصر ذلك اليوم بواسطة رجالي ونعتهم والحزب بألفاظ سوقية.
وكنت أنا أستمع للرفيق الأزرقي بحالة من الذهول والدهشة وعدم التصديق، مقتنعا في قرارة نفسي بأن في الموضوع لبساً من نوع ما، لعدم وجود أي نوع من الخلافات حتى البسيطة والشخصية منها بيني وبين أي من الرفاق المذكورين أصلا.
وفي الجمعة المحددة، وفي جلسة استماع ومناقشة تلك المزاعم التي كنت حاضرا فيها لدحضها، أدركت حينها عمق المأزق الأخلاقي الذي نعاني منه كحزبيين؛ فالطبخة كانت جاهزة ومعززة بشهود الزور وبموقف تعصبي مشحون بالبغض والكراهية الناشبة فجأة. والأمر الأسوأ الذي أدركته آنذاك هو أن أقرب أصدقائي ورفاقي المفترضين: عبدالرحمن الأزرقي كان هو من يقف على رأس تلك المهزلة.
إن الأمر الذي لا جدال فيه هو أن الحياة والعلاقات الرفاقية والحزبية عادة ما تتخللها الخلافات والتباينات في الرؤى والأفكار وطرق النضال المتبعة، وهذه ظاهرة صحية في أي حزب ثوري، لأنها تسهم بدرجة مؤكدة في تعزيز ظاهرة الجدل السياسي والنظري المفتوح داخل الحزب وتنويعه بصورة مثلى ونافعة لتطور الأداء النضالي؛ لكن ما حدث معي من قبل الرفاق في هذا الموقف وغيره من مواقف كثيرة مشابهة سآتي على ذكر بعضها لاحقا، لم يكن له صلة بأي اختلاف أو تباين محتمل في الرؤى والأفكار، التي لم تكن حتى موجودة في الأصل، بقدر ما كان بمثابة انتفاضة عنصرية من قبل نخبة حزبية "بيضاء" شعروا ربما بأن نجاحي في تجاوز الحاجز الدوني والصعود في مراتب القيادة الحزبية أمر مرفوض، وقد يسهم في تقزيمهم، بالصورة التي أكدها لي آنذاك أحد أعضاء تلك النخبة الحزبية، عضو لجنة المحافظة، الدكتور عبدالجليل الزريقي، في حديث جانبي هامس بما معناه: "يا قيرعي، عليك أن تفهم أن العين لا ترتفع على الحاجب؛ لأن ذلك يتناقض مع قوانين الطبيعة"!

كان الأمر إجمالا، شبيها إلى حد ما بتلك المحاكمات التي كانت تستهدف في القرن الفائت وما قبله زنوج الولايات المتحدة الأمريكية من قبل قضاة ومدعين ومحلفين بيض، وهو الواقع والعقلية ذاتها التي حكمت علاقة العديد من الرفاق بي على مستوى أعلى هيئات الحزب (الأمانة العامة) والتي سأسرد لكم بعضا منها لاحقا.
في اليوم التالي على تلك المهزلة الحزبية في تعز، وكنا في منتصف يوليو 2005، غادرت مدينة تعز صوب العاصمة صنعاء، وما إن وصلت مقر الأمانة العامة للحزب، والذي كان يعج آنذاك بالحركة في سياق الترتيبات الجارية لعقد المؤتمر العام الخامس للحزب، فوجئت بكل من الرفيق علي صالح عباد مقبل والرفيق محمد علي أحمد يعاتبانني على قراري المزعوم بالاستقالة ومغادرة الحزب وعلى التهجمات ومحاولة احتلال المقر في تعز وعلى الألفاظ السوقية التي طالت الحزب وقياداته العليا من قبلي بمن فيهم الرفيق مقبل، وذلك على ضوء تقريري بكل تلك المزاعم كان قد وصلهم قبل وصولي شخصيا وبواسطة الفاكس موقع من قبل سكرتير الحزب، الرفيق الأقرب لي كما أسلفت، ومرفق معه قرار استقالة مطبوع منسوب إليّ وموقع باسمي ومُزكى من سكرتارية الحزب في المحافظة، يفيد بأنني أقدم استقالتي النهائية من عضوية الحزب وعضوية لجنة المحافظة ومن وضعي أيضا كمندوب للمؤتمر العام الخامس.
وبما أن الرفيق مقبل مثله مثل الرفاق سيف صائل ومحمد علي أحمد وقبلهم الشهيد جار الله عمر، كانوا في الحقيقة من أكثر داعمي في الحزب فإن الحيلة لم تنطل عليهم البتة، وهذا ما مكنني من الحفاظ على وضعي الحزبي بمختلف مستوياته والمشاركة في أعمال المؤتمر العام الخامس كمندوب عن محافظة تعز، مع أن هذا الدعم والإسناد لم يحد من طفرة الاستهداف العنصري التي توسعت وتنوعت أدواتها إلى حد أنني وأثناء انعقاد المؤتمر كنت المندوب الوحيد من بين ما مجموعه 2170 مندوبا، الذي لم يحصل على مستحقاته المالية اليومية بسبب العراقيل الإجرائية التي وضعتها سكرتارية منظمة تعز في هذا المنحى، الأمر الذي جردني من أي قدرة على المشاركة بفاعلية في المؤتمر، إذ إن همي اليومي كان منصبا فقط حول مع من سأتناول فطوري، ومع من غدائي، ومن سيقرضني أجرة الباص في المساء للعودة إلى مسكني، وكيف سأتدبر تكاليف المواصلات للعودة في الصباح التالي... إلخ.

وجودي في قوام عضوية اللجنة المركزية للحزب
ومع ذلك تم انتخابي في المؤتمر عضوا في لجنة الحزب المركزية بإسناد مباشر من قواعد الحزب في المحافظات الجنوبية، على سبيل المثال مندوبو الضالع منحوني نسبة أصوات بلغت 100% ولحج 90% وكذلك أبين وشبوة وحضرموت، فيما انحصرت أصوات مندوبي تعز بفئة الشباب وبما مجموعه 40% باستثناء محافظتي حجة وصعدة اللتين صوت مندوبوهما بكثافة معقولة لصالحي.
تمثلت أولى العثرات الناشئة عن وضعي الجديد كعضو منتخب في اللجنة المركزية في قيام الأمانة العامة الجديدة وتحديدا (شلة ياسين سعيد نعمان -باذيب) وبصورة غير مفهومة أو مبررة البتة بوقف كل الإعانات الحزبية (مادية وعينية) المخصصة لي من قبل الأمانة العامة السابقة (مقبل -صائل -جار الله عمر) لدعم قاعدة النشاط الحركي والحقوقي والمدني لـ"حركة الأحرار السود" وتوسيعها على أغلب محافظات الجمهورية باعتبارها من الروافد الحركية والجماهيرية الهامة والحيوية للحزب، بالإضافة إلى قيام الأمانة العامة الجديدة ذاتها بإلغاء قرار سابق أيضاً يقضي بتخصيص إحدى الغرف الخلفية الملحقة بمبنى الأمانة العامة كمقر ثابت ودائم لـ"حركة الأحرار السود"، الأمر الذي أسفر ومنذ لحظاتي الأولى كعضو لجنة مركزية عن تجريدي من أبسط شروط ومقومات الاستمرارية في العمل الحزبي والحركي والحقوقي.. وهو ما حدا بالرفيق العظيم علي صالح عباد مقبل حينما علم بالأمر إلى التوجيه بمنحي مخصصه المالي الشهري الممنوح من الحزب والذي كان لا يتعدى مبلغ الخمسة وعشرين ألف ريال آنذاك.
كذلك، كان للأمانة العامة الجديدة (شلة ياسين -باذيب) دور إلغائي آخر تمثل في منعي وعدد هائل من كتاب الرأي المسموعين والمؤثرين أمثال عبدالرحيم محسن ونبيل سبيع ونائف حسان وحتى الرفيق صلاح الدكاك وآخرين، وبصور ووسائل مبطنة وغير مباشرة، من نشر آرائنا ومواقفنا السياسية في صحيفة الحزب المركزية "الثوري" بمقتضى سياسة المهادنة مع نظام صالح التي اتبعها آنذاك أبو بكر باذيب عبر مشروعه المسمى "ترشيد الخطاب السياسي"، والتي أسفرت ليس فحسب عن تجريد الصحيفة من كل مضامينها السياسية والحركية والثورية، وإنما بإدخالها في حالة موت سريري فعلي إلى حد أن طبعتها الأسبوعية التي كانت قبل حقبة باذيب تتعدى حدود السبعين ألف نسخة، انخفضت، على ضوء سياسة الترشيد بتاع باذيب، إلى حدود التسعة آلاف نسخة يتم إرجاع أغلبها نهاية الأسبوع لعدم رواجها، إن جاز التعبير.
مع الإشارة في هذا الصدد أيضاً إلى أنني وطوال مسيرتي الكتابية في "الثوري" ورغم أنني أعيش على الكفاف الفعلي وعلى الإعانات الشخصية من قبل بعض المعارف والأصدقاء ومجرد من وظيفتي ولا أملك دخلا ثابتا من أي نوع، فقد كنت الكاتب الوحيد تقريباً من بين كل كتاب "الثوري" الذي لا يحصل على مجهود فكري أسوة بالآخرين.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ إنه وعلى ذات النسق من العداء والاستهداف العرقي والعنصري الذي طالني من قبل رفاق تعز، كان سلوك الأمانة العامة الجديدة منذ حصولي مباشرة على عضوية اللجنة المركزية يسير بالوتيرة العدائية والانتقاصية ذاتها.
ففي فبراير من العام 2006 وأثناء انعقاد الدورة الثانية للجنة المركزية قمت بإطلاع الدورة على فحوى رسالة تلقيتها آنذاك من الرفيق خالد سلمان الذي كان قد طلب اللجوء السياسي في بريطانيا، يوضح فيها أن 85% من أسباب تفضيله المنفى كانت ناجمة في الأساس عن المضايقات الموجهة إليه من الأمانة العامة، شلة ياسين -باذيب، وليس جراء القمع السياسي من نظام الرئيس صالح.

أثناء الدورة الثانية للجنة المركزية للحزب قمت بتوجيه النقد وبشكل لاذع لسياسة (نعمان -باذيب) المتعلقة بصحافة الحزب، وكذا تقدمت بثلاثة مقترحات تنظيمية على النحو التالي:
المقترح الأول، يقضي بتشكيل لجنة تحقيق مركزية للتحقيق في أسباب سقوط مرشحي الحزب في الانتخابات التشريعية الأخيرة 2003 والمدرجين ضمن اللوائح المشتركة مع تكتل المشترك، علما أن أحد مرشحي الحزب نال سبعة أصوات في كل صناديق الاقتراع على امتداد دائرته الانتخابية.
المقترح الثاني، ينص على ضرورة القيام بإعداد دراسة استراتيجية ميدانية على امتداد المشهد الوطني لمعرفة حجمنا في قلوب الناس، هل مازلنا نشكل إحدى أدوات الكفر والزندقة الدينية من منظور المجتمع، وخصوصا الأمي والعشائري؟ وهل نحن خارجون على القيم والمتعتقدات الدينية والأخلاقية.. وفق الصورة النمطية المترسخة في أذهان الغالبية المتخلفة من المجتمع جراء عقود طويلة ماضية من الدعاية والتحريض الديني والاجتماعي التي استهدفت الحزب في حقب ما قبل الوحدة وما بعدها؟
وبالتالي العمل على ضوء نتائج الدراسة (موضوع اقتراحي) بتقديم أنفسنا للناس بطريقة جديدة تتواءم وطبيعة تقاليدهم المجتمعية والدينية بما تتضمنها من فرض ضوابط سلوكية على أداء القيادات المركزية وقيادات المحافظات في ما يخص التعاطي العلني للمشروبات الكحولية وغيرها من الأمور التي تصطدم مع العادات والتقاليد المجتمعية.
فيما تضمن مقترحي الثالث، القيام أيضا بإعداد دراسة ميدانية موازية لمعرفة حجمنا الفعلي في الشارع الجماهيري والشعبي، ومعرفة أين تكمن قوانا الجماهيرية وأين يكمن تأثيرنا الانتخابي، ومن ثم إعادة رسم سياساتنا المستقبلية على ضوء النتائج المتوخاة من دراسة كتلك.
عموما، وفي أعقاب انتهاء أعمال دورة اللجنة المركزية الثانية (فبراير 2006) بات المناخ السائد ضدي من شلة باذيب علنا، وأعوانه بشكل مبطن مشحون بكل عوامل البغض والازدراء الذي ما انفك يترجم نفسه عبر سلسلة لا تنتهي من المضايقات المتنوعة وحملات التشهير والتخوين الذاتي داخل هيئات ومنظمات الحزب بصورة هدفت إلى التقليل من اعتباري والحصار المدني وتجفيف روافدي الحركية ومنعي من عقد اللقاءات والاجتماعات الخاصة بحركة الأحرار في مقر الأمانة العامة على غرار المنع الصادر ذاته من سكرتارية الحزب في تعز.
وفي سياق ذاك النمط الانهزامي من صروف المعاملة وفي خضم أزمات الاحتجاج الجماهيري التي نشبت بدءاً من العام 2006 في بعض محافظات الحزام الجنوبي، والتي كان يقودها وينظمها ناشطو الحزب وتحديدا في محافظة الضالع التي سقط فيها آنذاك عدد من الشهداء جراء القمع المفرط الذي انتهجه نظام الرئيس صالح، وكان ضمن من سقطوا شهيدان من قيادات حركة الأحرار السود في محافظة الضالع وهما: محمد محسن، مسؤول الدائرة التنظيمية للحركة وعبدالرحمن فؤاد، مسؤول الثقافة، واللذان أسقطهما باذيب من كشوف الشهداء المرفوعة من منظمة الحزب في الضالع، وحينما أبديت اعتراضي على هذا السلوك الإقصائي لرجالنا وشهدائنا المهمشين، رد علي أبو بكر عبدالرزاق باذيب حينها بما معناه "أن علي ألا أحشر نفسي بين الكبار، وعلي أن أدرك أولاً من أنا قبل أن أفكر بمخاطبة (...)!".
ملاحظة: هناك شكوى تنظيمية حول موقف باذيب وما قاله لي آنذاك موجهة مني للجنة الرقابة الحزبية، رغم أنها لم تجد طريقها للنظر الفعلي، لكن لا أعتقد أن الرفيق عبدالرحمن سعيد، سكرتير الرقابة آنذاك سينكر وجودها، خصوصاً وهو الذي نصحني آنذاك أن أي مواجهة جدية مع باذيب وشلته سيكون لها مردودها السلبي علي أنا.
إذن، وعلى ضوء ما سلف وهذا فقط أنموذج ضئيل فقط لما كان يحدث لي من استهداف وسوء معاملة يومية من الرفاق آنفي الذكر ولأسباب لا يمكن أن تنفصل عن النوازع العرقية، والتي سيتطلب سردها مجلدات عدة، لكنها كانت كافية آنذاك لدفعي إلى التفكير مليا بوضعي ووضع حركتي السوداء، وخصوصاً مع تعثر كل جهودي وأنشطتي السياسية والحقوقية، ومع تحول الحزب إلى بيئة طاردة لأبنائه ومناضليه لم يكن أمامي من حل سوى التفكير في مهادنة العدو التقليدي (نظام صالح) والذي وعلى الرغم من فظاعته وديكتاتوريته وانتفاء إرثه الإنساني على وجه العموم إلا أنه بدا لي أكثر نبلا حتى في قمعه وعدائه لنا إذا ما قورن ببربرية الرفاق وهوسهم الإلغائي التفوقي، ليتم على ضوء كل ذلك انتقالي القسري لعضوية اللجنة الدائمة الرئيسية للمؤتمر الشعبي العام عبر اتفاق مشروط آنذاك بتحقيق الآتي:
1. وقف كل الملاحقات والمضايقات والتعسفات الأمنية ضدي وضد أعضاء حركتي السوداء.
2. تعويضي عن درجتي الوظيفية المستلبة ولو بدرجة أدنى، وهذا ما حدث -درجة عمالية- لضمان دخل شهري ثابت لأطفالي على الرغم من شحته.
3. ضمان عدم هدر وضياع أرواح ودماء من سقطوا من ناشطي حركتنا السوداء إبان تلك الاحتجاجات وإدراج أسمائهم ضمن قوائم شهداء الوحدة.
4. أن أظل ملتزما بحقي في معارضة سياسة المؤتمر الشعبي العام من داخل هيئاته ومكوناته الحركية ومنابره الإعلامية والفكرية، ولعلكم لاحظتم التزامي أيضا بهذا البند تحديدا حيث لم يسجل لي منذ انتقالي لهذا التنظيم في شتاء 2008 أن أسأت للحزب الاشتراكي أو تجربته أو انتمائي له، مثلما لم يسجل لي أن كتبت طوال هذه الفترة مقالا أو منشورا سياسيا أو لقاء متلفزا أسبح فيه بحمد تنظيم صالح على غرار الكثيرين ممن فعلوا.
خلاصة القول، فإن ما أود إيضاحه للرفاق والقراء من خلال هذا العرض السردي للأحداث؛ ليس هدفه التشكيك بصوابية خط ونهج الحزب الثوري والوطني، ولا بطغيان خصائص هذا الحزب اليساري الاشتراكي العريق وارتباطه الأكثر عمومية بالطبقات العاملة والمهمشة والمسحوقة في بلادنا، كون هذه الحقائق ثابتة ولا غبار عليها من حيث المبدأ والمعتقد الثوري والأيديولوجي، بقدر ما يتعلق الأمر في البحث عن العيوب الفكرية والأيديولوجية وحتى الأخلاقية التي شابت الكثير من المفاصل الهرمية للحزب إلى الحد الذي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم من وهن وضعف واستسلام مشوهة إرثه وإنجازاته وتاريخه.

الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع  عن الأحرار السود في اليمن ـ  رئيس قطاع الحقوق والحريات  في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات