محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
أذكر أنه في عهد توني بلير، قبل حوالى عقدين زمنيين تقريباً، جرى استطلاع شعبي في المملكة المتحدة (بريطانيا) لمعرفة أشهر عشر شخصيات لذلك العام في المملكة، فجاء ترتيب رئيس الحكومة بوصفه الحاكم التنفيذي الأول في البلاد، التاسع في قائمة الاستطلاع، فيما حظي بشرف المرتبة الأولى أحد شعرائهم، حسب ما أذكر.
ولكم أن تتصورا لو أن مثل هذا الاستطلاع جرى في بلادنا؛ لكان حاكمنا الأول باشر من فوره بقتل جميع من سبقوه في القائمة ليضمن تصدره نتائج الاستطلاع، بالإضافة إلى تصفية الذي يليه أيضاً، أي العاشر في القائمة، ليضمن عدم وجود أي شكل من أشكال المنافسة لشخصه في الشعبية.
فنحن شعب اعتاد على انتهاج مبدأ التوحيد، ليس توحيد الخالق، وإنما توحيد الحاكم، الذي لا يجوز لأيٍّ كان مقاسمته المنّ والعزة أو المساس بألوهيته ورفعته، الذي يعد في الواقع خروجاً من الملة. ولهذا السبب ربما لا يحظى شعراء هذه البلاد البتة، ولا فنانوها ولا ساستها ولا ناشطوها ولا مفكروها، بأدنى قدر من الرعاية والتقدير والاهتمام الواجب والمستحق؛ على غرار الوضع البائس والمزري والمأساوي الذي يكتنف أحد أبرز أعمدة الكفاح الثوري والتحرري الوطني، الأستاذ ناشر العبسي، الجبهوي الأبرز على امتداد مراحل العملية الثورية الوطنية، والأمين العام الحالي للجبهة الوطنية الديمقراطية.
إنه الرفيق التاريخي لطابور قادتنا الثوريين العظام، أمثال الشهداء المؤسسين للعمل الجبهوي جار الله عمر، وعبد السلام الدميني، وسلطان أحمد عمر... والعشرات غيرهم ممن تعلمنا على أيديهم كيف نفرق بين مئزر الحرية وبين عباءة أوهام العمالة والارتزاق الرخيصة والمبتذلة.
كما أنه خلفهم اليوم -كأمين عام- في مهمة الحفاظ على إرث وميراث تنظيمنا الثوري المبجل: الجبهة الوطنية، بكل ما اختزلته من إنجازات وإخفاقات في باكورة النضال الوطني على امتداد تاريخها الكفاحي.
ولهذا السبب ربما قدر للأستاذ المناضل ناشر العبسي أن يعاني ويموت اليوم ببطء وبصمت في منزله، على غرار من سبقوه من قادة هذا البلد العظام والمنسيين والمحذوفين عمداً من ذاكرته وذاكرة أجياله المتلاحقة، مثقلاً بهموم الارتكاس القيمي والحضاري والإنساني الذي شمل مجمل أشكال الحياة الوطنية في بلادنا، والتي هيّأته على ما يبدو للارتكاس الصحي جراء إصابته المزمنة مؤخراً بجلطة دماغية أفقدته القدرة على النطق والحركة، وليخبو على إثرها صوته الذي لطالما صدح به كاتباً وسياسياً ومثقفاً ثورياً في دفاعه التاريخي والمستميت عن حقوق الناس والوطن، في زمن باتت الوطنية فيه مجرد يافطة تخفي وراءها أقنعة الزيف والعمالة والتفيد والارتزاق.
فالأستاذ ناشر العبسي ناضل خلال أغلب سني حياته بشرف حقيقي ومشهود له، لا بغرض تفيد المغانم والمكاسب الشخصية واكتساب المزارع المترامية والأرصدة البنكية المسروقة من عرق الشعب والمودعة في البنوك الخارجية، على غرار أغلب من امتطوا زوراً عجلة الكفاح الوطني، وإنما كان نضاله مُنصبّاً ومحصوراً في اكتساب حقوق المواطنة العادلة والمتكافئة له ولغيره من رعاع هذا الوطن المنكوب بعقوق وجحود أبنائه.
المواطنة ينبغي أن تبرز الآن بجلاء من خلال المبادرة الفورية من قبل صناع القرار الثوري والسياسي في بلادنا في إيلاء الرفيق ناشر العبسي الاهتمام والرعاية الصحية والإنسانية الواجبة والمستحقة له، فليس هنالك أسوأ من أن يولد المرء ويموت فيما لا تزال قيود النبذ والإجحاف والدونية الطبقية والاستبداد متدلية من أعناقه دون فكاك.
أفلا يستحق الآن هذا الرجل المكافح الصبور لفتة إنسانية حانية من قبل الوطن الذي ضحى في سبيله بالغالي والنفيس؟! وهل ينبغي للجحود والنسيان الذي بات من سمات وطنيتنا أن يطال مناضلاً بحجم الأستاذ العليل ناشر العبسي؟!
إن حضارات الأمم العظيمة تقاس دائماً بمدى ولائها ووفائها لأبنائها ورجالاتها، مهما تضاءل حجمهم أو تنامى. وما لم تبادر السلطات المعنية بإيفاء العبسي حقه في الرعاية الطبية والمعيشية والإنسانية الكافية لتخفيف عناء آلامه ووحشته، فلن يعود في مقدورنا الإيمان مجدداً بالوطن والإنسانية التي باتت حكراً على حملة البنادق. فوطن لا ينصفني لا يستحق ولائي، إن جاز التعبير.

أترك تعليقاً

التعليقات