محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في الأسبوع الأول من الحرب الروسية -الأوكرانية، وفي مقالي المعنون بـ"بوتين.. والسقوط المتهور في الفخ الإمبريالي" المنشور في العدد (881) من صحيفة "لا" والصادر بتاريخ 14 مارس 2022، استعرضت فيه، ومن منظور تحليلي، عمق الورطة التي أوقع بوتين نفسه وبلاده فيها بالمستنقع الأوكراني بالنظر إلى تبعاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والإنمائية الحاصلة والمتوقعة أيضا على المدى الزمني الطويل بالنسبة للشعب والاتحاد الروسي عموماً.
ومع أن العديد من الزملاء والكتاب والقراء والمتابعين الأعزاء، وخصوصاً على صفحات التواصل الاجتماعي، لم يتفقوا حينها مع وجهة نظري الواردة في المقال، ربما بسبب امتعاضهم التقليدي من أمريكا والغرب الذين لا أكن لهم من جهتي، أي الغرب، أي احترام يذكر، كما أنني لست من المناوئين أصلاً لروسيا ولدورها وحضورها وتأثيرها الذي كان ينبغي أن يستمر بفعالية في المسرح السياسي الدولي، وهذا ما يدفعني إلى الاعتقاد بجزم أن أحداث وتطورات الحرب الراهنة في شرق أوروبا أثبتت بشكل حاسم صوابية وجهة نظر (المقرع المخدمانية)، والتي أردت من خلالها ربما إثبات الفارق الجوهري فقط، ما بين الغرور والديكتاتورية اللذين يميزان دون شك أهم سمات القيادة البوتينية لروسيا.
اليوم ومع دخول ما سماها بوتين "العملية العسكرية الخاصة" الموجهة لاجتثاث النازية ونزع سلاح أوكرانيا وضمان حياديتها بما يخدم أمن بلاده القومي، شهرها الرابع، ها هي قد تحولت من حرب كان مخططا لها أن تكون خاطفة وحاسمة وسريعة ولن تستغرق أياما -بالنظر إلى الفارق الجوهري الهائل في الموارد والقدرات التسليحية والحربية (الكمية واللوجستية) لصالح السيد بوتين على حساب خصومه الأوكران- إلى حرب استنزاف مرهقة وطويلة ومكلفة بالنسبة للروس الذين وعوضاً عن ضمان أمن بلادهم باتوا عاجزين اليوم عن تحقيق هذا المبدأ الحمائي حتى على مستوى مدنهم وقواعدهم ومنشآتهم العسكرية والمدنية المتاخمة للأراضي الأوكرانية والتي باتت عرضة يومية لقصف الصواريخ والمدفعية الأوكرانية.
فيما تقلصت الطموحات العسكرية للسيد بوتين لتنحصر في محيط شرق أوكرانيا المحاذية للقرم مثل أوديسا ومريوبول لدرجة أن مصطلح اجتثاث النازية لم يعد متداولاً البتة في خطب وتصريحات بوتين ولا حتى في أطروحات وخطط القادة العسكريين الروس، لدرجة أن خطاب السيد بوتين الأخير الذي ألقاه في الساحة الحمراء في ذكرى يوم النصر التاسع من مايو الجاري كان مكرساً في مجمله لاستعراض مساوئ النازية المندثرة منذ سبعة عقود مضت وليس على النازية الأوكرانية المفترضة التي كانت دافعا رئيسيا لحربه الحالية.
والأهم أن أمن روسيا القومي بات هو الآخر مزعزعاً وعرضة للتقويض في المدى الزمني القادم بالنظر إلى حجم المخاوف الهائلة التي خلفها "الغزو" الروسي لأوكرانيا على الصعيد الأوروبي ككل، فمن الانبعاث الهائل للعقيدة العسكرية الألمانية التي ظلت في حالة سبات على مدى العقود السبعة الفائتة قبل أن تقرر العودة للتسلح بقوة على ضوء مخاوفها الناشئة من البلطجة البوتينية، إلى كلٍ من السويد وفنلندا المحايدتين والمجاورتين لروسيا، واللتين قررتا التخلي عن 300 عام من الحياد في تاريخهما القومي لتسارعا بالتقدم بطلبات الانضمام لعضوية حلف الناتو العسكري بعد أن حفزتهما عقلية بوتين الإخضاعية.
وهو الأمر الذي من شأن حدوثه أن يسفر عن تطويق روسيا من قبل الناتو من جهة الغرب والشمال والجنوب الغربي، إذا ما احتسبنا بولندا العضو أصلاً في الناتو والاتحاد الأوروبي معاً والمجاورة لروسيا من جهة الجنوب الغربي، وإذا ما وضعنا في الاعتبار أيضاً طول الحدود الجغرافية المشتركة التي تجمع فنلندا على سبيل المثال مع الاتحاد الروسي والمقدرة بحوالي 800 كيلومتر، وإذا ما أضفنا إليها تلك الصورة السوداوية المروعة التي باتت عالقة في أذهان العالم، سواء حول افتقار بوتين ونظامه للمصداقية أو تلك المتعلقة بدور وأداء الجيش الروسي المخزي جراء جرائم الحرب والإبادة الإنسانية المرتكبة والمنسوبة إليه بالنظر إلى حجم وعدد المقابر الجماعية المكتشفة والتي تكتشف تباعاً أيضاً في كل من بوتشا وكييف ومدن أوكرانية أخرى مر خلالها أو "احتلها" الروس، فإن الصورة تبدو واضحة عن حجم النتائج الارتدادية والعكسية التي خلفتها وستخلفها بالتأكيد عملية بوتين العسكرية الخاصة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والأمنية بالنسبة للشعب والاتحاد الروسي.

أترك تعليقاً

التعليقات