كيس طحين.. وقتيلين «مهمشين»
 

محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
قد يبدو العنوان باهتاً للبعض أو ملفتاً للبعض الآخر، وقد يتساءل آخرون عن نوع الحدث المشار إليه، وما إذا كان قد حدث بالفعل، وهل لمناخ الحرب والفوضى الراهنة والسائدة على امتداد المشهد الوطني صلة محتملة بترتيب تفاصيله المخجلة والمحزنة في أن معاً!
وبالتأكيد، هناك صلة محتملة ومؤكدة لكلٍّ من مناخ الحرب والتجويع المخيم على نفوس الفئات «المنبوذة» و«المهمشة» والأشد فقراً وفاقة في المجتمع اليمني، وصلة أكثر قبحاً واحتمالاً في الوقت ذاته للقيم والممارسات العنصرية التي صمدت واستمرت أمام كل أعاصير الفوضى والتفكك والتفسخ الاجتماعي والاحتراب، التي ما انفكت تنبعث عبر مختلف الحقب الوطنية الأثمة والملوثة بالدنس والرذيلة.
ففي قرية «قولعة» بمنطقة «الزعازع» في مديرية الشمايتين، أقدم أحد «مهمشيها» (علي عوض البتت - في العقد الرابع من عمره) يوم الثامن من رمضان الجاري على الترصد لابن شقيقه الشاب صالح أحمد عوض البتت (في العشرين من عمره تقريباً) منهياً حياته بعدد من الطلقات النارية أمام منزله، وعلى مرأى من زوجة المغدور، الحامل بمولوده الأول، وعلى مرأى والدته وأشقائه أيضاً، وذلك قبل أن يلوذ بالفرار هائماً في الجبال المحيطة بالمنطقة، ليتم العثور بعدها وتحديداً يوم الثالث عشر من رمضان، أي بعد خمسة أيام فقط على تلك الواقعة، على جثة القاتل ذاته مرمية وممزقة بالرصاص في أحد الكهوف النائية بمنطقة الجند في الشمايتين، والتي تبعد حوالى 30 كيلومتراً عن منطقة الزعازع، بواسطة بعض رعيان المواشي، الذين جذبتهم الرائحة المنبعثة من جثته التي كانت قد بدأت بالتحلل والتعفن الفعلي.
وبالطبع فإن التقديرات الأولية تشير إلى أن عملية القتل البشعة التي طالت القاتل، لم تكن ناجمة عن دافع ثأري محتمل من قبل أسرة ابن أخيه (ضحيته السابقة)؛ كون الثارات هي سلوك درامي اثني تاريخي مرتبط وبشكل حصري فقط بطبقات القبائل المهووسة بالدم والقتل والجريمة دون غيرهم، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن القاتل وأثناء فراره من العدالة وتجواله في كهوف وجبال المناطق المحيطة أوقعه سوء حظه في طريق قبيلي أو قبائل جوعى ومبندقين في منطقة مهجورة، قاموا من فورهم بقتله وسرقة بندقيته الآلية الثمينة (نوع كلاشنكوف)، والتخلص من جثته في أحد كهوف المنطقة.
سبب هذه المأساة كان ناجماً في الأساس عن ازدواجية التعامل المنظماتي والمجتمعي في الوقت عينه مع «مهمشينا»، وذلك على خلفية نشوب خلاف مفاجئ بين قتيل الثامن من رمضان (صالح البتت) وبين عمه مرتكب الفعل الأول (علي عوض) حول اقتسامهما كيس طحين منتهي الصلاحية أصلاً، كانا قد حصلا عليه من إحدى المنظمات الإغاثية المهيمن عليها من قبل جماعات حزب الإصلاح، والتي اعتادت الصرف بمكيالين، مكيال للقبائل بمخصصات إغاثية كاملة ومنفردة لكل عائلة، ومكيال إغاثي آخر يخص الأسر «المهمشة»، الذين يجودون عليهم بالقطارة كما يقال.
ومع تواتر الخلاف بين الشاب وعمه، وقيام الأخير بقتل ابن شقيقه والفرار من المنطقة، حيث عثر على جثته في اليوم الخامس على فراره بالصورة التي أوضحناها سلفاً، وبالنظر إلى أسباب وتفاصيل المأساة بشقيها، فقد تدافعت جموع القبائل بمنطقة الزعازع، لا لتدارك أسباب الواقعة واقتراح حلول منطقية لتلافي تكرارها مستقبلاً، وإنما لإدانة «أخدام» و«مهمشي» المنطقة برمتهم، عبر الترويج لمقترح اجتماعي يقضي بضرورة المبادرة بتجريد «الأخدام» من أسلحتهم الشخصية لاتقاء خطرهم، كما يشاع.
مع أن الإمعان في التاريخ الاجتماعي يبين أن من بين كل عشرة آلاف جريمة مؤكدة يرتكبها القبائل هناك جريمة واحدة محسوبة علينا إن جاز التعبير، الأمر الذي يعني على ضوئه المبادرة بتجريد القبائل أينما وجدوا من كل مظاهر القوة والتسلح والعنجهية التي لم تورث لبلادنا ومجتمعنا وعلى امتداد تاريخها الوجودي سوى الدم والفوضى والألم والمآسي المتوالية إلى أن يرث الرب الأرض ومن عليها.

أترك تعليقاً

التعليقات