محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
كثيرون، وكثيرون جدا للأسف، حتى في أوساط مثقفي اليسار، فسروا -ولا يزالون يفسرون- المقولة التشخيصية التاريخية للرفيق المؤسس كارل ماركس، التي وصف بها الدين أو الأديان عموما بوصفها «أفيون الشعوب»، بطريقة خاطئة ومشوهة ومنحرفة تتناقض كليا مع طبيعة السياق الذي قيلت فيه أصلا، وبدرجة كان ولا يزال الهدف المرجو من ورائها تخويف الأكثريّة من فقراء ومضطهدي ومقهوري شعوب العالم من شبح الفكر الاشتراكي العلمي، وتأليبهم ضد مبشريه، عبر استخدام الأدوات الدينية ذاتها التي ظلت ولا تزال تخدم أهداف ومصالح القوى الاستبدادية الظالمة والمتسلطة بطابعها الإمبريالي والعشائري والبرجوازي والرجعي البغيض.
فالرفيق المؤسس كارل ماركس قرَنَ مقولته تلك بعبارة أخرى مفادها أن «نقد الدّين مقدّمة لكلّ نقد»، والتي لم يكن يهدف من ورائها البتة إلى تحقير الأديان كفلسفات روحية ولاهوتية، بقدر ما كان يستحضر وبرؤية تشخيصية دقيقة البعد الانتهازي والكارثي الذي بلغته أغلب القوى الاستبدادية في شتى أصقاع العالم في التنكيل بالإنسانية المستضعفة عبر التوظيف والتفسير الانتهازي الخاطئ للنصوص والتعاليم الدينية وتسخيرها لتكريس الظلم الاجتماعي والاستعباد المشاعي لآدمية البشر وأعراضهم وحقوقهم وكرامتهم المستباحة ولحقهم الطبيعي في الوجود، بدءاً من أقبية ومحارق التفتيش الكنسي الذي ساد لعصور طويلة مظلمة في إسبانيا وجزء كبير من أوروبا، إلى حواصل الإرهاب الديني الممنهج الذي طال ولا يزال منطقتنا العربية والإسلامية حتى اللحظة، بدليل نص ومضمون الخطاب السياسي - الثوري الذي وجهه الرفيق القائد فلاديمير لينين إلى القوميات الإسلامية المنضوية في نطاق الاتحاد السوفييتي في أوائل مرحلة الثورة الشيوعية العام 1917، بما معناه «أيّها المسلمون في روسيا وسيبيريا وتركستان والقوقاز، يا أيّها الّذين هدم القياصرة مساجدهم وعبث الطّغاة بمعتقداتهم وعاداتهم، إنّ معتقداتكم الدينية وعاداتكم ومؤسّساتكم القوميّة والثّقافيّة أصبحت اليوم حرّة ومقدّسة، نظّموا حياتكم القوميّة بكامل الحرّيّة وبدون قيد، فهي حقّ لكم. واعلموا أنّ الثّورة العظيمة وسوفييتات النّواب والعمّال والجنود والفلّاحين تحمي حقوقكم وحقوق جميع شعوب روسيا».
وقرَنَ دعوته تلك ببرنامج عملي أطلقه آنذاك في وقت مبكر من العملية الثورية، عُرف ببرنامج «الكورنيزاتسيا»، أي التمييز الإيجابي المضاد، الذي أطلقه الرفيق لينين في مرحلة مبكرة جدا من تاريخ الثورة البلشفية، والذي تضمن بشكل رئيسي إعادة كل الرموز والآثار والكتب الإسلاميّة المقدّسة التي كانت قد نهبتها وصادرتها السلطات القيصريّة من المساجد ودور العبادة الدينية التي استعادتها في ظل الشيوعيين، بما فيها النسخ الأصلية من «القرآن الكريم»، المعروفة بـ«مصاحف عثمان»، في احتفال مهيب نظمه المجلس الإسلاميّ لشعوب القوقاز بإشراف ورعاية الثورة البلشفية في مدينة «بتروجراد» في 25 كانون الأول/ ديسمبر 1917، ما يعني بكل تأكيد أن الشيوعية كفلسفة علمية وسياسية وثورية كانت معيناً للدين، وليست مشروعا مضادا له.
ولاستيضاح البعد النقدي التحليلي للرفيق كارل ماركس في هذا المنحى ما علينا سوى استحضار بعض نماذج السلوك والنزعات الإجرامية والتدميرية التي مارسها خونج اليمن (كقوى دينية مهيمنة) ضد شعبنا وبلادنا خلال العقود الستة الفائتة من عمر العملية الثورية الوطنية، من خلال تفسيرهم وتوظيفهم الانتهازي الخاطئ لنصوص وتعاليم العقيدة الدينية، وبما يخدم أهدافهم وتطلعاتهم السياسية والحركية وأجندة أسيادهم وداعميهم من دول الجوار الإقليمي.
ففي حين كانوا هم، أي الخونج، أول المبادرين للحد من اندفاع العملية الثورية الأم، سبتمبر 1962، عبر هندستهم لانقلاب الخامس من نوفمبر 1967 ضد القيادة الشرعية للثورة بقيادة المشير عبدالله السلال، بما أفرزه ذلك الوضع الانقلابي الجديد من مناخات فوضى واحتراب وتشرذم أهلي داخلي وشلل مؤسساتي ودستوري بلغ مداه في العام 1974، حينما أنيطت بالرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي مهمات استعادة الدولة وإصلاح مسار العملية الثورية وإعادة تقويمها، وهو ما نجح فعلا بتحقيقه بشكل أكثر من المتوقع حينما أعاد للبلاد هيبتها وكرامتها المفقودة وقضى على الفساد والتفيد والمحسوبية وحقق نهضة تنموية وبنيوية واقتصادية جبارة.
كان خونج اليمن، المدفوعون من جارتنا الإقليميـــة الكبــرى (السعوديـــة)، على رأس المتربصيـــــن بالرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وبنظامه التقدمي الذي وصموه بالكفر وفق خطابهم الديني، حينما احتشدوا آنذاك لعقد ما عرف آنذاك بـ«مؤتمر قبائل اليمن» في مدينة نجران في كانون الثاني/ يناير 1977، معلنين على ضوء مقرراته ما وُصف بـ«الجهاد» الديني المقدس لإسقاط نظام الحمدي «الكافر» من منظورهم الانتهازي، بعد أن أعدوا العدة لاحتلال صعدة والمناطق المحيطة بها بواسطة ما يربو على العشرة آلاف مقاتل مرتزق كانوا قد حشدوهم لهذا الغرض من أبناء القبائل التابعة لهم. وحينما فشل مشروع إسقاط نظام الحمدي عبر الغزو تحولوا إلى التآمر الخياني المباشر لتصفيته عبر الحلقة الداخلية المحيطة به، وهو ما نجحوا بتحقيقه فعلا في الحادي عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام ذاته (1977).
بيد أن خطاب التكفير والإقصاء الديني ذاته ظل هو المهيمن على مسار الحياة والعلاقات الوطنية في ظل رسوخ هيمنة الخونج على مفاصل القرار الوطنية الشطري طوال حقبة ما بعد الحمدي، وبالذات ضد قوى وفصائل العمل الوطني ذات التوجه الثوري اليساري، وتحديدا الجبهة الوطنية الديمقراطية والحزب الاشتراكي اليمني.
وحينما تحققت الوحدة في أيار/ مايو 1990 كان الخونج وبخطابهم الديني الانتهازي على رأس المتربصين بالمشروع الوحدوي، الذي وقع في نهاية المطاف ضحية فتاواهم الإجرامية التي تكللت بحرب صيف 1994 الإجرامية والإقصائية. والوضع ذاته ينطبق أيضا على ما آل إليه حال البلاد اليوم، إذ إنهم وما إن فقدوا شرعيتهم تماما مع أذنابهم في تكتل المشترك جراء إجراءاتهم اللصوصية والمافيوية في حقبة ما بعد صالح بنظر الشعب الذي وجد خياره في الالتفاف في أيلول/ سبتمبر 2014 حول حركة أنصار الله باعتبارها الخيار الوطني النظيف من شوائب الماضي والمنقذ الفعلي من هيمنة وتسلط ولصوصية الإخوان وأعوانهم، كان خونج اليمن وعبر استحضارهم للخطاب الديني التحريضي والتكفيري المنحرف المبادرين بتجريم وتكفير الشعب اليمني كافة، وليس حركة أنصار الله فقط، مثلما كانوا المبادرين أيضا باستدعاء العدوان الخارجي عبر اللعب على الوتر الديني والطائفي والمذهبي، وبالشكل الذي أوصل البلاد إلى ما هي عليه اليوم من دمار وخراب بنيوي وتفكك اجتماعي وتشرذم قومي وطائفي لن يكون في الإمكان تلافي آثاره ونتائجه على المدى الزمني الطويل.
إذن، وعلى ضوء ما سلف، ما الذي يبدو نافعاً لنا كشعب يا ترى من حيث المنطق الجدلي التحليلي: إسلام المطاوعة في بلادنا بكل نزوعهم وهوسهم التضليلي والإجرامي البغيض، أم إسلام رفيقنا ومعلمنا كارل ماركس الذي يبدو أكثر طهرا وودا ونقاء إن جاز التعبير؟!

أترك تعليقاً

التعليقات