سيد الشهداء ثائر حتى النهاية
- محمد القيرعي الثلاثاء , 25 فـبـرايـر , 2025 الساعة 7:03:03 PM
- 0 تعليقات
محمد القيرعي / لا ميديا -
صبيحة يوم الأحد 23 شباط/ فبراير 2025، شهدت الساحة اللبنانية، ومعها الساحتان العربية والإسلامية، مهرجاناً تشييعياً منقطع النظير، لمواراة جثماني شهيدي الأمة السيد حسن نصر الله، وخلفه في قيادة حزبه الثوري ورفيق دربه وكفاحه أيضاً هاشم صفي الدين، الثرى، بعد أن منحا أمتنا الحالمة والمكلومة طوق نجاتها الآتي والممكن تحقيقه بجلاء فقط من خلال تمسكنا المنهاحي، وتمسك الأمة، بوصاياهما التحررية وبمُثُلهما الوطنية والقومية السامية والمقدسة التي اعتنقوها وبذلوا أرواحهم رخيصة في سبيل إرسائها.
موكب التشييع يحمل ولا شك العديد من المعاني والدلالات الرمزية بشقيها السياسي والثوري والقومي، لعل أبرزها تلك المنبثقة من الرمز والشعار التشييعي ذاته: "إنا على العهد". هو في الأول والأخير تأكيد مبدئي وحاسم من قبل كل المخلصين لطموحات نصر الله وصحبه، على أن قضيتنا كأمة وكشعوب ومجتمعات عربية وإسلامية تواقة للخلاص من نير الاستعمار الأجنبي ومن براثن استبداد أنظمة الحكم الداخلي العميلة والمنبطحة لن تشيع بالتأكيد مع جثماني شهيدينا، اللذين خلفا لنا إرثاً ثورياً قل نظيره، لدرجة يمكن القول معها إن مهرجان التشييع سيشكل بحد ذاته إيذاناً بانطلاق موجة جديدة ومتجددة وأكثر نبلاً وضراوة من ملاحم الكفاح التحرري المقاوم الذي يستمد ألقه وديمومته من "مزامير الاستشهاد" المشيدة بأرواح من سبقونا على الطريق الصعب من الكفاح الضاري والمعاناة والألم المرير والمستديم.
ولعل أهم ما ميز موكب التشييع، كحدث قومي عروبي إسلامي (بغض النظر عن كثافة الحضور والمشاركة الدولية الرفيعة القادمة مما يربو على ثمانين دولة من مختلف أصقاع العالم)، هو اتسامه بذلك الحضور الثوري، والثوري الملفت فقط، على مستوى الأمتين العربية والإسلامية، ما يمنحها كحدث ملهم خاصيتها الثورية الفريدة التي لا يمكن فصمها عن مسار الأحداث التي ضحى في سبيلها -ولا يزال- حسن نصر الله والآلاف من رفاقه في لبنان وفلسطين واليمن وإيران والعراق... إلخ، والذين بذلوا أرواحهم ودماءهم الزكية تباعاً بسخاء الفاتحين الحقيقيين على محراب الحرية التي لا يمكن استبدالها أو الاستعاضة عنها بصكوك أوهام السلام والتطبيع والانبطاح الجبانة.
وبما أن من الصعب حقاً القول بأن العثور على العديد من الأشخاص والقيادات في محيطنا وفي حياتنا ممن يمكن التعويل عليهم إحداث ذلك الكم الهائل من الإلهام والتأثير النفسي والروحي المشابه لما حققه وخلفه فينا الشهيد حسن نصر الله، سيكون أمراً سهلاً وهيّناً، وخصوصاً بالنسبة لنا كأمة مكلومة وملتاعة عانت الأمرّين بفقدان نصر الله ورفاقه، بالنظر إلى حجم وفداحة الخسارة الناجمة عن رحيلهم.
لكن الأمر المؤكد هو أن فاجعة فقدانهم، ورغم جسامتها، لن تجعل من إرثهم وأفكارهم وتضحياتهم الباسلة والعظيمة أسيرة حيّز تأمّلاتنا الأمنياتيّة العمياء والعقيمة والمجردة كما قد يتوقع البعض من أنياب ومخالب الكفاح المقاوم، بقدر ما ستشكل بحد ذاتها معياراً لكل توّاقٍ للتحرر والتمسك اللامتناهي بقيمهما التحررية، والاستعداد لخوض غمار الاستشهاد إذا ما حان الوقت وإذا ما تطلبت الثورة ذلك، أن يضحي بحياته دون وجل تحت الراية نفسها التي ارتقى تحتها شهداؤنا وسادة قضيتنا الأماجد الذين علمونا طيلة سني مآثرهم وكفاحهم الملحمي كيف نعيش أحراراً، وكيف نقاتل كأحرار أيضاً، وكيف نتمسك بشرف النضال الصلب والمقدس في سبيل قضية تشكل لب إيماننا ومعتقداتنا التحررية، مثلما علمونا كيف نتفادى في الوقت ذاته السقوط في فخاخ التمذهب السياسي والديني والأيديولوجي العقيم، لتجنب استنساخ التجارب السياسية المفلسة التي هيمنت على منابر ومبشري الفكر الثوري العربي والإسلامي خلال العقود الطويلة الفائتة والمظلمة من تاريخنا القومي المشؤوم.
عموماً، وبما أن مهرجان التشييع -من وجهة نظري- ليس أكثر من مجرد حدث رمزي؛ كون سيد الشهداء حسن نصر الله مشيّع أصلاً ومدفون سلفاً في قلوبنا وفي جوانحنا الثكلى، إلا أنه وحتى من خلال رمزيته كحدث سيشكل بالنسبة لكل الملتاعين من أحرار الأمة الإطار التوجيهي للطبقة الثورية الواسعة والممتدة على امتداد المشهد العربي والإسلامي، الطبقة الأكثر اقتناعاً بهدفها التحرري المستلهم من مآثر وتجارب سيد الشهداء، للقيام بدورها ووظيفتها التاريخية في كل خطوة وفي كل مرحلة من مراحل الثورة التي أرسى أسسها نصر الله بحيث يستحيل على أي قوة مهما عظم شأنها وأدها أو تقييدها.
والأهم هو أن يوم التشييع الأسمى سيضاف إلى سجلي الشخصي كتاريخ وكذكرى سنوية مزدوجة ستنال حظها من التبجيل الأسمى واللامتناهي في صميمي لثوار طبعتهم التجارب الملحمية بشقيها السلمي والعسكري المقاوم ضد الاستبداد بمختلف ألوانه وأشكاله.
أولاها: ذكرى مواراة سيد الشهداء مثواه الأخير، فيما تتمثل سابقتها في ذكرى استشهاد "سيدة البنات الألمانيات" في مثل هذا اليوم أيضا (الثالث والعشرين من فبراير) قبل ثلاثة وثمانين عاما، حينما أقدم النظام النازي الهتلري آنذاك على إعدام ثائرة الوردة البيضاء وطالبة الطب الشابة الشهيدة صوفي مجدلينا شول، وشقيقها طالب الطب أيضاً هانز شول ورفيقهما الثوري وزميلهما الجامعي في الوقت ذاته كريستوف هيرمان بروبست، وإن كانت المفارقة العجيبة هنا هي أن ثوار الوردة البيضاء هؤلاء ورفاقهم الآخرين ممن تم التنكيل بهم، دفعوا حياتهم وحرياتهم آنذاك ثمناً لتعاطفهم في جزء من مشروعهم الثوري مع قضايا اليهود "ضحايا الهولوكوست" آنذاك، وجلادي أمتنا اليوم الذين نكتوي كأمة بنارهم ليل نهار؛ لكنهم كانوا (أي شهداء الوردة البيضاء) ثواراً على كل حال ضد أعتى الأنظمة الفاشيستية التي تلتقي اليوم في مجونها الإجرامي مع فاشية سادة "أورشليم".
المصدر محمد القيرعي
زيارة جميع مقالات: محمد القيرعي