محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
لا أدري ما هو مغزى المشيئة تحديدا من خلال ترتيبها الدقيق لرحيل مجرم الحرب الأمريكي ووزير الدفاع الأسبق دونالد رامسفيلد بالتزامن مع رحيل قوات بلاده من أفغانستان بعد احتلال دام لعشرين عاما لم يسفر عنه أي إنجازات أو نتائج ملموسة، لا على صعيد ضمان أمن أمريكا ولا على مستوى حضورها الحالي والمستقبلي، بل على العكس من ذلك تماما.
وليس هذا فحسب، بل إن رحيله تزامن في الوقت ذاته مع افتقار قوات بلاده المتواجدة في العراق لسمات الأمن والظفر والسكينة التي رحلت بالتزامن مع رحيل رامسفيلد المفاجئ أيضاً بعد 18 عاما ونيف من الاحتلال البربري تحت وطأة ضربات فصائل المقاومة الوطنية العراقية.
المغزى واضح طبعا: رحيل مجرم مع أداة الجريمة، دون أن يتمكن من إكمال جريمته، أو حتى حصد ثمارها.
فالفشل كان هو الحصيلة الأساسية لأغلب السياسات والمشاريع الإخضاعية التي أرادت من خلالها "إمبراطورية اليانكي" فرض شروطها وإرادتها على مصير ومستقبل شعوب المنطقة وطرق عيشها وتطورها.
فعلى مدى عقدين كاملين وتريليونات الدولارات التي ضخها الأمريكان، بالإضافة إلى مئات الآلاف من القتلى المختلطين (أمريكيين، عراقيين، أفغان...) فإن أمريكا لم تتمكن بطبيعة الحال ليس فقط من تحقيق أي من أهدافها المعلنة في كل من العراق وأفغانستان، وإنما أيضاً من ضمان أمنها أو ضمان حتى موطئ قدم مستقبلي مستقر لها في المنطقة، عدا عن فرض إرادتها على شعوب المنطقة، بدليل أن انسحابها الحالي من أفغانستان ما هو إلا تكرار كارثي لتجربتها القديمة والمرة في فيتنام التي انسحبت منها بالطريقة المخزية والمهينة نفسها في العام 1973.
ذلك ما يتبين بوضوح ليس فحسب من خلال طريقة الانسحاب الأمريكي المستعجلة وغير المدروسة التي تتم حاليا من داخل المستنقع الأفغاني والمتزامنة بطبيعة الحال مع توالي الانتصارات العسكرية الضخمة التي تحققها "حركة طالبان" على الأرض بالنظر إلى معدلات الانهيار المتسارعة لقوات حكومة كابول الموالية لواشنطن بقوامها المقدر بحوالي 400 ألف جندي نظامي مزودين بأحدث الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية في مواجهة حوالي 75 ألف مقاتل طالباني مسلحين بأسلحة بدائية وتقليدية والذين باتوا يسيطرون اليوم فعليا على ما يقرب من 70% من أراضي أفغانستان، بحسسب آخر التحليلات والإحصائيات الصادرة في هذا الشأن، فحركة طالبان صارت بعد عقدين من مغامرة اليانكي أقوى بعشرات المرات مما كانت عليه قبل عقدين، أي في بداية غزو أمريكا وحلفائها لبلادهم، مثلما باتت تحظى باعتراف وشرعية دولية حقيقية وهي المصنفة حتى الأمس القريب باعتبارها حركة إرهابيّة.
هذا الأمر لم يكن متوافرا للحركة التي كانت تعاني من أسوأ عزلة دولية إبان حكمها لأفغانستان قبل 20 عاما، حيث كانت تحظى آنذاك باعتراف وحيد فقط على مستوى العالم أجمع، مصدره دولة باكستان المجاورة.
الأمر ذاته ينطبق بطريقة أو بأخرى على العراق أيضاً، الذي كان غزوه في العام 2003 منطلقا من رسوخ الثقة الأمريكية آنذاك بأن العراقيين سيستقبلون جنودهم "المُحرِّرين!!" بالزهور والأهازيج المرحبة.
هذا الترحيب يبرز جليا في الوقت الحاضر من خلال حدة وتنوع الهجمات الصاروخية والمسيرة التي تستهدف دون انقطاع المقار والقواعد العسكرية الأمريكية، إلى الدرجة التي أجبرت الأمريكان على الانكماش داخل أسوارهم وقلاعهم المحصنة، حيث بات من النادر حقا رؤية جندي أمريكي يتجول بحرية في شوارع بغداد أو أي من مدن العراق الأخرى، فالجرائم والأفعال المشينة التي مارسها الأمريكان بإفراط لإذلال العراقيين والتنكيل بهم طوال فترة الغزو كانت العامل الأهم الذي أسهم في توحيد أغلب الطوائف والمكونات العراقية وتخندقها على مبدأ كراهيتهم المشتركة للأمريكان، باستثناء تنظيم "القاعدة" تقريبا الذي حصر عداءه في الآونة الأخيرة بالحكومة العراقية ومواليها من الشيعة تحديدا.
الأمر المثير للاشمئزاز في هذا الصدد يكمن ربما في أن ساسة واشنطن لا يزالون عاجزين حتى اللحظة عن فهم واستيعاب أسباب هزائمهم المتلاحقة في كل مناطق الصراع المتورطين فيها، غير مدركين البتة أنه متى ما توافر الرجال وتصلبت العزائم وتنامت مشاعر الغيرة الوطنية فإن هزيمتهم ممكنة في أي وقت، حيث لا مكان لجبروتهم حين يتعلق الأمر بالكرامة الوطنية والإنسانية.

* الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات