محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
لا أدري ما هي الوسيلة أو الهيئة التي قد يطل بها أو من خلالها أمثال المحامي عبدالله نعمان وسلطان العتواني وزمرهما من الناصريين المتواجدين في عاصمة مملكة الرذيلة (الرياض) للاحتفاء بالذكرى التاسعة والأربعين لحركة الثالث عشر من يونيو التصحيحية، التي قادها الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي في العام 1974، والتي ستحل علينا هذا الأسبوع بعد أن وجدت لها متنفسا رحبا في الذاكرة الوطنية والشعبية بعد التغييب القسري والإلغائي الطويل الذي شابها.
فعلى غرار يهود أورشليم الذين يحاولون عبثا تأكيد انتمائهم التاريخي لأرض الميعاد (فلسطين) الممنوحة لهم من "الرب يهوه" بحسب معتقداتهم اللاهوتية والتوراتية، وذلك عبر النبش والتشبث قدر الإمكان بقصص وخرافات هيكل سليمان المزعوم في القدس، كذلك عمد ناصريو اليوم في بلادنا، والمتنصرون حاليا برذيلة بني سعود، وعلى امتداد تاريخهم الحركي، إلى إهدار حياتهم في العويل والنحيب على شخص الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي في محاولة لبناء أمجادهم السياسية والحركية استنادا إلى إرثه وشخصيته كزعيم وطني عظيم لا يمت لهم في الواقع بأي صلة محتملة، فهو براء منهم براءة "أرض الميعاد" من العرق اليهودي.
والملفت هنا أنه وعلى قدر نحيبهم فإن أياً من هؤلاء الناصريين المتباكين على الحمدي وإرثه الوطني لم يتجرأ يوما على المطالبة بفتح تحقيق وطني جنائي استقصائي شفاف لمعرفة ظروف ووقائع استشهاده وهوية الضالعين في اغتياله، رغم أن قتلته معروفون قطعا للشعب اليمني والعالم أجمع، هم ومن وراءهم.
فالحمدي، الذي غُيِّبت سيرته عمدا عن ذاكرة الأجيال اللاحقة تباعا منذ اغتياله المشؤوم في الحادي عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 1977 غيلة في منزل نائبه المشبع بالعمالة آنذاك المقدم أحمد الغشمي، لم يكن أمير حرب ولا سفاك دماء، بقدر ما كان رجل دولة حقيقياً وداعية سلام وزعيماً وحدوياً ورئيساً إصلاحياً شعبوياً، شهدت البلاد في عهده وخلال فترة حكمه القصيرة نسبيا، والتي لا تتعدى في مطلق الأحوال حدود الثلاث سنوات وثلاثة أشهر، طفرة تنموية وبنيوية واقتصادية جبارة، فيما السياسات والمعاملات المالية للدولة اتسمت في عهده أيضا وللمرة الأولى والأخيرة ربما في تاريخ البلاد كله بالنزاهة والشفافية، إذا ما استثنينا حقبة الحكم الشطري للحزب الاشتراكي في جنوب ما قبل الوحدة.
ذلك أن الرئيس إبراهيم الحمدي رحمه الرب أيقن منذ البداية، ورغم انحداره أصلا من حواصل أسوأ القبائل الحربية والمتعجرفة في اليمن (قبيلة حاشد) في شمال الشمال، أنه لا يمكن بناء دولة حقيقية دون التخلص أولا من أبرز حجرات العثرة التاريخية الكامنة أمام إمكانية تقدم البلاد واستقرارها، والمتمثلة بشقها الأول في معضلة الفساد المالي والإداري والأخلاقي المعشعش في عقول الأمة جراء قرون من الفوضى والتخلف والأمية وأنماط الحكم الابوي (البونابرتي) المتوارث.
وبشقها الآخر في سطوة وهيمنة تحالف زعماء اليمين الديني والعشائري ورموز القبائل تحديدا، الذين عاثوا ولا يزالون فسادا في الأرض، وهو ما نجح فعلا في تحقيقه خلال مراحل حكمه الأولى بدرجة مكنته من استعادة الكرامة الوطنية المستلبة، والحفاظ على استقلالية القرار السياسي الوطني الذي بات للقوى الجماهيرية والشعبية المكدودة والمغيبة تاريخيا (والتي حظيت في عهده بالعدالة للمرة الأولى في تاريخها) دور ملحوظ وجوهري في صياغته من خلال انخراطها الفاعل في تكوينات التنظيم السياسي الذي انشأه الحمدي من وسط القاعدة الجماهيرية المكدودة ذاتها (لجان التصحيح الشعبي) التي تشكلت في كافة أجهزة ومؤسسات الدولة وفي مختلف مدن وقرى ومحافظات الجمهورية العربية اليمنية (شمال ما قبل الوحدة) بما أفرزته من دور رقابي وتنموي جماهيري مثمر أراد الحمدي من خلاله تمتين أواصر العلاقة بين القيادة والمواطن العادي عبر إشراكه بشكل فعال في صنع القرار السياسي وفي الإشراف على سير إدارات الدولة والمساهمة في مكافحة الفساد.
والأهم من كل ذلك أن الرئيس الحمدي نجح ومنذ لحظات حكمه الأولى أيضا في تخليص البلاد من هيمنة ووصاية بني سعود على قرارها السياسي ومن ارتهانها وتبعيتها العمياء لبلاطهم، الأمر الذي حوله بين عشية وضحاها إلى عدو إقليمي لممالك ومشيخيات الخليج الفارسي إجمالا، والسعودية بصفة خاصة التي هالها آنذاك، وفي ظل ظروف المد الرجعي المتنامي، حقيقة أن الرئيس إبراهيم الحمدي لم يكن كسابقيه ممن خدموا بلاطها بولاء راسخ من مواقعهم في سدة الحكم في اليمن.
فالرجل ليس قابلا للتطويع والتدجين، لا يمكن بأي حال لاسمه أن يدرج يوما ضمن كشوفات رواتب لجنتها الخاصة والمعنية بشؤون عملائها في اليمن، كما هو حال ناصريي اليوم أمثال العتواني وعبدالله نعمان، الذين انحصر نجاحهم في المقابل في إخماد أي نفس ثوري للفكر الناصري عبر قبولهم ودون توانٍ بلعب دور المحظيات في بلاط قتلة الحمدي، الذي لو كان موجودا بيننا اليوم لكان رأى في تلك الشرذمة من ناصريي الفنادق عائقا وطنيا ينبغي إزالته.
وهذا دليل إضافي ربما على أن الرجل (أي الحمدي) لم يكن على شاكلة ناصريي اليوم الذين لا يمكن أن يرتقوا حتى إلى مستوى رقبة حذائه، حتى وإن كان الحمدي متأثرا فعلا بالنهج الناصري، وهذا أمر مشكوك في صحته إجمالا؛ كون الرجل كان فحسب وطنيا حتى أخمص قدميه، خصوصا وأن الناصرية بحد ذاتها ليست أيديولوجيا ولا حتى فكرا منهاجيا، بقدر ما هي نوع من الاقتداء الارتجالي بنهج جمال عبد الناصر.
كما أن الحمدي، الذي حظي ولا يزال حتى اللحظة وهو في قبره بشعبية غير مسبوقة في تاريخ البلاد، كان -على عكس أدعياء الناصرية هؤلاء- زعيما وطنيا محبا لبلاده نجح خلال فترة قياسية وجيزة في خلخلة قيم ومفاهيم العمالة والارتزاق والتبعية المتبعة، وقوض طرق الإدارة الأبوية القديمة والعقيمة للبلد، مفسحا بذلك المجال لنشوء شكل مدني وثوري متقدم من أشكال البناء والإدارة الوطنية الممزوجة بأسس الشراكة الجماهيرية والشعبية الشفافة والفعالة بما أفرزته من تغييرات مهمة وجذرية اختلت على وقعها حسابات وموازين العديد من القوى المحلية والإقليمية والدولية التي وسعت نطاق استقطابها التآمري آنذاك لمراكز وقوى الرجعية القبلية والمحلية في الداخل، وخصوصا مع تنامي مشروعه الوحدوي السائر على قدم وساق بالتوازي مع مشروعه المدني الإصلاحي في الداخل، والذي عجل في الواقع وتيرة استهدافه المحمومة والهادفة ليس فحسب إلى إزاحته من المشهدين السياسي والوطني وإنما من الحياة برمتها، في مشهد تآمري تصدرته آنذاك كل من الرياض والمخابرات الأميركية (سي آي إيه) بالاعتماد على قواها المخلصة من زنادقة الرجعية المحلية والقبلية في الداخل، الذين وإن تمكنوا فعليا عصر الحادي عشر من تشرين الأول/ أكتوبر المشؤوم 1977 من القضاء عليه وعلى حركته الثورية، حركة الثالث عشر من يونيو التصحيحية؛ إلا أنهم عجزوا بكل تأكيد عن محو إرثه وحضوره ومنجزاته الراسخة والمحفوظة عميقا في صميم الذاكرة الوطنية والشعبية؛ خلافا للعتواني ونعمان وأمثالهما من ثوريي الغفلة وممن نالوا حظهم من الخزي في الحياة وفي الممات.

أترك تعليقاً

التعليقات