محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
(كل ما هو أسود مقدس، ولا نامت أعين الجبناء).
في ثامن أيام عيد الأضحى، وفيما كنت أستحم في منزلي بريف منطقة العزاعز، إذا بأفراد طقم عسكري تابع لاستخبارات المرتزقة العسكرية في الشمايتين يقتحمون منزلي بغتة ويعتقلونني عارياً، ويصادرون هاتفي وبعض متعلقاتي الشخصية... ثم اقتادوني -بعد أن سمحوا لي بارتداء معوز وقميص- على متن طقمهم العسكري دون كلباش طبعا، ما أتاح لي فرصة مباغتتهم والقفز من على جانب الطقم فارّا صوب منحدر الوادي الصخري والشجري المحاذي لمنزلي، تحت وابل متقطع من نيران بنادقهم الرشاشة، والتي اخترقت إحداها ذراعي الأيمن (تحت المرفق)، ما أدى إلى سقوطي في منحدر الوادي الذي أضاف إصابات عدة وغائرة في أنحاء متفرقة من جسدي المنهك، رغم نجاحي في نهاية المطاف بالاختباء في أحد الكهوف المظلمة حتى رحيلهم.
بعد ساعات مرت وكأنها دهر وسط نزيف ذراعي، تمكنت من التسلل إلى منزل أحد معارفي في إحدى القرى المجاورة، والذي تكرم بإخفائي في إحدى الغرف الملحقة بمنزله وإخضاعي لنوع بدائي من الإسعافات الأولية في محاولة لوقف نزيف ذراعي المصاب، في انتظار وصول الطبيب الذي تمكن بدوره من انتزاع الرصاصة وشظيتين باستثناء شظية واحدة لا تزال عالقة حتى اللحظة ما بين عظم الذراع والوريد، ما أعاق انتزاعها تجنباً لحدوث تمزق محتمل في الوريد قد يؤدي إلى حدوث نزف دموي حاد يسبب الوفاة.
في الأثناء كانت جحافل الاستخبارات العسكرية في الشمايتين منهمكة بشن غاراتها الليلية ضد قرى وتجمعات المهمشين، حيث اعتقلت في الليلة ذاتها حوالى عشرة من شبابنا في قرية الطويلة التابعة لمنطقة بني شيبة، واقتادتهم إلى أقبية الاستخبارات المظلمة في منطقة العين ومدينة تعز. كما اعتقلت في اليوم التالي ثمانية آخرين من شبابنا المهمشين من منطقة شرجب وما جاورها بمدينة التربة، بتهمة التخريب و»التحوث»، لينتهي موسمهم القمعي المتزامن مع الأفراح العيدية بقيام فردين تابعين للأمن المركزي والشرطة في الأول من تموز/ يوليو الماضي، وأثناء بحثهما عن «رقبة دسمة» من بين المهمشين لتأمين تخزينتهم، بقتل الشبل المهمش ذي الأربع عشرة سنة من العمر، عدي عبدالله شمسان سعيد، الذي صادفاه أثناء مغادرته مسجد حارة دار الشرف في الطرف الغربي لمدينة التربة، عقب انتهائه من أداء صلاة الظهر، ليردياه قتيلا بعيار ناري في الرأس، وأمام أعين والدته الملتاعة أيضا.
في المحصلة، إنهم يشنون حرباً همجية ومسعورة ضد كل ما هو أسود ومقدس في هذه البلاد! فغالبية «مهمشي» مديريات الحجرية، والشمايتين خصوصا، باتوا مصنفين في نظر الخونج وأجهزتهم الأمنية والاستخباراتية كأحد مصادر «الخطر الحوثي»، في تناقض صارخ مع الطبيعة والتاريخ، اللذين لم يشيرا يوما وعلى امتداد التاريخ الوجودي للهاشميين إلى وجود أية سمات هاشمية سوداء أو داكنة البشرة على شاكلتنا، باستثناء الإمام زيد، الذي تمنطق لون بشرتنا الداكنة بصورة شاذة وغريبة فيما يمكن اعتباره نوعاً من خطأ الطبيعة الجيني إن جاز التعبير.
فنحن معشر «المهمشين» لسنا «حوثيين» بالمطلق؛ إذ إن كل ما بات يجمعنا بهم حاليا (أي «الحوثيين») هو مناوأتنا المشتركة للعدوان الخارجي ولقوى العمالة والارتزاق، بعد أن تفسخت روابطنا ومعتقداتنا الكفاحية والثورية معهم، متحولة في جانبها الأعم، وبفضل طابور «المتحوثين» الانتهازي، إلى نوع من التبعية المدروسة بعناية والممزوجة بطابعها اللاهوتي العقيم، من خلال حرص هذا الطابور المتبلد على إلحاقنا قسرا بطابور بلال بن رباح كأحفاد مفترضين له، رغم أنه لم ينجب أولادا بالمطلق، مقوضين بذلك كل تطلعاتنا الطبقية في التحول من «بروليتاريا رثة» إلى بروليتاريا ثورية حقيقية، ومجردين إيانا في الوقت ذاته من أي أمل فعلي في اكتساب حقوقنا ومكانتنا العادلة في المجتمع كثوريين حقيقيين يقفون على قدم المساواة مع غيرهم من بني هاشم وبني حاتم وبني قاسم... إلخ.
رغم التضحيات الجسيمة التي قدمناها عبثا في سياق أيلول 2014، والمصنفة حتى كـ»تضحيات وطنية» من منظور ثانوي، بالنظر إلى أن شهداءنا لا يحظون في الواقع بالتقديس الشخصي والاعتباري الذي يحظى به شهداؤهم، باستثناء الصور والملصقات الملونة والمعممة عادة لشهدائنا على جدران الأسوار والجسور في سياق «البروبغاندا الثورية المتبعة»، ولكن دون حقوق وامتيازات متساوية وعادلة، بدليل أنني أنا محمد القيرعي لا أحظى منذ سنوات بمستحقات ولدي الشهيد/ عدنان محمد القيرعي (أبو نصر الله) على قدر شحتها ومحدوديتها التي لا تساوي شيئا مقابل رمزيتها المؤكدة فقط على عمق انتمائنا العضوي لثورة أيلول 2014 وأسوة بغيري من الآباء المكلومين بفقد فلذات أكبادهم، بالنظر إلى كوني مصنفا من قبل مدير عام مؤسسة الشهداء بوصفي مرتزقا، في توصيف عنصري استعلائي يجيز لهم بكل بساطه تجريدي قسرا من هويتي ومن كل حقوق وامتيازات المواطنة التي قاتلنا وضحينا لعقود في سبيل اكتسابها.
فنحن قاتلنا هناك في حضرة أنصار الله، ونقاتل هنا اليوم في عقر دار العدو، فيما لا يزال تصنيفنا الوطني والاجتماعي والطبقي محصورا في نطاقه الأدنى، لا كثوريين أو حتى أشباه ثوريين، وإنما كفئات دنيا جاهزة ومجهزة فقط للعبودية، وكأن الرب هو من منحهم صكاً مفتوحاً لتكريس الاستبداد العنصري ضدنا، بالطريقة ذاتها التي فعلتها آلهة الهندوس فيما يخص طبقة «الداليت» منبوذي الهند الذين جهزتهم للعبودية طوعا لكسب رضا وولاء عبادها الصالحين!
في النهاية، شهيدنا الحدث (عدي عبدالله شمسان)، الذي قضى على أيدي جلاوزة أمن مرتزقة الشمايتين، تم تشييع جثمانه إلى مثواه الأخير يوم الجمعة 19 تموز/ يوليو الماضي، وسط تظاهرة طبقية وشعبية سوداء وعارمة شهدتها مدينة التربة في مقابل ضغوط سلطة الخونج على والدَي الضحية للتنازل الطوعي عن دم شهيدهما.
أما أنا فأستعد من جهتي لتشييع ذراعي الأيمن والمصاب بعيار ناري خونجي ممقوت بعد أن بدأت جروحه -الآخذة في التوسع باطراد إلى ما فوق المرفق بفعل داء السكري- في التخثر الذي يمهد لتفشي الغرغرينا تمهيدا ربما لبلوغها مرحلة البتر، بالطريقة ذاتها التي تبتر فيها حقوقنا وآدميتنا وكرامتنا الإنسانية.

أترك تعليقاً

التعليقات