مشروع إحياء الجبهة الوطنية الديمقراطية هل سينطلق من مبدأ الإقرار بعثرات الماضي؟!
- محمد القيرعي الأثنين , 27 يـنـاير , 2025 الساعة 12:39:14 AM
- 0 تعليقات
محمد القيرعي / لا ميديا -
إن الأمر الثابت والمؤكد تماماً هو أن نزوعنا الثوري البروليتاري، خلال الحقبة الشطرية تحديداً، كان نزوعاً جاداً لا غبار عليه، سواء كحزب اشتراكي يمني شكل بحد ذاته الأداة الثورية الرئيسية والمرشدة لمجمل أطراف العملية الثورية الوطنية في الشمال والجنوب أو كقوى وتيارات ثورية ذات شخصيات حركية منفصلة، على غرار تنظيم الجبهة الوطنية الديمقراطية التي شكلت الرافد والإطار الحركي والأيديولوجي والتنظيمي الأول، لمن هم على شاكلتي ممن عانوا من النبذ والقمع والتجهيل والتحقير والعزل الاجتماعي والتمييز العرقي بسبب لون بشرتهم الداكنة، بحيث صار النضال في إطار الجبهة - كمبدأ مثابة الحلم الذي راودنا كفئات متعبة وممزقة وتواقة للانعتاق، بالطريقة ذاتها التي راود بها قبلا كل بطريركية التحرر الإنساني من عهد الملهم سبارتاكوس في القرن السادس قبل الميلاد إلى أبطال العصر الاشتراكي الحالمين أمثال الرفاق كارل ماركس وإنجلز ولينين وتروتسكي وبيلخانوف وروزا لوكسمبورغ وكارل ليبخنت، وغيرهم ممن وضعوا لنا الأسس واللبنات الأولى لقضية العدالة والحرية الإنسانية بصفتها العمومية.
الآن، وبعد حقب زمنية مرت في تاريخ الجبهة والجبهويين معا، بكل مآلاتها وأبجدياتها النضالية والتحررية المشوبة بالعديد من الإنجازات والإخفاقات والانكسارات المتوالية التي حاقت بها وعلى امتداد تاريخها الكفاحي والوجودي، فإن من المهم من وجهة نظري، وبالنظر إلى جدية الجهود المبذولة حالياً لإعادة إحياء الجبهة الوطنية الديمقراطية بإطارها الحركي والتنظيمي وبإرثها وهويتها الأيديولوجية والكفاحية المنطلقة من عظمة ورسوخ ايماننا بالفكر الاشتراكي العلمي من قبل بعض الرفاق القدامى ذوي الخبرة والتجارب الكفاحية العريقة والمحمومة بعبقها التاريخي الملهم، أمثال الرفيق ناشر العبسي، أمين عام الجبهة حالياً، محاطاً بنخبة من رفاق الأمس ذوي التاريخ الكفاحي النظيف على الأقل، أمثال الرفاق عدنان محمد قحطان، وعبده محمد الآنسي، والعشرات غيرهما وإن خلت قائمتهم الحركية -بنمطها التأسيسي هذه المرة أيضا، وكعادة هذه البلاد الموبوءة أصلاً بالنزعات العنصرية والإلغائية- من الوجوه الثورية السوداء، في تناقض حاد وصارخ مع التاريخ الحركي والفلسفي العريق للجبهة الوطنية، والذي حفل ومنذ لحظات نشوئها الأولى كمكون ثوري وكفاحي أوائل سبعينيات القرن الفائت بالعشرات من القيادات السياسية والعسكرية والميدانية السوداء والمهمشة، أمثال الشهداء: محمد عبدالله العفريت، علي ناصر الوجرة، أمين فيصل، المشقدف، دبوان غالب، إسماعيل خاو، البعجري، والشهيد الحي محمد الرازقي، الذي رأس جناحها العسكري في سلفية ريمة إلى جانب رفاقه هناك: عبده مرشد والشيخ سعد الجرادي... والعشرات غيرهم ممن لا يتسع المجال هنا لذكرهم.
صحيح أن الجبهة الوطنية، كمكون ثوري ووطني فريد، عانت خلال تاريخها الكفاحي الطويل والمرير من أسوأ النكبات والمآسي التي وإن تجلت في أحد وجوهها المفجعة بفقدانها وفقداننا كجبهويين لباكورة زعمائنا الأوائل المؤسسيين أمثال الشهداء جار الله عمر، وعبد السلام الدميني، وسلطان أحمد عمر، وغيرهما ممن ستبقى أسماؤهم وذكراهم محفورة عميقاً في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال القادمة ومدونة باعتزاز وإلى الأبد في تاريخ فكرنا وتجربتنا الثورية بنمطها البروليتاري العظيم.
إلا أن فداحة هذه الفواجع لا تنفي بطبيعة الحال مسلسل النكبات الموجعة التي حاقت بالجبهة الوطنية خلال أغلب سني كفاحها الثوري، بالنظر إلى الويلات التي تجرعتها تباعاً، وخصوصاً خلال الحقبة الشطرية - جراء المؤامرات التي استهدفتها من رفاقها وخصومها على السواء، وحتى من بعض أبنائها الذين انقادوا أحياناً وفي بعض مراحلهم الكفاحية خلف النزعات الشوفينية والفردية على حساب الرؤية والمصلحة الحركية والوطنية العامة.
ففي حين أفرطت دكتاتورية صالح في شمال ما قبل الوحدة وأجهزته الاستخباراتية المختلفة في التنكيل المنظم بأعضاء وقيادات ومناضلي الجبهة عبر السحل والقمع والاغتيالات الممنهجة التي طالت المئات من رفاقنا على امتداد المشهد الوطني، فإن الرفاق لم يقصروا من جهتهم أيضاً في استكمال المشروع الاستئصالي ذاته الذي بدأه الرئيس صالح، عبر إنجاز ما عجز هو أصلاً عن إنجازه، وذلك بدءاً بأحداث يناير الدموية عام 1986، والتي أقدم فيها القائد وزمرته البدوية الفاشية على قتل وتصفية رفاقه في الكفاح من قادة الحزب والثورة، وفي خطوة كانت أولى فصولها التآمرية والدموية موجهة بوضاعة وابتذال لاستئصال مكونات الجبهة الوطنية (قادة وهيئات ومقاتلين وأفراداً) وبوحشية كانت كافية للتدليل من خلال أحداثها وذرائعها ونمطها الدموي والإجرامي على أننا وفي مرحلة ما من تاريخ عمليتنا الثورية المكلومة والمشوهة، بتنا قادرين فعلاً على التحول من خلالها (وكقوى ثورية) إلى أدوات هدم جبارة لكافة الأسس والمبادئ الثورية التي كافحنا وضحينا طويلاً في سبيل إرسائها.
ومروراً بعد ذلك بمشروع إعلان الوحدة في مايو 1990، والتي أقدم فيها الرفاق (من منظري الغلاسنوست وبروسترويكا غورباتشوف) بزعامة علي سالم البيض في الحزب الاشتراكي على تقديم الجبهة الوطنية بكافة قياداتها وقواعدها كقربان استرضاء مجاني، لشركائهم (من مشائخ وقساوسة الشمال) في بادرة تآمرية كان لها الأثر الكارثي ذاته الذي خلفته سابقتها: أحداث يناير 1986، على مسار وتماسك الجبهة وعلى حضورها الكفاحي والجماهيري والوطني على وجه العموم.
وانتهاء بإخفاقاتنا نحن كثوريين وجبهويين خلال حقبة النضال الشطرية تلك والمشوبة بالكثير من الأخطاء والانحرافات الموجعة التي أورثتنا جملة من النتائج الكارثية، التي لا تزال آثارها ورواسبها وتداعياتها ماثلة ولصيقة في حياتنا وبتاريخ جبهتنا الكفاحي والنظري حتى اللحظة.
منها على سبيل المثال لا الحصر: أعمال القتل العشوائي غير المبررة، والمرتكبة خارج سياق النهج الرسمي والتوجيهي المنظم أصلاً للجبهة الوطنية، والذي طال العديد من القوى والشخصيات الاجتماعية والاعتبارية التي كنا في أمسّ الحاجة لتضامنها الاجتماعي ومؤازرتها الطبقية، على غرار واقعة اغتيال الشيخ منصور الشائف ونجله اللذين اعتقلا وأخذا قسراً كرهينتين من قبل مجموعة قوات المظلات في الحُجَرية في نيسان/ أبريل 1978، وتم إعدامهما بوحشية وبالمجان في "نقيل الهجمة" المطل على "زريقة اليمن" أثناء انسحاب هذه القوات بمعية الرائد عبدالله عبدالعالم من مدينة التربة باتجاه الحدود الشمالية الغربية لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، والتي كان يقودها آنذاك الشهيد الملازم الرفيق نعمان العديني، ومساعده الشهيد محمد عبدالله العفريت، المصنفان بكونهما من أبرز القيادات الجبهوية الماركسية في الشمال، ومن أعمدة الحزب الديمقراطي الثوري، الذي تأسس خلال تلك الحقبة بزعامة الشهيد جار الله عمر، واللذان لم تكن تربطهما البتة بالرائد عبدالله عبدالعالم وبالناصريين عموماً أية صلات حركية وتنظيمية، سوى الشارات العسكرية فقط.
وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن ذلك الفعل الدموي الطائش بحق الشيخ منصور الشائف ونجله أفقدنا دعماً وزخماً اجتماعياً وطبقياً ومناطقياً أيضاً، ولا تزال آثاره ومساوئه ماثلة في حياتنا وتاريخنا كجبهويين حتى اللحظة، بالنظر ليس فحسب إلى ثقل أسرة الشائف على الصعيد الاجتماعي والاعتباري، وإنما أيضاً إلى البعد الحداثي والحضاري التقدمي الذي تمثله الأسرة، والذي كان ولا يزال يحكم حتى اللحظة توجهها الاجتماعي والمشيخي والإنساني، علما أنه لم يسجل على أيٍّ من رموزها البتة وعلى امتداد تاريخهم الوجودي أي فعل قمعي أو استبدادي أو إلغائي ينم عن هيمنة طبقية كعادة الأسر المشيخية الأخرى ضد المستضعفين والمهمشين، ولا حتى ضد رفاقنا من مناضلي الحزب والجبهة، بالصورة المثلى التي يمكن استشرافها بوضوح من خلال قياس مستوى النبل والثقافة والإنسانية التي تكتنزها شخصية سليل الأسرة الحالي ووريثها الاعتباري، الشيخ حمود الشائف، الذي تطغى ثقافته المدنية وفكره الواسع المتخم بشغف العلم والمعرفة والاطلاع على أي حس مشيخي يذكر.
هذا الأمر ألّب علينا بمقتل آل الشائف وبتلك الصورة الموغلة في الوحشية، إلى جانب خصومنا التقليديين، حتى أولئك المتعاطفين آنذاك مع مشروعنا الثوري، والأمر ذاته ينطبق أيضا بصورة أو بأخرى مع العديد من الأعمال المماثلة التي طالت الشيخ الهياجم من شرعب، والشيخ أحمد محمود من المسراخ، والشيخ منصور الشوافي... وغيرهم ممن قضوا جراء المجون الثوري الفردي الذي حكم سلوك بعض الرفاق والقادة الميدانيين، وباسم القضية الثورية ذاتها، وبصورة عانينا ولا نزال نعاني حتى اللحظة من آثارها ونتائجها الكارثية.
صحيح أن مشروع إعلان الوحدة اليمنية في أيار/ مايو 1990 كان قد تخطى -ومن الناحية الرسمية كما هو معلوم- كل تلك الأحداث وتداعياتها على الصعيد الاجتماعي والوطني عموماً، من منطلق أن الوحدة جبّت أو تجب ما قبلها. لكن ذلك التخطي الرسمي لا يشمل بالتأكيد جوانب المشاعر والارتدادات النفسية والشخصية الإنسانية، وخصوصاً في محيط أسر ضحايا العنف الفردي والعشوائي المرتكب آنذاك باسم الجبهة وقضيتها الثورية، الأمر الذي سيتطلب -من وجهة نظري- قراراً شجاعاً وجريئاً من قيادات الصف الأعلى في الجبهة الوطنية الديمقراطية يتضمن تقديم الاعتذار الضمني والأخلاقي لضحايا تلك الحقبة ولأسرهم المكلومة.
وأمر كهذا يعد مهماً وجوهرياً من وجهة نظري، ليس فحسب لكونه سيعكس من ناحية أولى البعد الحضاري والأخلاقي الجديد والمتجدد للجبهة الوطنية الساعية دون شك لترميم علاقاتها مع مختلف القوى الاجتماعية بغية تخطي آثار وميراث الماضي، عبر البدء من قاعدة الإيمان المشترك بقدسية الروح الإنسانية والكفاح المشترك أيضا في سبيل منعتها أمام أي تشوهات أو انحرافات مشابهة حالياً ومستقبلاً... بل إنها ستوضح من الناحية الأخرى استعدادنا البديهي للإقرار الذاتي بوجوب معالجة تلك الأخطاء الناجمة، ليس عن خلل كما قد يتوقع البعض في بنيان نظريتنا الثورية المستقاة من جوهر التعاليم الخلاقة للفكر الاشتراكي العلمي، وإنما في نواحي التطبيق المشوه من قبل البعض لنصوصها ومضامينها التكتيكية والخلاقة.
وهذا مرده بطبيعة الحال إلى شيوع أخطاء وممارسات كتلك في أغلب الحركات والتنظيمات الثورية المشابهة لجبهتنا الوطنية في العديد من بلدان العالم، التي لم تفقه معنى التأويل العلمي والفلسفي العميق للنظرية الماركسية عبر بلورتها بصورة مستقلة ومرنة كانت كفيلة في حال طبقت حرفياً بتمكيننا من الانتقال المرن والإيجابي بالفكر الفلسفي من المجرد إلى العيني أو المحدد عبر تطبيق مبادئه التوجيهية العامة بناءً على خصوصيات بلدنا، بالصورة التي لخصها الرفيق القائد فلاديمير لينين -من خلال فرضيته القائلة إنه "لا ثورة بدون نظرية ثورية"، والتي شدد من خلالها على ضرورة التعاطي المرن من قبل القوى الثورية المختلفة في شتى أصقاع العالم مع جوهر الفلسفة المادية الماركسية ومواءمتها بناءً على خصوصيات كل بلد ودرجة تطوّره ونمط اقتصاده وطبيعة تركيبته الاجتماعية والطبقية ونمط العلاقات المتبادلة بين قواه السياسية المختلفة، في سياق ما أطلق عليه الرفيق لينين آنذاك "البلورة المستقلة للنظرية الماركسية"، التي لم نفقهها في حينه.
وحتى يحين موعد الإلمام الفعلي بنصوصها المادية، ما علينا سوى السعي لردم ماضي إخفاقاتنا وتخطي رواسبه.
المصدر محمد القيرعي
زيارة جميع مقالات: محمد القيرعي