محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
حرب أمريكا وحلف الناتو الطويلة في أفغانستان انتهت قبل أسبوعين عند النقطة التي بدأت منها تماما قبل 20 عاما، فالحرب التي شنت بضراوة للقضاء على حركة "طالبان" وإقصائها من حكم أفغانستان انتهت بوجود الحركة المستهدفة ذاتها على سدة الحكم وبقدرات سياسية وعسكرية ووجودية ولوجستية هائلة ومضاعفة عما كانت عليه قبل عقدين، وإن كان الفارق الوحيد في المعادلة الراهنة يكمن في بروز ما دأب الإعلام الغربي حاليا على تسميته بحالة التفاهمات، القائمة -مجازاً- بين الحركة الأصولية المتشددة والمهيمنة في أفغانستان من جهة وبين أعدائها التقليديين كما هو مفترض، أي الأمريكان والغرب من جهة أخرى، والذين باتوا يتمتعون اليوم بما يمكن تسميته نوعاً من الوفاق غير المعلن مع "طالبان".
فمن ناحية أولى هناك ما يربو على الثلاثة آلاف جندي أمريكي لا يزالون متمركزين في مطار حامد كرزاي ومحيطه، بالإضافة إلى عدة آلاف أيضاً من جنود دول حلف الناتو، وجميعهم يحظون على ما يبدو بنوع من الحماية الـ"طالبانية" غير المعلنة تحت ستار تأمين خروج الرعايا الغربيين، بالإضافة إلى أولئك الذين يشكلون "نسخة ملطفة من شلة هادي والمطاوعة في بلادنا"، أي الأفغان المتعاونين مع الغزاة خلال فترة الاحتلال الغربي ـ الأمريكي لهذا البلد المنكوب بصرخات التكبير والفتوحات المدوية.
الأمر اللافت في هذا الصدد يكمن في أن وداعة "طالبان" الملحوظة تلك مع الغرب لم تقتصر فحسب على مظاهر الزواج الكاثوليكي القائم بشكل غير معلن فيما بينها وبين خصومها التقليديين (الأمريكان والغرب الكافر)، وإنما أيضاً من خلال تساهل "طالبان" المثير للاستغراب عبر غضها الطرف الذي بلغ أحياناً حد التنسيق العلني معها فيما يتعلق بتأمين مغادرة عشرات الآلاف من الأفغان المتعاونين مع قوى الاحتلال، والذين لا يزال الآلاف منهم يجولون بحرية في شوارع كابول وبقية المدن الأفغانية، بل ويتحدثون بحرية وعلانية لوسائل الإعلام الدولية ويبرزون وثائقهم الدالة على عمالتهم الطويلة مع الأمريكان بالصورة التي طالعتها ضمن برنامج الحصاد الإخباري لقناة "الجزيرة" ليل الخميس قبل الفائت.
بالإضافة إلى ذلك أيضاً، هناك النشاط التفاوضي الـ"طالباني" المحموم، سواء ذلك الجاري من جهة أولى مع أبرز الرموز الأفغانية المرتبطة بالمشروع الإخضاعي للأمريكان على شاكلة الرئيس الأفغاني حامد كرزاي وحكمتيار وعبدالله عبدالله، ممن كانوا حتى الأمس القريب على رأس قائمة الأهداف المطلوب تصفيتها من قبل الحركة، وحتى الرئيس الفار أشرف غني الذي اعتقد أن فراره من كابول لم يكن مبررا حتى بالنظر إلى التطمينات التي أطلقتها قيادة الحركة حياله ومنذ ما قبل اجتياحهم للعاصمة الأفغانية، أو تلك المعقودة بالتوازي مع دوائر صنع القرار السياسي والأمني والاستخباراتي الأمريكي تحديدا والغربي عموما، لعل آخرها اللقاء الذي ضم قيادات رفيعة في الحركة وعلى رأسهم رئيس مكتبها السياسي، الملا عبد الغني برادار، يوم الأربعاء 24 أغسطس الفائت، مع ويليام بينز، رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) في العاصمة كابول.
هذه المواقف والتطورات متوافقة تماما من وجهة نظري مع ما باتت تروج له العديد من المطابخ السياسية والإعلامية الأمريكية والغربية من أن حركة "طالبان" قد تغيرت بالفعل وباتت أكثر مرونة واعتدالا وربما أكثر ليبرالية أيضا إن جاز التعبير.
وفي ذلك في تجاهل تام برأيي ليس فقط للتركيبة الأيديولوجية المتبلدة للحركة التكفيرية ولماضيها الدموي والإرهابي الموغل في التطرف والوحشية، وإنما أيضاً لواقعها الحالي والذي لا يزال قائما في الأصل وكما كان قبلا على امتداد تاريخها الوجودي على فكرة تكريس "الإمارة الإسلامية" كمبدأ حوكمة أساسي لشكل النظام السياسي المزمع إقامته من قبلها في أفغانستان، والمنطلق من فكرة التطبيق الصارم لمبادئ الشريعة الإسلامية بنمطها الصنمي الماضيوي القائم أساسا على قاعدة النبذ المطلق لأي شكل من أشكال الممارسة المدنية والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير ومبادئ التداول السلمي للسلطة.
إذن، وعلى ضوء هذه الوقائع يمكننا القول إن ملامح هذا الوفاق الـ"طالباني" ـ الأمريكي على وجه الخصوص يخفي وراءه الكثير من النوايا المبيتة لدى صناع السياسة الأمريكية لإعادة رسم وتشكيل سياستها العدائية المستقبلية تجاه مجمل خصومها في المنطقة، فالبديل الأيديولوجي والحركي لـ"طالبان" بات جاهزا ومهيئا للعمل -بالطبع- وفق شروط اليانكي، وهو تنظيم "داعش خراسان" والذي تزامنت نشأته ونشاطه العملي أيضاً في أفغانستان مع بدء عهد إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق سيئ الصيت دونالد ترامب قبل خمسة أعوام تقريباً، وبالتزامن أيضاً مع بدء جولات الحوار الطويلة والمضنية ما بين حركة "طالبان" وإدارة ترامب في دوحة قطر.
وهو ما دلت عليه بوضوح وقائع الهجوم الدموي الذي تنبأت به الدوائر الأمنية والاستخباراتية الغربية مسبقاً، والذي نفذه انتحاريان يوم الخميس قبل الفائت في مطار حامد كرزاي بالعاصمة كابول، والذي وصف من قبل ساسة أمريكا والغرب عموما بالعمل الإرهابي المروع، بالنظر إلى حجم القتلى والضحايا الذين خلفهم؛ منهم حوالي 13 قتيلا من قوات البحرية الأمريكية، بالإضافة إلى ما يربو على المائة قتيل من الأفغان تقريباً، والذي سرعان ما أشيرت فيه أصابع الاتهام الأمريكية والبريطانية إلى ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش- النسخة المنقحة من تنظيم القاعدة)، وليس لـ"طالبان"، وكأنه يراد من خلال هذه الصورة فصل حركة "طالبان" عن توأمها الحركي والأيديولوجي والروحي؛ تنظيم "القاعدة"، كنوع من الرتوش الجمالية التي تهيئ "طالبان" -إن جاز التعبير- لشراكة قادمة مستقبلية واسعة النطاق مع إمبراطورية اليانكي (أمريكا)، على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاستخباراتية والأمنية، وحتى الجهادية أيضا، بالنظر إلى احتياج أمريكا الشديد وطويل المدى إلى ذراع تكفيري طويل وحقيقي على شاكلة "طالبان" يكون قادرا على مد مخالبه إلى ما هو أبعد بكثير من ديمغرافية أفغانستان، أي إلى ما وراء حدودها الغربية صوب إيران، وبما يتخطى حدودها أيضاً صوب مسلمي الإيغور في جمهورية الصين، المجاورة هي الأخرى لافغانستان، وربما أيضاً صوب التخوم الروسية من ناحية طاجيكستان.
"طالبان" أصبحت "طالبانين": مقربة، ومنبوذة، وتجمع قادة الحركتين علاقات جهادية وحتى عائلية ومصاهرة. وكلتا الحركتين مستعدة للعمل وفق الأجندة المرسومة سلفا: "عليكم بالشيوعيين والروافض في الصين وإيران، وأعداء دينكم وإخوانكم في الشيشان، وعلينا وأنبياء الدعوة في الخليج دعم جهادكم... إلخ".
ويبقى السؤال الافتراضي قائما: ألم يكن في مقدور قوات الغزو الأمريكية الجرارة وحلفائها من قوات حلف الناتو الذي يضم في عضويته 28 دولة أوروبية، وخلال الـ20 عاما الفائتة من الغزو والاحتلال، القضاء كليا على حركة "طالبان" وعلى مجمل الجيوب والمليشيات التكفيرية في أفغانستان على غرار "تنظيم الدولة في خراسان"؟!
بالتاكيد كانوا قادرين على فعل ما هو أكثر من ذلك، بالنظر إلى حجم الإمكانيات والموارد العسكرية والاقتصادية الجبارة المتاحة لهم، والتي تؤهلهم ليس فحسب لمحو "طالبان" من الخارطة السياسية والاجتماعية والعسكرية، وإنما حتى "تنصير أغلبية الإثنية الباشتونية" إذا ما أرادوا، لولا أن انتهازية اليانكي وولعه التآمري ضد الشعوب والمجتمعات هي الطاغية.

* الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات