محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
«كل ما هو أسود مقدس، ولا نامت أعين الجبناء».
هناك جوانب خفية عدة لا يفهمها البعض أو الكثيرون إن جاز التعبير، عن أنماط الاستبداد المشاعي العنصري السائد والمكرس والمتوارث تاريخيا ضد فئاتنا المقصية والمهمشة 
(طبقة «أخدام» اليمن)، وخصوصا أولئك الذين يصرون إصرارا وقحا وعجيبا على أننا كطبقة مقصية ومهمشة نتمتع بكافة حقوقنا الإجتماعية والسياسية والمدنية والإنسانية.
فعلى خلاف كل المجتمعات البشرية في العالم التي سادت فيها العبودية كأحد أشكال الحياة الاجتماعية المتبعة، من أمريكا الشمالية إلى آسيا وأوروبا الشمالية والشرقية والوسطى كهنغاريا وبولونيا وروسيا والمجر... التي مورست فيها قديماً عبودية الأقنان بشكل مفرط وموحش لصالح كبار ملاك الأراضي والإقطاعيات الزراعية وطبقات النبلاء... إلخ، فإن أنماط العبودية التي سادت ولا تزال سائدة في بلادنا ضد طبقة «الأخدام» تختلف كلياً عما ساد في تلك البلدان قديما، حيث كان العبد أو القن يباع لمرة واحدة ولسيد واحد طبعا، يضمن له ولأسرته -إن وجدت- معيشتهم اليومية بصورة ثابتة لقاء عمله أو عملهم في خدمة سيدهم، وذلك خلافا لوضع «أخدام» اليمن الذين كانوا ولا يزالون يولدون مملوكين كملكية حصرية ومشاعية لكل أعضاء المجتمع الفوقي ولمجمل الطبقات السيادية في المجتمع، التي دأبت وفي سياق ثقافة الاستبداد الجماعي الموجهة على التحكم بحياة وبمعيشة ضحاياها «الأخدام» وباستقرارهم السكني والمعيشي بشك مُخزٍ ومهين وكارثي في أغلب جوانبه.
إذ إنه وفي مقابل ضمان السيد في أوروبا وأمريكا لمعيشة واستقرار عبده الواقع حصرا ضمن أملاكه الشخصية وعدم التفريط به، فإنه كان ولا يزال حتى اللحظة وفي بعض مناطق اليمن وأشدها نأياً وتخلفاً في مقدور أي شيخ وأي أسرة أو مجموعة اجتماعية نافذة ومتسيدة التنكيل بمجموعات كاملة من عبيدهم «الأخدام» وقتلهم وسحلهم وتشريدهم من قراهم ومن مواطن سكنهم، لمجرد الرغبة العنصرية في فعل ذلك، رغم عدم وقوعهم أصلا (أي الضحايا) ضمن الأملاك الخاصة لجلاديهم على غرار ما كان سائدا في أوروبا، وفي غياب أية قوانين أو شرائع وضعية أو اجتماعية أو حتى دينية تُجرِّم ذلك أو تمنعه.
إذن، وعلى ضوء هذه الفرضية، فإن المجتمعات التي سادت فيها العبودية كانت تعتبر العبد شيئاً، مجرد شيء، وترفض في الوقت ذاته الاعتراف به كعضو فاعل في قوامها الاجتماعي، رغم أن العبد الفرد والمملوك لسيد واحد -كما أسلفنا- كان ينعم في أغلب الأحوال بمستوى معيشة أرفع بكثير من مستوى معيشة العبد المشاعي كما هو حال «أخدام» اليمن المملوكين حصرا للطّبقات البرجوازيّة بأسرها والتي تستفيد من جهدهم وعملهم المجاني، فيما تنكر عليهم في الوقت ذاته آدميتهم وحقوقهم وشراكتهم المفترضة في المجتمع وحقهم الأساسي في الحياة والتطور، رغم أنهم يلعبون دورا أعلى وأساسي في النهوض بمستويات تطوّر المجتمع العنصري المقيت من حولهم، بالنظر إلى قيامهم (أي «الأخدام») بمختلف الأعمال الشاقة والدنيا والوضيعة التي يمارسونها وفق شروط وقوانين السخرة الأكثر بغضا من المجتمع اليمني ذاته، مثل تلك الأعمال المدرجة في سياق نظافة المدن والأحياء السكنية وأعمال الصرف الصحي رغم مخاطرها المتشعبة والمتعددة، بالإضافة إلى أعمال البناء وحياكة الأحذية والزراعة في الأرياف... إلخ.
وذلك دون استفادتها كقوى عاملة من أي مردود فعلي يمكنها من مواكبة تطور الحياة من حولها؛ إلا ما يحفظ بقاءها فقط واستمراريتها لخدمة المجتمع الانتهازي والاستغلالي الفض من حولها.
خذ مثلا أوضاع عمال النظافة والصرف الصحي في عموم مناطق ومحافظات الجمهورية، والذين يعملون لدى الدولة طبعا، وفي مختلف الحقب التاريخية الحديثة وبتعاقب أنظمة الحكم المختلفة، في ظروف أقل ما يمكن وصفها بـ»السخرة الرسمية المنظمة» التي تجيزها وتطبقها قوانين وتشريعات بلادنا «المحترمة»، المقرة والمتبعة، وإن بصورة مبطنة وغير واضحة للعيان.
فعمال النظافة والصرف الصحي، على امتداد المشهد الوطني، هم الفئة أو الطبقة العمالية الوحيدة في البلد وفي العالم أجمع، المحرومة كليا وعمليا وقانونيا من اكتساب حقوق التثبيت الوظيفي في قوام الخدمة المدنية، رغم المشاق والمخاطر المتشعبة الناجمة عن طبيعة المهنة التي يمارسونها.
يكتسي هذا الحرمان أيضا مجمل حقوقهم المهنية الأخرى والمفترضة، مثل الحصول على التأمين الصحي والمعيشي والسكني، رغم مخاطر مهنتهم المكرسة في الأول والأخير لرفاهية المجتمع وضمان أمنه الصحي والبيئي والاجتماعي.
وهذا مرده بطبيعة الحال إلى جملة من العوائق التشريعية التي حرص من خلالها مشرعونا في البرلمان والهيئات التشريعية الأخرى على تكريس مظاهر الحرمان العمدي لهذه الفئات العاملة في هذا القطاع المهني الواسع والمهم من مجمل حقوقها آنفة الذكر، وبشكل قانوني وتشريعي صرف - حرص من خلاله مشرعو قوانين السلطة المحلية وفي إطار قوانين إنشاء السلطة المحلية على فصل هذه المهنة عن مكوناتها الإدارية والإشرافية السابقة التي كانت تضمن لهم على الأقل حقوق التوظيف الحكومي الرسمي، كوزارة الأشغال العامة والبلدية... الخ.
لقد حصروا مهنة النظافة والصرف الصحي في إطار مكون إداري جديد أنشئ لهذا الغرض تحديدا في سياق هرمية السلطة المحلية تحت مسمى صناديق النظافة والتحسين، الملحقة إداريا بإدارات السلطة المحلية، مع حرص المشرعين آنذاك، وفي هذا الجانب تحديداً، على اعتبار هذه المهنة (مهنة نظافة المدن والصرف الصحي) من المهن الثانوية التي لا تنطبق عليها أصلا شروط وقوانين الخدمة المدنية، الأمر الذي أدى إلى شيوع مفهوم العمل بالسخرة وبأنماط حكومية منظمة وفائقة القسوة، قائمة على الحرمان العمدي والقسري لهذا القطاع المهني الواسع والمهم بيئيا من أية حقوق وظيفية مفترضة، أبرزها حقوقهم في التثبيت الوظيفي وفي التأمين الصحي والمعيشي والسكني.
هذا الأمر جعل «الأخدام» في النهاية يعيشون مقابل بيع جهدهم وعملهم اليومي للدولة، دون أية ضمانات أو حقوق تؤمّن لهم واقعا معيشيا وإنسانيا يتسم بأبسط شروط العدالة المفترضة.
في الإجمال، انظروا كيف نقوم بكنس أوساخهم، قذارتهم، وتلميع أحيائهم وشوارع مدنهم وأزقتهم الخلفية وأحذيتهم... باستثناء ضمائرهم المتسخة باتساخ تاريخنا القومي والوطني؛ وذلك دون أن نحظى بأي فرص عادلة في اكتساب أيٍّ من حقوقنا المهنية والوطنية المفترضة، في مخالفة فجة وصريحة، ليس فحسب لجوهر تشريعاتنا الوطنية وتعاليمنا الدينية التي تقر بكفالة الحقوق المدنية والوطنية والإنسانية لجميع مواطني الجمهورية دون استثناء، وإنما أيضا للقانون الدولي الإنساني المعترف به والموقع عليه من قبل جمهوريتنا الغارقة في بربريتها.
وما ينطبق على عمال وعاملات النظافة والصرف الصحي ينعكس إجمالا على كل مناحي الحياة اليومية لمجمل طبقات «الأخدام» العاملة، وخصوصا تلك المقيمة في الأرياف، والتي تشكل الأكثرية العددية من فئاتنا المنبوذة والمغلوبة على أمرها.
ففي الأرياف يُعتبر المهمشون هم القوة الرئيسية العاملة في قطاع الزراعة تحديدا؛ لكنهم يختلفون من حيث أوضاعهم وحقوقهم اختلافا جذريا وجوهريا عن تلك الأوضاع التي عاشها أقرانهم (أقنان أوروبا القديمة)، الذين كانوا يملكون في الواقع أدوات الإنتاج المختلفة الحديثة وكذا قطع الأرض التي كانوا يتمتّعون في الوقت ذاته بحقّ التّصرّف بجزء من محصولها وعائداتها لقاء عملهم فيها، وعلى شكل حصص مكنت العديد منهم من اكتساب الأموال اللازمة لشراء حرياتهم الشخصية والانعتاق من ملكية أسيادهم ملاك الأراضي، ومن التحوّل في أحيان عدة إلى مزارعين أحرّار عبر اقتنائهم لقطع الأرض الخاصة بهم، والتي مكنتهم في نهاية المطاف من اكتساب استقلاليتهم المعيشية والشخصية وحرياتهم الإنسانية.
وذلك على عكس «أخدام» اليمن الذين يعملون لصالح ملاك الأراضي فيما لا يكسبون في الواقع من جهدهم وعملهم شيئا يؤمّن لهم أي شكل من أشكال التطور الإنساني والحياة الآمنة والكريمة، فهم لا يحصلون في مقابل عملهم إلا على ما يبقيهم وعائلاتهم بالكاد أحياء للاستمرار في خدمة أسيادهم الذين يستحوذون على أغلب العوائد والمحصولات الزراعية لأنفسهم، في حين يعيشون حالة استرخاء دائمة على حساب أصحاب الجهد الحقيقيين من طبقة «الأخدام» المكلومة وسط هذا المجتمع الهجين.
الوضع ذاته ينطبق أيضا بصورة أو بأخرى على باقي أقرانهم الذين يشتغلون بالأعمال الحرة وبالشحاتة الجماعية على الأغلب، وخصوصا مهمشي المدن، الذين يقطنون في تجمعات أو كانتونات بشرية منعزلة عن السياق الاجتماعي العام والمعروفة بـ»محاوي الأخدام» الشبيهة إلى حد ما بـ»الكيبوتسات اليهودية» التي أنشأها النازيون إبان الحرب العالمية الثانية لأسباب ودوافع عنصرية بغية عزل يهود أوروبا عن مجتمعاتها البشرية تمهيدا لإبادتهم وتطهير أوروبا من سمومهم، كما كان يشير بذلك فوهررهم الهزلي (أدولف هتلر).
إجمالا فإن هذا يوحي بأن المجتمع اليمني البربري الغارق حتى النخاع بماضويته وتخلفه وتبلده الحضاري والمدني، بمختلف فئاته وطوائفه الاجتماعية والعشائرية والمذهبية والسلالية ونخبه السياسية والمدنية والفكرية، ما هو إلا منظومة عنصرية واحدة ومتكاملة مشحونة بكل صنوف الإفك والرذيلة والكراهية والازدراء اللامتناهي لكل ما هو أسود ومقدس في هذه البلاد.

أترك تعليقاً

التعليقات