صنفت كأبشع عملية تطهير سياسي يشهدها العصر الحديث
مكارثية أردوغانية تلتهم تركيا

على الرغم من أن العضو البارز في مجلس الشيوخ الأمريكي، جوزيف مكارثي، كان قد تمكن مطلع الخمسينيات من نحت اسمه تاريخياً من خلال نهج ابتدعه لشيطنة الفكر المعارض، والذي بات يعرف بالمكارثية نسبة للعضو ذاته.. إلا أن كل تلك الأرقام لم تعد ذات قيمة، كما هو الحال أيضاً مع مكارثي نفسه.. كشخصية سياسية سيئة الصيت، لا سيما ونحن ننتقل بالحديث إلى الأردوغانية ورائدها العجوز رجب طيب أردوغان، التي من الاعتساف تشبيهها بالمكارثية، بل من غير المنصف جداً.. فحصيلة هذه الأخيرة، حسب تقارير صحفية، بلغت حتى ساعة كتابة هذا التقرير، ما يقارب 30 ألف حالة تم تسريحها إلى الخواء اللاإخواني..
 كخطوة كانت تترقب فرصة مواتية، وليس هناك ما هو أجمل من صناعة الفرصة المتعثرة لدى التنظيم العالمي للإخوان، وكما هو معهود دائماً في السياق المتوحش للتنظيمات السرية، لا يمكن للإجماع والصمت أن يتوفرا معاً ما لم تسد حالة رعب عامة، وهو ما حدث في أمريكا عقب تفجيرات 11 سبتمبر، ويحدث الآن في تركيا عقب فشل الانقلاب المشكوك في هويته حتى اللحظة، ولكن ما يهمنا الآن هو قراءة النتائج التي تبدت بجلاء هناك، فالجيش التركي ذو العقيدة العلمانية؛ جيش أتاتورك المتين، لم يعد كذلك دون أدنى شك -من اللحظة كأقل تقدير- فقد كانت هذه المؤسسة الكبيرة أول أهداف الأردوغانية الغبية، بحيث كان لها النصيب الأكبر من عملية التطهير العرقي والفكري والعقائدي الأبشع تاريخياً، فأكثر من 2800 جنرال وما يزيد عن 8000 جندي وضابط باتوا في خبر كان يرزحون تحت وطأة غباء السلطان وجماعته، فكل ما سبق ليس أسوأ ما في الأمر، فحكم الإعدام الذي كان أردوغان قد عمل على إلغائه تملقاً للأوروبيين، عاد ليساوره مجدداً.. كمصير وحل فوري لظاهرة التضخم العددي في السجون التركية.
أما السلطة القضائية التركية التي كانت تعد سلطة مستقلة تماماً - في ما مضى ما قبل الأردوغانية- فإنها لم تسلم هي الأخرى، وتجرعت الأمر ذاته مع فروق في الغباء والسببية والغرابة بالطبع، فوفقاً لوزير عدل حكومة أردوغان تمت إزاحة ما يزيد عن 6000 شخص توزعوا بين قضاة ومستشارين وموظفين حكوميين.. بما يضمن أخونة القضاء التركي كلياً. 
وهو ما حدث أيضاً في القطاع التربوي، حيث أوقفت وزارة التعليم الأردوغانية عن العمل أكثر من 21 ألف موظف بمختلف المهام والمراكز.
كما طالب مجلس التعليم العالي بإقالة أكثر من 1500 من عمداء الكليات، بالإضافة إلى إقالة جميع رؤساء الجامعات الحكومية.
من جهتها، أوقفت وزارة شؤون الأسرة 393 موظفاً عن العمل للاشتباه بعلاقتهم بفتح الله غولن.
وفي سياق متصل، تمّ تسريح نحو 260 موظفاً تركياً من رئاسة الحكومة، ونحو 490 من إدارة الشؤون الدينية.
إلى ذلك، أقال جهاز الاستخبارات التركي، 100 من موظفيه، على خلفية التحقيقات الجارية بشأن محاولة الانقلاب الفاشلة. 
حدث ويحدث كل ذلك بشكل لا ينم مطلقاً عن أننا نتحدث عن دولة هشة تحكمها العصابات وقطاع الطرق، ناهيك عن دولة مؤسسات وتاريخ سياسي كتركيا..

حفاظاً على النظام الديمقراطي في البلاد، أردوغان يسحق التنوع الداخلي للدولة التركية 
بعيداً عن أن الانقلاب قد يكون محض مسرحية سخيفة، إلا أن المعارضة الوطنية في تركيا تناست كل الخلافات الشائكة مع نظام الإخوان، ورفضت الانقلاب - المهزلة - بكل خفاياه وتفاصيله المضحكة، كمبدأ لا يقبل المساومة، ووعي لا تجزئه المصالح.. في حين غفلت العقلية المهووسة بالسلطة للإخوان عن كل الطرق السوية لحصر المشكلة -إن وجدت- في نطاقها، للخروج بأقل الخسائر، وأصيبت بسعار مخيف غير مفهوم، وتعاملت مع الحدث بأثر رجعي لم يسبق له مثيل.. فالمتابع لردود الأفعال التي صدرت من إدارة أردوغان، يسهل عليه إدراك العقلية الانتهازية الفجة لهذا التنظيم المشبوه.. فهنا هرعت المعارضات في تركيا بمختلف هوياتها إلى إنقاذ الديمقراطية في البلاد.. وهناك لم يبقِ أردوغان أي متسع ديمقراطي يمكننا الإشارة إليه سواء في تقريرنا هذا أو في مستقبل السياسة التركية.. أردوغان وبذات عقلية جورج بوش الابن في التعامل مع أحداث هجمات 11 سبتمبر، مطلع الألفية الثالثة، هرع إلى شيطنة الآخر -مع فارق النفوذ- دون هوادة، ليسحق التنوع الداخلي للدولة التركية برمته، ولكن لا يمكن بأي شكل اعتباط الحدث واعتباره وليد اللحظة والمرحلة - تماماً كما هو الحال مع سياسة الحرب الإرهابية على الإرهاب الافتراضي، التي انتهجتها واشنطن في ذلك الحين - لم يبق أردوغان في السلطة القضائية فرداً واحداً لا يسبح بحمده، ولا جندياً أو ضابطاً في الجيش لا يدين بالولاء للتنظيم.. ناهيك عن حملة تطهير واسعة في المؤسسات التربوية والدينية، والتي يجهل العالم فعلياً شأن مثل تلك المؤسسات في الحركات الأمنية والعسكرية.. تسريح أكثر من 8000 جندي ممن يشك فقط بولائهم - ولائهم للإخوان بالطبع وليس للدولة التركية - إقالة ما يزيد عن 2800 قاض من مختلف المكونات - بما يضمن تمرير الدستور الجديد كما هو دون أن تنبس السلطة القضائية ببنت شفة - كل ذلك دون أية محاكمات أو إدانات قانونية.. يدعو الشعب لإنقاذ الديمقراطية في البلاد، ويسحقها فوراً قبل أن تصحو..
تناقضات الإخوان لاينبغي كما تعلمون أن تفاجئ أحداً، فالتنظيم صاحب خلفية تاريخية وباع كبير في هذا المجال.. المفاجئ فقط هو صمت النخبة التركية عما يحدث.. ولكن نعود أيضاً لمقارنة هذا الصمت بحالة الخنوع التي أصابت العالم بعد أحداث سبتمبر، وهو الخنوع الذي لا يتوفر بدون خلق حالة هلع.. فلم يكن لأردوغان أن يبطش بالدولة التركية ومؤسساتها دون حالة الهلع التي رافقت المسرحية التراجيدية الأخيرة.

الصحافة الغربية والتركية: تركيا تتجه فعلياً نحو مكارثية جديدة
البدء مع صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية التي نشرت مقالاً حول بداية دخول المكارثية (الرجعية) إلى تركيا، وقالت إنه لعدة أشهر كانت أنقرة في خضم حرب سياسية، وكانت آخر الأحداث التي دار حولها الجدل سلسلة من التسجيلات للمكالمات الهاتفية التي انتشرت على الإنترنت بين رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوجان) وعدة شخصيات سياسية من دائرته الداخلية، تؤكد ضلوع الحكومة التركية في الفساد والقمع.
وأضافت الصحيفة أنه ضمن هذه التسجيلات مكالمة بين (أردوجان) ومسؤول تنفيذي يدعى (فاتح ساراك) في قناة (هابرترك) الإخبارية الحكومية، لتوبيخه حول إذاعة انتقادات أحد زعماء المعارضة، واعتذار (ساراك) له، ومن ثم قطع إذاعتها.
كما توجد مكالمة أخرى تحمل استجواب (أردوجان) لـ(ساراك) حول القصة التي انتقدت الإصلاحات الصحية الحكومية، وبعدها مباشرة تم طرد المراسلين ورئيسهم، وغيرها من المكالمات التي تؤكد فساد (أردوجان).
وأشارت الصحيفة إلى اعتراف (أردوجان) بذلك في مؤتمر صحفي، دون أي ندم، قائلاً: (يجب أن تتعلم وسائل الإعلام الأدب)، مؤكدة أن (أردوغان) قد أنشأ حالة نموذجية من الديمقراطية (غير الليبرالية)، وهو نظام يأتي به الحاكم للسلطة عن طريق الانتخابات، لكنه لا يلتزم بسيادة القانون ولا يحترم الحريات المدنية، وهذا لا يشبه الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا الغربية التي تأمل تركيا في محاكاتها.
وأوضحت الصحيفة أن (أردوجان) كان يتبع استراتيجية أن خير وسيلة للهجوم الدفاع، فهو يصف انتشار التسجيلات بأنه مؤامرة انقلاب ضد حكومته، مختتمة بأن انتخابات 30 مارس المحلية تعطي الأمل لـ(أردوجان) للفوز بفترة أخرى، والبدء في عملية تطهير واسعة لخصومه السياسيين.
وفي ذات الصدد، قالت نقابة الصحافيين الأتراك إن 59 صحافيًا طُردوا أو أُرغموا على الاستقالة منذ بدء الاحتجاجات، غالبيتهم بسبب الرقابة وضغوط الحكومة وأصحاب وسائل الإعلام التي يعملون فيها. ومن بين المشمولين بالحملة يافوز بيدار الذي أُقيل من عمله في صحيفة (الصباح) التركية الموالية للحكومة.  
وقال بيدار في مؤتمر حول حرية الصحافة عُقد مؤخرًا برعاية الاتحاد الأوروبي، (إن التحزب لصالح الحكومة مدفوع بسعار تلوح فيه بوادر حملة ونشاط مخبرين مماثل للحقبة المكارثية). 
وطالت الإقالات صحافيين وإذاعيين في محطات تلفزيونية رسمية ووكالة الأنباء الرسمية، ولكن غالبيتها استهدفت صحافيين في وسائل إعلام خاصة تملكها منظمات موالية للحكومة أو شركات كبرى تعتمد على حكومة أنقرة في الحصول على مقاولات وعقود مربحة. 
ونفت الحكومة أنها تمارس ضغوطًا على وسائل الإعلام لإقالة الصحافيين الذين لا تروق لها آراؤهم ومواقفهم. وقال يلجين أكدوغان، كبير مستشاري أردوغان السياسيين، في صحيفة (ستار) الصادرة بالإنكليزية، إن حزب العدالة والتنمية الحاكم لم يتخذ أية خطوات لإيجاد إعلام متحزب له أو منع حرية الصحافة أو تطهير المعارضين له.
وأشار إلى أن عدد وسائل الإعلام التي تعارض الحكومة وتنشر انتقادات لاذعة، يزيد مرتين أو ثلاث مرات على عدد وسائل الإعلام التي تعتبر قريبة من الحكومة. 

على جثث الأبرياء وأكوام المباني المهدمة إخوان اليمن في تعز يحتفون بفشل الانقلاب التركي
في جانب آخر ليس ببعيد، وكما تجري العادة دائماً لدى الأحزاب والحركات والاتجاهات اللاوطنية، تناست قيادات وقواعد حزب الإصلاح اليمني -شكلاً- كل ما تعانيه البلاد من دمار وحروب يتحمل الجزء الأكبر من تبعاتها، وهرعت لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي - الأرضية التي يبرعون من خلالها في عملية الاستنساخ الوهمي الذي يلبي لديهم حاجة الوجود الذي يفتقدونه واقعاً- لترسيخ أركان المسرحية في الرأي العام، والتهليل بخليفتهم سيئ الصيت بمختلف الاستدلالات الاعتباطية التي تبين مدى استخفافهم بالعقلية الوطنية أولاً، والهوية الواحدة لأبناء الوطن ثانياً.. هكذا دون أي خجل يعلنون تبعيتهم وولاءهم الحقيقي أمام عيون الأيتام والثكالى والمباني المهدمة، متناسين كل ما يمر به الوطن من ويلات كارثية من جراء سلسلة من عمالاتهم اللامتناهية.. إلا أنه لم ينته الأمر عند ذلك، ليذهب أبعد من ذلك بكثير، ففي تعز.. المدينة التي حولها هذا التنظيم إلى مقبرة كبيرة يقتات على رفات أبنائها ودمائهم، نظم حزب الإصلاح وقفة نصرة وتأييد ودعم لصنم أردوغان وحملته الفاشية، بصفاقة تفوق حجم جراح المدينة وأطلالها.. دفع حزب الإصلاح بتلك المسيرة في الوقت الذي دفع فيه الجرحى والمغرر بهم من الشباب الذين جندهم للقتال فى حروبه المنسية، إلى ما وراء الذاكرة، تاركاً تقيحات جراحهم تلوك الحسرة والقهر إلى درجة دفعتهم لمناشدة اللجنة الثورية العليا علاجهم، وهو ما حدث بالفعل، فقد شكل رئيس اللجنة الثورية العليا محمد علي الحوثي، لجنة للتنسيق والتواصل مع الجرحى لعلاجهم في مستشفيات الجمهورية اليمنية؛ الوطن الذي يعجز القطيع عن ترجمة معانيه وفهم خصوصياته..
قد يجد البعض أن الحديث عن هذا التنظيم من زاوية الحسرة، هو مضيعة للوقت والجهد، ولا عزاء في ذلك بالطبع.. فالمعهود عن هذه الجماعة بمختلف أشكالها وأطرها الداخلية والخارجية، أنها جماعة لا تؤمن بالهوية الوطنية بأي شكل من الأشكال، وبأن مصالحها فوق كل اعتبار وفوق كل قدسية.. ولكننا بالفعل كما قال المفكر السوداني الشهير محمد محمود طه: في كل مرة كنا نعتقد أننا نسيء الظن بهؤلاء، اكتشفنا أننا كنا نحسن الظن بهم..
في الأخير.. لم يسقط أردوغان وحزبه، أجل.. ولكن الأقنعة والوجوه المزيفة لا تكف عن السقوط واحداً تلو الآخر، وبذلك فقط يمكننا ترقب سقوط من نوع مختلف، سقوط لا يرممه الزمن ولا الماكنات الإعلامية الضخمة التي جعلت من جثث الأبرياء ومنازلهم ومدنهم وقوداً لها.. هنا أو في تركيا أو في كل مكان حاول هذا الكيان الهجين الظهور فيه بشكل لا يشبه الحقيقة. وإلى ذلك الحين، سيظل الأحرار يقارعون دون هوادة كل من توسل له نفسه المساس بأمن واستقرار أوطانهم.