محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
حينما وصلت إلى العاصمة السعودية (الرياض) في يونيو 2019، سألوني مضيفوي من مسؤولي اللجنة الخاصة السعودية (وهم بالمناسبة ضباط مخابرات سعوديون معنيون بترتيب واستقبال وتأمين إقامة ورفاهية القادمين من قادة سياسيين وحركيين ومنشقين ..إلخ) سألوني بشكل مباشر ومفاجئ أيضاً عما إذا كانت المشروبات الكحولية تندرج ضمن احتياجاتي الاستهلاكية الشخصية واليومية أيضا، ليتعين عليهم تأمينها!
وبالطبع، لم يكن في مقدور "مقرع مثلي" تفويت مثل تلك الفرصة لقضاء بعض الليالي الحمراء الحقيقية والماجنة في "عاصمة الإسلام" الذي يقتلوننا باسمه كل يوم، وحينما أجبتهم بالإيجاب، لم أكن أتصور حقيقة أنني سأحظى بكل تلك الأنواع الراقية والمترفة من زجاجات الفودكا والويسكي التي لم يتسن لي معاقرتها حتى في أزهى عصرنا الاشتراكي في جنوب ما قبل الوحدة، ولا حتى أيضا أثناء رحلاتي الخارجية القليلة والمحدودة قبلا.
صحيح أن تفشي واستفحال مظاهر الفوضى والانحطاط الأخلاقي في المملكة باتت تعد اليوم من المسلمات الأساسية والمألوفة جدا في مسار الحياة اليومية للمجتمع السعودي المحافظ تقليديا، كون الخمور والمشروبات الروحية والشذوذ وكل أشكال الفجور الجنسي باتت تشكل أحد أبرز معالم "الحداثة" السعودية التي تشكل في الواقع جزءا أساسيا من الثمن الذي بادر محمد بن سلمان بدفعه مقدما لأسياده الأمريكان والغرب عموما، بغية تمرير مشروعه الانقلابي على السلطة ولضمان صمتهم ومباركتهم.
لكنه في الوقت ذاته يكاد يشكل امتيازا مجانيا وحصريا لجموع المنشقين والمرتزقة، أو من يطلق عليهم مجازا ومن باب التلطيف ربما "ضيوف الملك"، وهم بطبيعة الحال أولئك الذين يتوافر لديهم الاستعداد الذاتي، ليس فحسب لطعن وطنهم ومواطنيهم في الظهر والتآمر على أمنهم واستقرارهم وسيادة ومستقبل بلدهم بالصورة السائدة حالياً، وإنما للتخلي أيضاً وقبل كل شيء عن كرامتهم وهويتهم الوطنية والاعتبارية والشخصية والإنسانية، وهو الأمر الذي لم يطل بي الوقت قبل أن أعايشه أمراً واقعاً.
صحيح أن وزني ازداد في الشهر الأول فقط من ضيافتي لدى النظام السعودي، وإقامتي الفارهة في أحد فنادق الخمسة نجوم بمدينة الرياض "فندق سويس انترناشونال"، الكائن في طريق الملك فهد) بمقدار 17 كيلوجراماً دفعة واحدة، لكنني وحينما فتشت عن ذاتي وعن هويتي وكرامتي الوطنية والشخصية، اكتشفت أنه لم يعد لها وجود على الإطلاق، لقد تبخرت تماما، وصارت عدماً. ومسألة كتلك تعد بديهية بالتأكيد، فحينما ينحني المرء أمام إغراءات وامتيازات لعبة العمالة والخيانة، فلا يحوز عندئذ أي ظفر، لا في حياته ولا في مماته أيضا، وهذا ما دفعني ربما إلى المسارعة بنفض غبار العبودية والعودة إلى مسقط رأسي في الشمايتين.
بيد أن الوضع الذي لم يكن ينطبق على شخصي أنا، بل على كل مرتادي مواخير السياسة المتواجدين للغرض ذاته في مملكة الرذيلة، وبشكل خاص ورئيسي مسؤولي وأعضاء حكومة الأفندم هادي الذين لا يتمتعون في الواقع، وقياسا بمستوى النخنخة، أي الرفاهية التي يعيشونها، وبحسب ما لمسته شخصيا خلال الثلاثة الأشهر ونيف من إقامتي التي تشاركتها في الفندق نفسه مع دستة من وزراء ومستشاري الأفندم هادي، لا يتمتعون بأي وزن أو قيمة أو حضور سياسي واعتباري جاد وحقيقي لدى بلاط محمد بن سلمان. فمسؤولي حكومة هادي لا يعدون كونهم موظفين لدى البلاط الملكي من المستوى الأدنى، فمثلا إذا طلب رئيس حكومة المرتزقة اللقاء بمسؤول من الحكومة السعودية، فإن كل ما يحصل عليه في هذه الحالة لا يتعدى مستوى موظف إداري أو ضابط ميداني في الاستخبارات السعودية، قد لا يرتقي في الواقع إلى مستوى موظفي الدرجة التاسعة أو العاشرة في جهاز الخدمة السعودي، وهي المسائل التي سأفرد لها بالتاكيد مواد أخرى في المستقبل القريب لشرحها تفصيلا.
خلاصة القول هي أن السؤال هنا لم يعد يتعلق فحسب بحجم الأموال التي ينفقها النظام السعودي يوميا، رغم عثراته الاقتصادية الحالية، لتغطية تكاليف المعيشة والرفاهية اليومية لآلاف العملاء والمرتزقة، سواء لأولئك المقيمين في أراضيه بصفة شبه دائمة، أو لبشمرجتها ومنفذي أجندتها العدوانية والاستحواذية في الداخل الوطني، كأشخاص أو مليشيات... إلخ، بقدر ما يتمحور حول المغزى الحقيقي من وراء رغبة أركان النظام الملكي السعودي في إبقائنا، كساسة وكقادة رأي وكأعضاء حكومة مفترضة، "مساطيل" على الدوام وخارج نطاق التغطية.
ربما، لكي لا نصحو يوما لرؤية أهوال الواقع الشاذ والفوضوي الذي خلقته مع ربيبتها الإمارات، كأدوات عدوان، في بلادنا تحت مسمى الدفاع عن الشرعية والعروبة، مثلما لا يريدون بالتأكيد أن نصحو على حقيقة أن مناطق ومحافظات مهمة مثل عدن وسقطرى وأرخبيلي حنيش وميون لم تعد ضمن نطاق ديمغرافيتنا وسيادتنا الوطنية والقومية، بعد أن تحولت إلى مواقع تمركز وتموضع ثابتة وطويلة المدى لـ"الشقيقتين أبوظبي و"تل أبيب" تحت يافطة "المجلس الانتقالي الجنوبي" العميل، وأن محافظات مثل مأرب وحضرموت والمهرة تحولت إلى محميات سعودية بامتياز تحت يافطة شرعية هادي المزعومة والمتباكى عليها، فيما خصصت ما تبقى من أراض ومناطق محتلة كهبات مشاعية ممنوحة لأمراء وقادة مليشيا الحرب الخونجية والتكفيرية على طريقة نبلاء وأوليغاركيي أوروبا القرون الوسطى، حيث باتت الأرض وقاطنوها مملوكين بصورة مطلقة لأمراء ومجرمي حرب على شاكلة حمود سعيد وصادق علي سرحان وطارق عفاش، الذين تفننوا في تطبيق معاييرهم المافيوية والإجرامية الممزوجة عادة بأناشيد: "يا فرح يا سلا" و"طلع البدر علينا"... لإخضاع وقتل وسحل مختلف القوى الاجتماعية والثورية الخاضعة لسلطاتهم. وحيوا الثورة حيوها، وعلي محسن قائدها!

* الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات