محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
ما من شك أبداً في أن النظام السعودي بلغ حالياً مرحلة معتمة ومتعثرة ومسدودة كلياً على صعيد مشاريعه الإخضاعية في بلادنا (اليمن العصية عليه) بالصورة التي يمكن استقراؤها بوضوح من خلال الإمعان بموضوعية فاحصة في طبيعة مساعيه اليائسة والمبذولة حثيثاً في الآونة الأخيرة، والمتمثلة من ناحية أولى في محاولته المثيرة للسخرية، الأسبوع الفائت، لتقمص دور الوسيط التوافقي فيما يخص الأزمة اليمنية، من خلال إعرابه عن استعداد الرياض لاحتضان ورعاية مشاورات "يمنية ـ يمنية" تشمل كل أطراف الصراع المسلح، بمن فيهم "الحوثيون" طبعاً، الذين أبدت الرياض في سياق إعلانها ذاك استعدادها لمنحهم كافة الضمانات والتسهيلات السياسية والأمنية لاستضافتهم في حال موافقتهم.
هي خطوة عكست في الإجمال سعي ابن سلمان الحثيث واليائس للتملص من المسؤولية الجنائية لنظامه الإجرامي عن مساوئ وجرائم الحرب والقتل والدمار الذي خلفه وحلفاؤه وأعوانه في بلادنا على مدى سبعة أعوام مضت من عدوانهم البربري، وكأنّ قصف الطائرات والصواريخ والبوارج الحربية والقذائف العنقودية والمحرمة دولياً المتساقطة على مدننا وعلى رؤوس شعبنا وأطفالنا تنطلق من الحدائق الخلفية لمنازل مرتزقتهم في شبوة وعدن ومأرب، وليس من قواعد وبوارج دولتي العدوان الرئيستين (السعودية والإمارات). وهنا تكمن مشكلة الرياض الأساسية، والمتمثلة في عدم قدرة ابن سلمان خلال سبعة أعوام من المجابهة مع شعبنا -الذي استبسل في مقارعته ومقارعة حلفائه ومرتزقته- على إدراك حقيقة أن معدن مقاوميه ("الحوثيين" ومعهم القوى الوطنية في الداخل السيادي) يختلف تماماً عن معدن خدمهم المخمورين في بلاطه الملكي تحت تسمية "الشرعية".
ذلك يعني أن مثل تلك العروض وإغراءات السلام المنقوص والمشوه مرفوضة تماماً حين يتعلق الأمر بالحقوق والكرامة والسيادة الوطنية غير القابلة للمساومة، على عكس وصيفاته (هادي وزمرته) الذين قايضوا الوطن -شعبه وأمنه وكرامته وسيادته واستقلال قراره السياسي- بحفنة من دولارات النفط الملوثة وبعض الامتيازات الفندقية وسبل العيش الرغيد الذي سيكون مؤقتاً ولا شك وسينتهي بانتهاء فترة صلاحيتهم لدى البلاط السعودي.
على هذا الأساس جاء الرد "الحوثي" حاسماً ومخيباً بالتأكيد لآمال محمد بن سلمان، من حيث مدلوله السياسي والأخلاقي والوطني، والمتمثل باستحالة قبول فكرة أن تتحول مملكة قرن الشيطان من دولة معتدية إلى وسيط توافقي في حرب كانت هي الراعية والمخططة الرئيسية لفصولها والمبادرة الأولى أيضاً بشنها على شعبنا وبلادنا.
هذا الأمر حدا بالنظام السعودي إلى الاستنجاد بمجلس التعاون الخليجي، الذي أعلن بدوره تبنيه هذه المشاورات "اليمنية ـ اليمنية" المقترحة، والمنبثقة أصلاً عن المخيلة السعودية المريضة، ولأهداف عدة، أبرزها -إلى جانب محاولة إنجاح السعي السعودي السابق والمتجدد لمغادرة المستنقع اليمني بأقل التكاليف الممكنة عبر السعي لـ"يمننة الأزمة والحرب في بلادنا"- تجنيب نظام ابن سلمان ودول العدوان عموماً تبعات المسؤولية الجنائية عن فظائع وجرائم الحرب والإبادة الممنهجة التي ارتكبوها دون هوادة ضد شعبنا الفقير والمستضعف على مدى الأعوام السبعة الفائتة، وجعل المسؤولية محصورة فقط بأطراف الصراع المسلح في الداخل اليمني.
ومن ناحية أخرى، وضع "الحوثيين" أمام أحد خيارين: إما القبول بمعادلة الأمر الواقع المفروضة والمفصلة على مقاس معتمري الدشداشات والانخراط في مشاورات "يمنية ـ يمنية" تتيح المجال للدول المعتدية لمغادرة المستنقع الذي ولجته في بلادنا بشكل آمن ونظيف؛ وإما الرفض والمغامرة بتحمل تبعاته المتمثلة بسيناريوهات النبذ والتنديد والعزلة السياسية الدولية والإدانات المتوالية محلياً ودولياً وإقليمياً، وبما من شأنه تحميل المسؤولية حصراً على عاتق "الحوثيين" عما آلت وستؤول إليه أوضاع البلاد تباعاً، باعتبارهم الطرف الرافض والمتمرد وحجر العثرة الرئيسة أمام خيارات السلام المتاحة!
هنا تتكرر المشكلة ذاتها، المتغلغلة في الوعي السعودي لتعقيدات المشهد اليمني، والمتمثلة أساساً بعدم قدرته على الفهم والتشخيص الدقيق لماهية خصومه الذين اختار مجابهتهم منذ البداية عبر شن عدوانه عليهم، أي "الحوثيين"، الذين لم يكترثوا في أي وقت أو حتى يعيروا اهتماماً يذكر لسيناريوهات النبذ والإدانات الدولية التي لم تنفك تتوالى أصلاً منذ بداية العدوان لإدانة الضحايا لصالح قتلتهم، والتي لا تزال متوالية حتى اللحظة، أي الإدانات، على وقع الرد "الحوثي" الموضوعي بتأكيد إعلان مجلس التعاون الخليجي، والذي جاء على شكل صليات صاروخية ومسيرة دكت، الأسبوع الفائت، بعض مدن الجنوب السعودي، في رسالة مفادها استحالة حرف بوصلة الصراع عن وجهته الحقيقية؛ كون معادلة الحرب قائمة في الواقع ما بين تحالف عدواني خليجي ـ صهيوأمريكي بربري، وشعب فقير ومستضعف أُخذ على حين غرة، وما الأطراف اليمنية المرابطة في المواخير الليلية الخليجية إلا مجرد يافطة فقط لشرعنة هذا العدوان الدولي الفاقد لأبسط شروط الشرعية.
في النهاية، جميعنا يدرك مدى حاجة دول تحالف الرذيلة في الخليج لإنهاء مغامراتها التآمرية والاحترابية المتعددة، ليس في بلادنا فحسب، وإنما في المنطقة العربية عموماً، وبالذات تلك التي بلغت مرحلة من الإخفاق والانسداد الكلي على غرار سورية ولبنان، ولأسباب لا تتعلق بالمثالية، كما قد يتصور البعض، وإنما بغرض إعادة تنظيم صفوفهم وقواهم كـ"طابور خامس فاشي وتآمري" في المنطقة، وتوحيدها مع أسيادهم الجدد القادمين من "أورشليم"، بهدف التفرغ لمواجهة خصمهم الأيديولوجي العنيد (الجمهورية الإسلامية في إيران) بالصورة التي يمكن استقراؤها بوضوح من خلال محاولة التطبيع السياسي الخليجي الاستقطابي المحموم لنظام بشار الأسد في سورية الذي زار أبوظبي مؤخراً في خطوة تكميلية، من وجهة نظري وهذا مؤكد، للمشروع الاستقطابي المنظم ذاته الذي بدأ بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شباط/ فبراير الفائت، والذي سنستعرض آفاقه وأهدافه ودوافعه المبطنة في قادم الأيام، كتكملة لما سبق واستعرضناه من تحليل موضوعي دقيق في هذا الشأن في مقالنا المنشور في العدد (869) من صحيفة "لا" بتاريخ 26 شباط/ فبراير، والمعنون بـ"أبعاد الرسائل المتوالية من نصر الله".

أترك تعليقاً

التعليقات