محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
في لحظات العمر الخريفية التي أقضيها في سكون، قرأت كتابا رائعا لصحافي يهودي أمريكي أكثر روعة أيضا يدعى "إيال برس"، بعنوان (This is the full title of the book by Eyal Press)، ومعناه "النفوس الجميلة: قول لا، كسر الصفوف، والاستماع إلى صوت الضمير في الظلام"، يتحدث فيه الكاتب عن ضراوة الاضطهاد العرقي الذي يطال في حالات معينة فئة المثقفين الثوريين خارج سياق الحواجز والمعادلات اللونية والعرقية، وتحديدا في محيط أولئك الذين عادة ما يتشبثون بمبادئهم ومثلهم وقناعاتهم السامية، مفضلين التضحية الطوعية بمناصبهم وامتيازاتهم الشخصية والسلطوية دفاعا عن القيم الوطنية والإنسانية المثلى التي يعتنقونها، وخصوصا في تلك الحالات التي يتعارض فيها الظلم الحاصل بأشكاله المتنوعة ضد البشرية مع قناعاتهم الثورية والحضارية ومع ما يؤمنون به أصلا في سبيل رقي البشرية وخلاصها.
كما أنه يلخص الخيارات والمعضلات التي يواجهها هذا الصنف من الثوريين، أفرادا وجماعات، حتى في تلك الحالات التي تتعارض فيها مبادئهم مع طبيعة ولاءاتهم الحركية والحزبية. وإجمالا فهو يحيي أولئك الذين اختاروا بشدة المخاطرة بامتيازاتهم السلطوية والشخصية في سبيل الحفاظ على قناعاتهم الذاتية وعلى ولائهم الأكبر والأسمى للإنسانية.
ويتحدث بصورة تحليلية عن نوع المثالية الثورية التي اتصف بها صنف معين وضئيل من القادة والمناضلين الثوريين في حقب زمنية مختلفة وفي شتى أصقاع العالم، بما فيها بلادنا المكلومة بأبنائها، وإن كان لا يشير إليهم بأسمائهم وصفاتهم بالتأكيد، مع أنه ومن الناحية الفلسفية يعطينا مدخلا لخلق نوع من التطابق الموضوعي مع مآثر وتضحيات وملاحم العديد من رواد المثالية الثورية أينما وُجدوا، على غرار قادة ومنظري "العصبة السبارتاكوسية" مثلا، الذين أعدم أغلبهم من قبل الفاشية اليمينية الألمانية أوائل القرن العشرين، بدءاً بالرفيقة الأممية القائدة روزا لوكسمبرغ، التي أعدمت صبيحة الـ15 من كانون الثاني/ يناير 1919 مع رفيق دربها كارل ليبنخت، قبل أن يلحقوا بهما كلا من رفيق القائد المعلم كارل ماركس وكاتب سيرته الذاتية، الرفيق فرانز ميهرنغ، بالإضافة إلى زوج روزا السابق ورفيق دربها أيضا الرفيق نيو جو غيهرش، وآخرين، والذين كانوا قد شكلوا آنذاك عصب النضال السياسي والجماهيري الشعبـــي للحــركــــة الاشـــتراكيّة الديمقراطية الألمانية، التي نجحتْ -رغم تخلفها الأيديولوجي والتنظيمي عن باقي الحركات الثورية الماركسية الأوروبية المجربة ككومونة باريس- في البروز كقوة حركية حية ومؤثرة في النطاق البروسي - الأوروبي إجمالا، من خلال حزبها الجماهيريّ الذي بدأ شديدَ التنظيم وراسخَ العلاقة مع الطبقة العاملة المتسارعة في النمو، قبل أن تقضي عليها الفاشية اليمينية المتطرفة كما أشرنا، بدءاً بالرفيقة روزا لوكسمبرغ، التي قضت حياتها كلها تناضل من أجل عالم لا يُضحَّى فيه بالعدالة باسم الحرية، ولا يضحَّى بالحرية باسم العدالة، مرتكزة في نضالها الأيديولوجي والحركي على فكرة الإطاحة القصوى بجميع العلاقات التي يكون فيها الإنسان كائنا مهانا، مستعبدا، مخذولا، محتقرا، وهو المبدأ الذي سرّع وتيرة استهدافها الوحشي من قبل جلاوزة الاستبداد.
كما أنه الواقع الذي ينطبق بجلاء أيضا ودون مواربة -من منظوري- على مآثر الرفيق أرنستو تشي جيفارا وملاحمه الثورية في أمريكا اللاتينية، وعلى ذكرى وتضحيات الشهيدين المحفوظين برسوخ وجدارة في ذاكرة التاريخ الشعبي والوطني، الشهيد القائد المؤسس عبد الفتاح إسماعيل، والرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي، اللذين قدما روحيهما بسخاء في سبيل قضية الحرية الوطنية والإنسانية.
كما لا يستثنى أيضا من هذا التشخيص الفلسفي الرفيقان القائدان العظيمان، الشهيد جار الله عمر، والراحل عن دنيانا وليس عن قلوبنا الرفيق علي صالح عباد مقبل، الذي تخلى طوعا عن شقاقه الشطري مع الحزب، وعن امتيازاته السلطوية المنمقة بشرور ودكتاتورية الرئيس الراحل صالح التفكيكية، ليقود الحزب في أحلك ظروفه ومراحله التاريخية الناشئة في أعقاب حرب صيف 1994، معيدا إليه ألقه ونضارته وحضوره السياسي والجماهيري الشعبي الملموس والمؤثر، قبل أن يدفن مجددا (أي الحزب) على يد خلفائه من الجيوب العفاشية المعتمرة زورا عباءة الحزب (شلة ياسين سعيد نعمان - أبو بكر باذيب)، وهو الذي (أي مقبل) كان قد أفسح لهم المجال طوعا، إن جاز التعبير، في ختام أعمال المؤتمر العام الخامس للحزب أواخر تموز/ يوليو 2005، ظنا منه أنهم سيكونون عند مستوى المسؤولية الأخلاقية والوطنية والحزبية لقيادة المسار الحزبي والأيديولوجي إلى مساراته الظافرة والمثمرة.
والأمر ذاته ينطبق أيضا وبصورة أكثر وضوحا وموثوقية على الصورة الملحمية الحالية والمؤثرة المنبثقة من رحم العدوان الفاشي الصهيو- سعودي- إماراتي- أمريكي على بلادنا، والمتمثلة بنخبة ثوريي الحزب الاشتراكي المخلصة والمرابطة بثبات المؤمنين الحقيقيين في عاصمة السيادة الوطنية صنعاء، أمثال الرفاق صلاح الدين الدكاك وعلي نعمان المقطري ويحيى منصور أبو أصبع... والمئات غيرهم من قادة ومنظري الحزب السياسيين والميدانيين، الذين قدموا درسا قيما لأولئك الذين يتسولون من قيادات الصف الأول للحزب والمئات من رموزه وكوادره التاريخية المفترضة بهيئاتهم التمثيلية، كالأمانة العامة والمكتب السياسي، في فنادق الرياض وأبوظبي ومواخير القاهرة الليلية وملاهي لندن الرخيصة، مقابل بعض فتات المنفعة الذاتية على حساب الحزب والأيديولوجية والمبادئ والقيم الوطنية والثورية المسروقة التي اعتاشوا ويعتاشون منها حتى اللحظة بأكثر السبل والوسائل وضاعة وانحطاطا، وفي ظاهرة تعكس المدى الخياني الذي يبلغه أولئك الذين تكون مطامعهم الخاصة دافعاً عندهم أقوى من اهتمامهم بالثورة.
كما أنها المفارقة الفلسفية التي تبرهن بجلاء حقيقة أن الصراع الطبقي الأساسي ينطلق أساسا من مبدأ فلسفي مهم يقوم على فرضية أن اللاوعي يسبق الوعي؛ كون منطق السيرورة التاريخية الموضوعية يأتي قبل المنطق الذاتي لحامله، ما يدل على أن العديد من الأحداث والتحولات الثورية التاريخية التي شهدتها البشرية بدأت في أغلبها كفعل عفوي محموم بالرؤى والمبادئ الثورية لحامليها، دون وجود حتى قيادة حزبية منظمة، وأن أسباب الفشل والانتكاسات التي تعتري سير مجمل هذه الأحداث والتحولات عادة ما تنجم عن استفحال نمط الخيانات، وتحت تأثير مناورات الفئات الرجعية، التي دأبت وفي كل المجتمعات على توظيف الأيديولوجية ذاتها من أجل تأخير إنضاج الوعي الطبقي والاجتماعي الثوري وتقويضه بالصورة القائمة والمعاشة في بلادنا بفضل ثوريي الرذيلة من سماسرة القيم والأخلاق والمبادئ الثورية المثلى التي نادى بها وأسسها عظماؤنا.

الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع  عن الأحرار السود في اليمن ـ  رئيس قطاع الحقوق والحريات  في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات