محمد القيرعي

محمد القيرعي / لا ميديا -
«جماعة أنصار الله في اليمن تصنع التاريخ». برز هذا العنوان في غلاف مجلة «نيوزويك» الأمريكية في نسختها المطبوعة بالعربية (عدد 19 آذار/ مارس الماضي 2024)، في سياق تقرير إخباري تحليلي نشرته حول استهداف حكومة صنعاء المتكرر وغير المسبوق لطرق الملاحة البحرية الدولية  في البحرين الأحمر والعربي، والذي تضمن رؤية هيئتها التحريرية في أن «الحوثيين» باتوا قادرين على صناعة التاريخ بأحدث الطرق المبتكرة
مؤكدة (المجلة) في هذا السياق أن جماعة أنصار الله، التي لا تمتلك في الواقع أسطولاً بحرياً، تمكنت فعلياً وعبر إمكاناتها الذاتية من السيطرة على أحد أهم ممرات الشحن البحري في العالم، ومن اكتساب القدرات اللوجستية الفعلية التي مكنتهم من توسيع حملاتهم العسكرية غير المسبوقة من البحرين الأحمر والعربي إلى عمق المحيط الهندي الشاسع، مدفوعة بحماسها القومي المتقد لإسناد ومؤازرة كفاح أشقائها الفلسطينيين حتى توقف «إسرائيل» جرائم حرب الإبادة الجماعية المرتكبة في قطاع غزة الفلسطيني.
ربما لا جدال هنا حول صحة ما ذكرته وتناولته مجلة «نيوزويك»، التي كانت محقة تماماً في تحليها الإخباري ذاك، بالنظر إلى نجاح «الحوثيين» الملفت -منذ بلوغهم سدة السلطة السياسية في بلادنا قبل عقد زمني مضى- في قلب معادلة الصراع القومي والوطني رأسا على عقب، عبر نجاحهم أولاً في إضعاف وتقويض دور ووجود دولة الإسلام السياسي الاستبدادية والماضيوية المتخلفة التي يهيمن عليها تحالف اليمين الديني والعشائري في اليمن (الخونج والقبيلة والعسكر)، وفي تفكيك الشبكة السياسية العميلة والانبطاحية التي تأسست بعد ثورة أيلول/ سبتمبر 1962 على حساب القرار والسيادة والكرامة الوطنية والقومية عموما، إلى نجاحهم ثانياً في التصدي لأبشع وأقسى عدوان عسكري دولي وإقليمي وداخلي حرق الأخضر واليابس مستهدفا الأرض والعرض والبشر والحياة والكرامة والسيادة الوطنية، إلى نجاحهم الملحمي وفي السياق ذاته أيضا في تخطي فاشية وبربرية العدوان وحصاره المطبق والخانق لكل أشكال الحياة الإنسانية في بلادنا، عبر تمكنهم من تحقيق نوع من التفوق العسكري، بنمطه الردعي والاقتصادي أيضا، بصورة مكنتهم من تأمين الشروط اللازمة لاستمرار الحياة في بلادنا المتعثرة، إذا ما قورنت بحجم المصاعب الاقتصادية والعسكرية والأمنية ومظاهر الانهيار المؤسسي التام الذي تعاني منه حكومة المرتزقة المتمتعة في الواقع بكل أشكال الدعم والإسناد والمؤازرة الدولية غير المحدودة أصلا، وصولا إلى هبتهم القومية خلال الأشهر العشرة الفائتة والمقلقة بكل معنى الكلمة للكيان الصهيوني ولأسياده في إمبراطورية اليانكي وفي الغرب عموما، بالإضافة إلى أعوانه في المنطقة العربية وفي الخليج الفارسي خصوصاً، حينما قلبوا مشهد الصراع الدامي في فلسطين رأسا على عقب، من خلال هجماتهم المسعورة والمؤثرة في حركة الملاحة وسفن الشحن البحري المتجهة للكيان الصهيوني، دعما وانتصارا لمظلومية شعبنا الفسلطيني، رغم ما أفرزته تلك الهبة من عدوان صهيو - أمريكي - بريطاني - دولي واسع النطاق استهدف تقويض وتدمير ما عجز عن فعله أسلافهم في تحالف الرذيلة، رغم إخفاقهم بالتأكيد في تحقيق أي نصر ملحوظ من شأنه الحد من قدرة حركة أنصار الله على شن المزيد والمزيد من الهجمات والتهديدات شبه اليومية الموجهة ضد مصالحهم الملاحية التي تخطت حدود البحرين الأحمر والعربي لتصل إلى نطاق المحيط الهندي.
لكن السؤال هنا يكمن في ما إذا كانت صناعة التاريخ الوطني «الحوثية» تنعكس أيضا أو تشمل في الوقت ذاته كل مناحي الحياة الوطنية الأخرى وباقي أهداف عمليتهم الثورية (إن وجدت فعلا)!
صحيح أن نجاحاتهم وإنجازاتهم سالفة الذكر لا يمكن دحضها أو إنكارها، إلا أن هذا الواقع لا ينفي وجود العديد من العثرات والإخفاقات - المتعمدة في بعض جوانبها، والتي شابت ولا تزال وبشكل مُخزٍ بعض أهم أسس وجوانب العملية الثورية لأيلول 2014، منها إلى جانب الفساد الذمي والأخلاقي المستشري (والمغضوض عنه الطرف على الأغلب) في العديد من مفاصل الدولة وفي هيئاتها ومؤسساتها القائمة، والذي يكاد يكون مضبوطا وموجها (أي غول الفساد القائم) لصالح بعض النخب والشلل الثورية المعينة في الأعلى والمهيمنة على مفاصل العملية الثورية ذاتها، بما فيه غول الفساد الأخلاقي أيضا الذي يكتنف عقليات العديد من جلاوزة السلطة الثورية ممن فضلوا تكريس النزعات الاستحواذية بمنطقها الفئوي الضيق على حساب المصلحة والشراكة الوطنية الجمعية والمفترضة كأساس فلسفي ومنهاجي لعقيدة أيلول الثورية.
إلى القائمة الطويلة من الإصلاحات الهلامية والورقية التي وعدتنا الثورة (نحن معشر المهمشين) بتحقيقها على أرض الواقع العملي، وخصوصا تلك المتصلة بوضع الأسس الإجرائية والتنفيذية لخلق وتحقيق نوع من الشراكة الوطنية والمجتمعية شبه العادلة والمتكافئة لفئاتنا المهمشة مع باقي الفئات والتكوينات الاجتماعية الأخرى، منها على سبيل المثال إلغاء القيود والعوائق التشريعية التي تحد أو تمنع -إن جاز التعبير- إمكانية إدماج العاملين والعاملات في قطاعي النظافة والصرف الصحي في قوام الخدمة المدنية، بالإضافة إلى خذلانهم لنا فيما يخص وعودهم بالعمل على إقرار مصفوفة من قوانين التمييز الإيجابي والمقترحة أساسا من قبلنا نحن المهمشين منذ البدايات الأولى للثورة، وبما يؤسس لتأمين الشروط والظروف المواتية لتوسيع قاعدة التعليم العام والجامعي والعالي وتحقيق نسب التوظيف المقرة لفئاتنا المنبوذة والمحتقرة وفق حصص وطنية معينة تكفلها قوانين التمييز الإيجابي المقترحة من قبلنا -كما أسلفت- كأساس منطقي لشراكتنا المتعثرة منذ اللحظات التأسيسية الأولى لثورة أيلول 2014 الظافرة في بعض جوانبها، والموءودة في جوانبها الأخرى.
وهي الإجراءات والوعود التي استبدلت بطبيعة الحال بمصفوفة من الزوامل والشعارات الثورية التي تخفي وراءها سطوة «النزوع الإلغائي العرقي» الذي يستهدفنا بصورة تاريخية من قبل مجمل الفئات والطوائف الاجتماعية اليمنية، بمن فيهم «الحوثيون»، بوصفهم جزءا من التركيبة النمطية الهرمية الاستعلائية ذاتها التي تحكم عقلية ومخيلة المجتمع اليمني المأزوم والغارق في بربريته حتى النخاع، عدا عن باقي قائمة الإخفاقات الطويلة والمتعددة والتي سنفرد لها مجالا أوسع في قادم الأيام؛ إلا إذا بادرت قيادة الثورة بالتنبه لها والعمل على معالجتها بما يلبي التطلعات الوطنية والثورية لمجمل فئات البلد المسحوقة والمغيبة.

أترك تعليقاً

التعليقات