محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
هل يطمح رفاقنا يا ترى من قادة "الفئة المهمشة" إلى استنساخ تجربة أقراننا الجنوب أفريقيين على سبيل المثال من خلال سعيهم الحثيث لتحقيق مشروعهم الحزبي المقترح (حزب مهمشي اليمن) على غرار حزب المؤتمر الوطني الأفريقي؟!
إذا كان الأمر كذلك، فإن ثمة بعض القادة بين صفوفنا ممن طوروا مواقفهم من مسألة الكفاح التحرري لـ"المهمشين" بصورة تفتقر للقدرة على الفهم والتشخيص الموضوعي الدقيق للمتطلبات الكفاحية الفعالة لفئاتنا المنبوذة والمهمشة بالشكل الذي قد تكون له نتائجه الكارثية على المدى الزمني الطويل.
ودعوني أوضح هنا مساءلة غاية في الأهمية، وهي أنه ورغم تشابه القيم والأدوات والنزعات الاستبدادية المكرسة ضدنا كـ"مهمشين" والتي كرست سابقا ولعقود زمنية طويلة ومظلمة ضد أقراننا الجنوب أفريقيين، إلا أن الفارق الجوهري والبالغ الأهمية يكمن في أن أقراننا هناك -أي في جنوب أفريقياـ كانوا ولايزالون يشكلون الأغلبية المطلقة في القوام البشري والاجتماعي، إذ تفوق نسبة السكان السود هناك 75% من إجمالي تعداد سكان الدولة مقابل أقل من 20% لمستعبديهم السابقين (ذوي البشرة البيضاء)، وذلك إذا ما احتسبنا تعداد بقية الطبقات الاجتماعية الأخرى (الأقليات) كالهنود والملونين... إلخ.
صحيح أن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي يضم -ومنذ تأسيسه في الثامن من كانون الثاني/ يناير عام 1912، على يد جون لانجاليبيل دوبي- خليطا مهما ومتنوعا من الأعراق والقوميات الأخرى، مثل البيض والهنود والملونين الذين ساندوا منذ البداية الكفاح التحرري للسود، إلا أن الغالبية العددية لأقراننا السود مكنتهم -ومنذ إلغاء حقبة الأبارتهايد (نظام الفصل العنصري) العام 1994ـ من الاستفادة المثلى من كثرتهم العددية بالشكل الذي أتاح لهم الاستحواذ فعليا على السلطة السياسية عبر صناديق الاقتراع، فقد بات الفوز الانتخابي هو الحليف الدائم لأقراننا الجنوب أفريقيين بدءاً بانتخاب القائد الثوري الملهم نيلسون مانديلا في انتخابات عام 1994، وحتى اليوم، إذ لايزال حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو الحزب السياسي المهيمن في عموم جنوب أفريقيا.
ولكن إذا ما قورن بوضعنا نحن "أخدام ومهمشي اليمن"، فإننا لا نكاد نشكل في الواقع ما نسبته 10% من القوام الاجتماعي العام، الأمر الذي يجعل منا أقلية اجتماعية وعرقية ضئيلة وفاقدة فعليا أبسط شروط وأدوات التأثير السياسي، إن جاز التعبير.
إن التحزب بالنسبة لفئة مسحوقة ومتخلفة كفئتنا يمكن أن يكون مثمرا في مجتمع يؤمن بالمبدأ اللوكسمبورغي المنسوب للرفيقة الشيوعية القائدة والشهيدة روزا لوكسمبورغ "في أن الحرية هي أيضاً حرية أولئك الذين يفكرون على نحو مختلف"، وليس في مجتمع بربري مأزوم كمجتمعنا اليمني الغارق في بربريته وتفكيره الماضيوي بصورة يرثى لها. ما يعني أن الدعوة لتأسيس حزب لـ"المهمشين" وسط مثل هذا المحيط الاجتماعي يعد بمثابة قطع رأس لفئتنا المنبوذة وسحق كلي لتطلعاتها المدينة والإنسانية، خصوصا وأن تجارب النضال الطويلة التي خضناها في سبيل اكتساب حقوقنا وحرياتنا ومكانتنا العادلة في الvمجتمع قد علمتنا شيئا مهما وأكيدا، وهو أن هذا المجتمع وبمختلف فئاته وطوائفه وتكويناته السياسية والحركية والمدنية والحزبية، لا فرق بين سلطة ومعارضة وبين يمين ويسار ووسط وملتحين وتقدميين وقوميين وحقوقيين، جميعهم غير قابلين البتة الاعتراف بشراكتنا الاجتماعية والوطنية أو حتى الإقرار بمعضلتنا التاريخية، بالنظر إلى أن مجمل الروايات الاجتماعية التاريخية التي لا تحصى ظلت ولاتزال تقدم "الأخدام" على أنهم عديمو الفاعلية ومهووسون بالرذيلة وغير مؤهلين للتطور الحضاري، وفي هذه الحالة علينا الانقياد ببساطة وبتبعية عمياء ومطلقة لرغبات الأسياد التاريخيين من طبقات القبائل الموبوءة، وعدم التفكير بصورة مستقلة عن مشاريعهم الاستحواذية.
وهذا ما برهنت عليه بجلاء مجمل النخب السياسية والمدنية والحزبية في جولات عدة، ليس آخرها اتفاقهم الجماعي المبطن إبان المرحلة الانتقالية 2012، على سبيل المثال، على تجريدنا بصورة وضيعة ومبتذلة من حق المشاركة المشروعة في مؤتمر الحوار الوطني رغم استيفائنا آنذاك كامل شروط واستحقاقات المشاركة، كوننا الفئة التي بادرت قبل الجميع بعقد مؤتمرها التشاوري وبعدد مندوبين تجاوز العدد المطلوب بمائتي اسم (أي بسبعمائة مندوب) في فندق موفنبيك بصنعاء، وبحضور قادة الأحزاب وممثلين عن حكومة باسندوة المخلوع وبعض البعثات الأجنبية.. فيما أتيحت المشاركة آنذاك لمختلف القوى والتيارات السياسية والمدنية والنقابية والاجتماعية بمن فيهم الصم والبكم والمرأة والشباب والجماعات الأسرية مثل أسرة عبدالله الأحمر التي حظيت ولوحدها كأسرة بأكثر من خمسة مقاعد، باستثناء نحن معشر "الأخدام"، إذ اعتمد المشارك الوحيد منا الأخ نعمان الحذيفي ضمن قائمة رئيس الجمهورية وليس كممثل رسمي للمهمشين، وبصورة لم يكن الهدف من ورائها فحسب إقدام النخب السياسية والسلطوية على تضليل العالم أجمع حيال التزاماتها المتصلة بالحقوق المدنية والإنسانية، وإنما أيضاً على تكريس مبدأ النفي والإعدام العلني والمبرمج لقضية "المهمشين" ولتطلعاتهم الإنسانية على يد نخب الرذيلة السياسية جمعاء.. إلخ…

إن أبلغ مقارنة لوضعنا (مهمشي اليمن) يمكن أن ينطبق بصورة أعمق على وضع كل من أقراننا في الهند (طبقة الداليت) أو من يطلق عليهم المنبوذون، وأيضاً على وضع زنوج الولايات المتحدة الأمريكية.
فالطبقتان تشكلان أقليات عرقية في مجتمعاتهم الاستبدادية، كما أن كلا الطبقتين لم تبادرا -وعلى امتداد تاريخهما الوجودي والكفاحي- بتأسيس حزب أو كيان سياسي خاص بهما ولأسباب عدة وجوهرية نلخصها على النحو التالي:
ـ منبوذو الهند يشكلون ربع قوام المجتمع الهندي، إذ يقترب عددهم من 260 مليون نسمة من إجمالي العدد الكلي لسكان الهند البالغ ملياراً و100 مليون نسمة، بالإضافة إلى كونهم (أي الداليت) الطبقة الأكثر عرضة للنبذ والاضطهاد وأعمال الاغتصاب والقتل والإقصاء القسري الذي أبقاهم على الدوام منفيين خارج حدود النظام الاجتماعي في بلد تمثل فيه الطبقية أساس نظامه الاجتماعي المحكوم بجملة من القوانين الدينية الهندوسية شديدة التطرف، والمعروفة بقانون "مانو" المصنف بكونه أول الملوك السبعة المؤلهين، والذي يؤدي دورا مهما ليس فحسب في حث الطبقات الأخرى على نبذ طبقة الداليت الدنيا واستعبادها، وإنما أيضاً في تحول ذلك التصنيف النبذي إلى نظام اجتماعي قائم على أبجدية القهر والكبت والإقصاء والاستعباد المشاعي لطائفة الداليت والإلغاء الكلي لشخصيتها الإنسانية.
ومع هذا ورغم كل ذلك، فإن المنبوذين لم يفكروا مطلقا بتأسيس حزب أو حركة سياسية خاصة بهم، ليس فحسب لكونهم أقلية طبقية وعرقية في محيط اجتماعي استبدادي يكرس ضدهم مبادئ النبذ والعزل الاجتماعي القسري، وإنما لكونهم قد نجحوا -وفي أولى سنوات استقلال بلادهم عن التاج البريطاني الذي تحقق في العام 1948ـ في انتزاع اعتراف وطني دستوري جمعي ضمنه دستور دولة الاستقلال في 1950، والذي أقر صراحة بوضعيتهم الاجتماعية الدونية تلك وبأحقيتهم الطبيعية في التعويض التاريخي والإنساني العادل، الأمر الذي مكنهم منذ البداية من اكتساب جملة واسعة من حقوقهم التي كفلها لهم دستور عام 1950، وبواقع حصص وطنية معينة خصصت للمنبوذين بنسبة 10× 100م في الثروة الوطنية والتعليم العام والعالي والصحة والوظيفة العامة والتمثيل السياسي والبرلماني بما فيها حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة للبلاد.
ـ وكذلك الحال أيضاً بالنسبة لأقراننا في الولايات المتحدة الأمريكية (الزنوج) الذين يعدون أقلية، إذ لا تزيد نسبتهم عن 12% فقط في القوام الاجتماعي والوطني العام، 37% منهم يعيشون في فقر مدقع. وهؤلاء بدورهم لم يبادروا وعلى امتداد تاريخهم الوجودي في القارة الأمريكية ككل -والذي بدأ العام 1619 وهو تاريخ قصير نسبيا إذا ما قورن بتاريخ العنصرية الموغل في القدم في بلادنا- في تأسيس حزب أو حركة سياسية لتأطير وقيادة تطلعاتهم التحررية رغم عراقة التجربة الديمقراطية السائدة في بلادهم، بقدر ما عمدوا إلى استنهاض روح التمرد الطبقي المقاوم بدءا بحركة القس الثائر "نات تيرنر" التي اشتعلت عام 1831 في ولاية فيرجينيا، والتي كان لها أثرها الهائل على العقلية السياسية الأمريكية في ما بعد رغم النهاية المأساوية السريعة التي حاقت بها والتي انتهت بمقتل قائدها وجميع أفراده تقريبا، وانتهاء بحركة الفهود السود التي نشأت في منتصف القرن العشرين كإطار مقاوم لمنظمة "الكوكلوكس كلان" العنصرية البيضاء، مع الإشارة هنا إلى أن زنوج الولايات المتحدة الأمريكية كانوا -ومن الناحيتين القانونية والنظرية على الأقل- قد حصلوا على حقوقهم الوطنية والإنسانية بصورة مبكرة من تاريخهم الوجودي، إذ إنه وبعد قرنين ونصف تقريبا من العبودية المشاعية المطلقة صدر مرسوم الرئيس إبراهام لنكولن في 1869، والقاضي بتحرير العبيد وإنهاء العبودية كظاهرة مخلة بمظاهر الحضارة الإنسانية.
ورغم التبعات الكارثية لمرسوم لنكولن آنذاك والذي أدى لإشعال الحرب الأهلية الأمريكية بين ولايات الشمال الداعية لتحرير العبيد وبين ولايات النطاق الزنجي في الجنوب، وقد أسهم انتصار الشمال على الجنوب بعد سبع سنوات طاحنة من الحرب في توسيع نطاق منظومة الحقوق والحريات السياسية والمدنية والإنسانية الممنوحة للزنوج، ومنحها طابعا دستوريا عبر إقرار المنتصرين آنذاك لما يعرف بالتعديلين الرابع عشر والخامس عشر ما بين عامي 1877 و1878، واللذين منحا الزنوج حقوق التصويت والمشاركة السياسية المتساوية مع البيض... إلخ.
ومع هذا وبعد مضي ما يقرب من قرن ونصف على إحداث تلك التغييرات الجبارة على صعيد العلاقات العنصرية فإن وقائع الحياة اليومية على الأرض في محيط المجتمع الأمريكي تشير بوضوح إلى أن ندوب العبودية تأبى أن تندمل حتى اللحظة رغم عراقة التجربة الديمقراطية التي يتمتع بها الأمريكيون على صعيد نظامهم السياسي الداخلي، والسبب الرئيسي يكمن في أن أقراننا (زنوج أمريكا) الذين وجدوا أنفسهم فجأة أحرارا بموجب مرسوم لنكولن وما تلاه من تعديلات دستورية ذكرناها آنفا، وجدوا أنفسهم إزاء هذا الوضع الجديد أسرى من ناحية أخرى لعوامل الفقر والفاقة والتخلف العلمي والمعرفي والافتقار الكلي لأبسط شروط وأدوات التطور الطبقي والاجتماعي، الأمر الذي دفع غالبيتهم المطلقة للعودة إلى القبول والتعايش مع أبجديات التحرر النظري من الاستعباد، لأن التحرر من الاستعباد ينبغي أن يكون مقرونا بجملة واسعة ومنصفة من التعويضات التاريخية الكافية لتمكين الفئات المستعبدة من النهوض وبناء حياتهم وتطورهم بصورة عادلة ومتكافئة على غرار التجربة التي حظي بها منبوذو الهند بصورة مثلى وخلاقة.
إذن، وإزاء هذه الحقائق، فنحن –المهمشين- لسنا بحاجة إلى تأسيس حزب، بقدر حاجتنا الماسة إلى إشعال روح التمرد الطبقي في أوساط شبابنا وتجمعاتنا البشرية، وجعله حالة مستمرة من المعارضة المستعرة، ليس فقط ضد النظام القبلي والعشائري ذي النزعة البرجوازية، وإنما أيضاً ضد المؤسسات السياسية والاجتماعية والأكاديمية، بل أيضا ضد الوضع البشري والاجتماعي برمته جراء ما نعانيه من نبذ وازدراء وامتهان تاريخي.

(*) الرئيس التنفيذي لحركة الدفاع عن الأحرار السود في اليمن ـ رئيس قطاع الحقوق والحريات في الاتحاد الوطني للفئات المهمشة في اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات