يعيد للأمة اعتبارها المفقود
 

محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
أياً كان موقف المرء مما يحدث الآن وقبلا في فلسطين السليبة والمدماة، فإن الشيء المؤكد والذي لا يمكن إنكاره هو أن ثورة الشعب الفلسطيني الأعزل والمسلح بالحجارة وبإيمانه المطلق بعدالة قضيته، تعد واحدة من أعظم الأحداث الملهمة والمصيرية في تاريخ النضال التحرري البشري أمام ثالوث تحالف الشر المزمن والمكون من جبروت القوة والعنجهية الصهيوأميركية والتواطؤ الأممي المفضوح والتآمر الخياني العربي الخليجي الذي استهدف النيل من عدالة القضية الفلسطينية خلال أغلب مراحل الصراع وبصورة لم تعد خافية على أحد.
فلم يسبق لشعب أن عانى وقدم التضحيات تلو التضحيات وعلى مدى عقود زمنية قاتمة أكثر مما فعل الشعب الفلسطيني في الداخل المحتل مقدما البراهين الدامغة على أن سلب الشعوب وتطويعها وإخضاعها وتجريدها بالقوة من كل ممكنات عيشها وأمنها وكرامتها وهويتها الوطنية والقومية أمر يستحيل تحقيقه مهما بلغ جبروت المعتدي وصلفه.
ولعل أبرز مثال يقدمه الشعب الفلسطيني المثابر يتجلى بوضوح اليوم من خلال عملية «طوفان الأقصى» التي جعلت العدو وأسياده في واشنطن وحلفاءه في المنطقة والعالم يدركون بجلاء ماهية المعدن الحقيقي للمقاوم العربي الحر الذي وعلى الرغم من انعدام أي وجه للمقارنة الفعلية ما بين ضخامة وتنوع وتقدم الترسانة العسكرية «الإسرائيلية» الحديثة بتلك التي تمتلكها فصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية على حد سواء، إلا أنها كانت كافية لقلب موازين القوى رأسا على عقب، بالنظر إلى حجم الدمار النفسي والمعنوي الهائل الذي أحدثته في نفسية العدو وحلفائه على السواء.
وذلك بالنظر في المقام الأول إلى حصيلة القتلى الصهاينة المعلنة حتى اللحظة، وهي حصيلة مهولة بالتأكيد من حيث عدد القتلى والجرحى والأسرى في صفوف «الإسرائيليين» الذين لم يسبق لهم أن تجرعوها بذلك الشكل المفجع خلال كامل حروبهم النظامية السابقة مع «جيوشنا العربية الجرارة»! منذ نشأة كيانهم الدخيل على منطقتنا، والتي تكاد تقارب -أي خسائر الكيان البشرية- من حيث حجمها الكمي والنوعي الحصيلة ذاتها المحققة قبلا من قبل أقوى جيشين نظاميين عربيين (المصري والسوري) إبان حرب أكتوبر 1973، والتي بلغت آنذاك 2656 قتيلا و7251 جريحا و301 أسيرا و17 مفقوداً، وما كان الجيشان المصري والسوري ليفلحا بتحقيقها حقا لولا استفادتهما الاستراتيجية القصوى آنذاك من عنصر التضليل والمباغتة الذي مكنهما من تحقيق تلك النتائج التي لم تكن صاعقة ومؤثرة فعلا من حيث مردودها النفسي والسياسي الكارثي ليس فحسب على تماسك ومعنويات العدو «الإسرائيلي» بالقدر الذي أحدثته عملية «طوفان الأقصى» الأخيرة.
وذلك إذا ما وضعنا بعين الاعتبار أن حصيلة أكتوبر 73 تحققت أصلاً في سياق منازلة عسكرية لأطراف دولية وبواسطة جيوش نظامية كبيرة ومنظمة ومجهزة بكامل أشكال الدعم والنفوذ والقدرة والإمكانات المادية والاستخبارية والتقنية الهائلة، عدا عن العوامل والمؤثرات الإقليمية والدولية، أيضاً المحكومة آنذاك بالتحالفات الدولية المتشابكة في ظل معادلة ثنائية القوى العظمى إبان الحرب الباردة، بالإضافة إلى أن العمالة العربية والخليجية وتبعيتهم للصهيوأمريكيين كانت مبطنة آنذاك وغير معلنة كما هو حالها الآن، وذلك مقارنة بالنتائج الأخيرة التي تحققت أصلاً على يد تنظيمات ثورية محلية محاصرة وشبه مغيبة داخل نطاقاتها الديموغرافية، بالإضافة إلى محدودية قدراتها ومواردها المادية والتقنية واللوجستية والحربية.
ولعل الأمر الأهم من وجهة نظري في هذا الشأن يكمن في أن آثار ونتائج الصدمة المريعة التي أحدثتها عملية «طوفان الأقصى» عبر اجتياح العدو في عقر داره «إسرائيل»، لم تتوقف فحسب عند حدود «تل أبيب»، بقدر ما زلزلت في الوقت ذاته كل مشاريع الاجتثاث المعدة بعناية لتصفية القضية الفلسطينية كليا عبر التكتلات والمشاريع التطبيعية المحمومة والناشئة ما بين الكيان وأنصاف العرب في المنطقة والخليج بصفة خاصة، والساعين أساسا وبشكل لم يعد خافيا على أحد ومن خلال الاندفاع التطبيعي المحموم إلى استهداف المقاومة في قطاع غزة وفي لبنان واليمن وغيرها من محاور الرفض والمقاومة كمقدمة لإنجاز مخطط تصفية القضية الفلسطينية بشكل كلي ونهائي.
ولهذا السبب ربما كان لحزب الله هبته المعهودة في نجدة أشقائه في الأراضي المحتلة، من خلال مبادرته صباح الأحد الفائت بدك العدو بعشرات الصواريخ والقذائف الموجهة التي طالت عددا من مواقعه العسكرية في منطقة مزارع شبعا وموقعي ‏الرادار وزبدين وموقع رويسات، هو أمر ليس بجديد على باكورة المقاومة العربية واللبنانية التي أقضت مضاجع العدو على مدى العقود الأربعة الفائتة.
والأمر الأهم هو أن هبة حزب الله لم يكن فيها متسع حربي لمشاركة أي من عائشة أو فاطمة أو خديجة أو أي من تلك الرموز الدينية التاريخية التي اعتاد مهرجو الخليج وأعوانهم على توظيفها للنيل من عظمة هذا الحزب المقاوم.
في الأخير، يمكنني الجزم أنه لم تكن عدالة القضية الفلسطينية وحدها ولا أيضاً الإرهاب «الإسرائيلي» المدعوم بغطرسة الإمبريالية الأمريكية من أسهما في بلوغ قوى المقاومة الوطنية والثورية ذلك المدى المذهل من التطور والفاعلية في الأداء الحربي والاستخباراتي والعسكري، بقدر ما كان لوضاعة المشاريع الخيانية المتوسعة في النطاق العربي، دورها الحاسم أيضا في جعل المقاومة ومحورها المرابط هما الخيار المتبقي للشعوب العربية والإسلامية في نضالها الحالي والمستقبلي لاجتثاث كل ما من شأنه المساس بأمنها ومعتقداتها وعروبتها واستقلالها وكرامتها القومية.

أترك تعليقاً

التعليقات