محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في البدء، بداية العدوان، ساد الاعتقاد الجازم لدى صناع القرارين السياسي والعسكري من أقطاب وجلاوزة تحالف العدوان الصهيو- سعودي- أمريكي- إماراتي، بأن السلام في اليمن لن يسود إطلاقا ما لم يتم اجتثاث "الحوثيين" كلياً من المشهدين، السياسي والسلطوي، وربما الاجتماعي أيضا، لتصبح الطريق سالكة -من منظورهم- لتحقيق سلام مفصل على حساب السيادة والهوية والكرامة والاستقلالية الوطنية؛ سلام يبدأ وينتهي عند تخوم البلاطين السعودي والإماراتي إن جاز التعبير، ولتعود اليمن -كما كانت طيلة عقود استقلالها الزائف- للدوران مجددا في مربع العمالة والارتهان والتبعية إلى ما شاء الرب.
اليوم بات الدوران في متاهة البحث اليائس عن السلام المفقود -أيا كان منشؤه- من نصيب الرياض وأزلامها في تحالف العدوان، في سياق سعيها الحثيث لحماية عمقها الاستراتيجي أولا من الهجمات والصواريخ "الحوثية"، والتركيز من جهة أخرى على التنمية الاقتصادية في الداخل السعودي، والتي انكمشت بقوة جراء النزف الهائل للخزينة السعودية بفعل عدوانها غير المبرر أصلا على بلادنا.
فـ"الحوثيون" لم يعودوا كما كانوا في السابق وفق الخطاب السعودي عبارة عن جماعة دينية انقلابية مارقة على الدين والعروبة والسلام... وهذا أمر باعث على الغبطة في الحقيقة؛ كونه يعكس مسألتين مهمتين، تكمن أولاهما في أن جميع أطراف التحالف، بمن فيها أسيادهم في اليانكي و"أورشليم"، باتوا مقرين ومعترفين بحقيقة أن "الحوثيين" يشكلون في الواقع قوة وطنية رئيسية حاكمة ومهيمنة غير قابلة للشطب أو الإزالة من أي معادلة جارية في السياق الوطني، ومن الناحية الأخرى بفشل جميع رهانات التحالف فيما يخص تعويلها المسبق على فاعلية قوى الرجعية المحلية المختلفة في الداخل (وتحديدا مجلس رشاد العليمي وانتقالي عيدروس الزبيدي ومليشيا الإخوان)، والتي لم يعد يعول عليها كثيرا من قبل صناعها في الرياض وأبوظبي الذين أهدروا خلال الثماني السنوات الفائتة آلاف المليارات من الدولارات في تأهيلها للعب دور المواجهة الوطنية الرئيسية مع الحوثيين، ولكن دون جدوى، فاللص يظل لصاً، حتى وإن اعتمر عباءة النبوة.
هذا الأمر يعني إجمالا فشل المشروع العسكري الإخضاعي للرياض وزمرتها في التحالف وأتباعها من قوى ومكونات الرجعية المحلية في الداخل، والتي باتت من الناحية العملية خارج سياق التطلعات السعودية المحمومة صوب السلام الذي تسعى إليه الرياض منفردة وبمعزل ليس فحسب عن حلفائها في التحالف والزمر العميلة في الداخل، وإنما حتى عن أسيادها الأمريكان أيضا الذين كانوا ولا يزالون حتى اللحظة هم محركي قطع الدومينو في مغامرة الاعتداء الجماعي الفاشي على شعبنا وبلادنا.
الأمر الملفت والمثير للريبة في هذا الصدد يكمن وبشكل أكيد في أن السعودية، وبعد ثماني سنوات من عدوانها البربري، وبقيادة فتاها المدلل محمد بن سلمان، تصبو لتحقيق سلام يتأسس أولا وقبل كل شيء على مصالحها القومية وعلى أولوياتها الأمنية والاقتصادية في الداخل السعودي، وهو ما يمكن استشرافه بوضوح من خلال قياس مضمون ومفردات الخطاب السياسي للرياض حيال المفاوضات الجارية، والتي تنحصر بشكل أساسي حول المسائل الثانوية المتصلة بالصراع، مثل ملفات الأسرى والاستحقاقات المعيشية لموظفي القطاعات الحكومية وإحياء الهدنة الأممية شبه الميتة سريريا منذ مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ في تجاهل تام من قبل ابن سلمان ونظامه الملكي لما يربو على نصف مليون ضحية من نساء وأطفال وشيوخ شعبنا الذين قضى أغلبهم جراء الضربات الجوية والصاروخية التي أفرطت قواته وقوات حلفائه في تنفيذها ضد الأهداف والمنشآت والتجمعات المدنية، ولحجم الخراب والدمار الذي خلفوه على صعيد كل وسائل ومقومات الحياة المدنية والإنسانية لليمنيين، عدا عن حجم الندوب الغائرة التي أنتجتها الرياض وحلفاؤها المعتدون في صميم الوحدة واللحمة والهوية الوطنية بغية شرذمة البلاد إلى دويلات حسب أهوائها الاستقوائية.
لذلك يخطئ الظن من يعتقد أن مستقبل السلام في اليمن مرهون بمستوى التقارب الحاصل بين الرياض وطهران؛ لأن الخلاف بين النظامين وإن ظل محصورا على مدى العقود الأربعة والنصف الفائتة (تاريخ قيام الثورة الإسلامية) في الجوانب العقائدية والأيديولوجية والمذهبية وصراع النفوذ والمصالح الإقليمية، إلا أنه يختلف كليا عما هو حاصل في بلادنا التي تعرضت وعلى حين غرة وبدون أي مبرر أخلاقي، ليل السادس والعشرين من آذار/ مارس 2015، لعدوان حربي دولي فاشي واسع النطاق بقيادة المملكة، ولم يخلف طيلة الأعوام الثمانية الفائتة منذ بدئه أي أثر قابل للحياة في بلادنا.
هذا الأمر يجعل من السعودية ونظامها الملكي طرفا رئيسيا في أي مسعى تفاوضي أو تسوية محتملة؛ كونهم المبادرين أولا وأخيرا بشن الحرب العدوانية ضد بلادنا، والمسؤولين بصفة رئيسية وعامة عن كل جرائم الحرب ومظاهر الفوضى والدمار الحاصلة على امتداد المشهد الوطني. وما لم تُبدِ الرياض أي مرونة فعلية فيما يخص إقرارها الذاتي بدورها ومسؤوليتها الجنائية عما حل بشعبنا وبلادنا جراء عدوانها الفاشي، فإن أي مساعٍ تبذل في هذا الصدد ومهما عظم شأنها فإنها ستظل محكومة بالفشل وانعدام المصداقية، وسيتعين على حكومة صنعاء الثورية حينها إذا ما استمرت في مسعاها التفاوضي العقيم مع من أباد شعبنا وقوض كل مقومات حياته دون الإقرار بمسؤوليته الجنائية، تبرير كل التضحيات التي قدمها وتكبدها شعبنا اليمني من أمنه واستقراره وفلذات أكباده ومقومات عيشه طيلة سني العدوان الآثم.

أترك تعليقاً

التعليقات