علي نعمان المقطري / لا ميديا -

سيطرت الكولينيالية الأنجلوساكسونية البريطانية الأولى التي تميز عنصر وعرق البيض الساكسون البروتستانت على الولايات الأمريكية البريطانية منذ 400 عام تقريبا وقبل أن تستقل في دولة اتحادية منفصلة بعد حرب الاستقلال الأمريكية في نهاية القرن الثامن عشر، حيث أصبح ذوو البشرة البيضاء من الأنجلوساكسون الإنجليز السابقين هم القوة المهيمنة عليها، وشكلت القوة المكونة من ملاك الأراضي والمزارعين الأغنياء وتجار العبيد طبقة السيادة والحكم والمال والقوة والسيطرة والثروة.

وظلت طبقة العبيد والخدم والفقراء والحرفيين والعمال من غير الساكسون والمهاجرين اللاتينيين والآسيويين وبقايا الهنود الحمر من السكان الأصليين مهمشة ومسترقة، طبقة دنيا لا حقوق لها ولا صلاحيات ولا ملكية مالية تؤهلها للمشاركة في الشؤون العامة التي حصرت في البيض الأغنياء الساكسون وحدهم.
وقد نصت نصوص الدستور الاتحادي الأول بعد الاستقلال على ألا حقوق سياسية إلا للملاك البيض الأغنياء، ولهم وحدهم الحق في المشاركة في الشؤون العامة والسياسية، وترسخت قواعد للتمييز العرقي والطبقي تغلب سيطرة وهيمنة العرق الساكسوني الأبيض وملاك الثروة والمال الذين كانت محصورة فيهم من الأساس، وقد تم إلغاء العبودية رسميا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي في عهد الرئيس إبراهام لنكولن عندما احتاجت المصانع الأمريكية الصاعدة إلى العمال الصناعيين الأحرار وأصبحت العبودية غير المجدية اقتصاديا ومكلفة إنسانيا وأخلاقيا بعد أن تم قتل أكثر من مليون أسود وملون لإخماد تحركاتهم الاجتماعية طوال القرون لإنهاء العبودية ونيل الحرية في ظل تنامي الوعي الإنساني الجديد الذي أطلقته الحركات الإنسانية التحررية المعادية للاستعباد والإقطاع والرأسمالية الاستعمارية، وخاصة خلال الثورات الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والروسية والألمانية والأوروبية التي اجتاحت أوروبا والعالم خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.
إن المؤسسين لأمريكا خلال القرون الأربعة الماضية كانوا أصلاً مستعمرين بريطانيين ساكسونيين أرسلوا إليها من بريطانيا لاستغلالها والسيطرة لصالح الإمبراطورية البريطانية العظمى وأغلبهم من الإنجليز البيض الساكسون الذين يتبعون الدين المسيحي البروتستانتي الإنجليكاني وهم امتداد للذين غزوا أمريكا وقارتها الشمالية خلال الفتح الاستعماري للقارة الحمراء الجديدة وأبادوا عشرات الملايين من سكانها الأصليين، وأقاموا على أنقاضهم مستعمراتهم الإقطاعية، فالرأسمالية منذ القرن الخامس عشر وعصر النهضة الأوروبية وحملاتها الاستعمارية نحو الغرب الجديد، التي بدأت مع كروستوفر كولمبس ومن جاء على إثره، مثل الجزار الدموي الشهير كورتيس الذي اشتهر بمذابحه على طول القارة الأمريكية.
وهنا يتضح أن جذور الاضطهاد القومي والعنصري والطبقي كامن في الأساس الاستعماري الإقطاعي الإمبريالي البريطاني الأصل المتوحش الطابع الذي تميز به المستعمرون الإنجليز للقارة الحمراء الجديدة وللقارة السوداء (أفريقيا) في وقت واحد واستغلال السكان الأصليين في بريطانيا والمستعمرات من الاسكتلنديين والإيرلنديين والهنود والفقراء الذين حصرت أنشطتهم في وظائف الخدم وصغار المهن التي يستعلي عنها البيض الساكسون الأغنياء وتترك للملونيين.
 
العنصرية والعبودية الاستعمارية متلازمة
إن أصول العنصرية والعبودية الرأسمالية الاستعمارية الأمريكية مترابطتان وملتحمتان، إحداهما سبب وجود الأخرى وتشكيل وجودها وتطورها وصيرورتها، فالعبودية أدت بالرأسمالية الزراعية الأمريكية إلى التحول إلى طبقة صناعية بما جمعته من ثروات فائضة وتراكم مالي هائل من الزراعة العبودية المجانية للرأسمال الأمريكي الساكسوني الأبيض الذي تحول إلى الاستثمار الصناعي الزراعي اعتمادا على إنجازات الثورة الصناعية الإنجليزية وما حققته من مخترعات، خاصة في مجال آلات العمل والإنتاج نتيجة لحوافز التصدير إلى الخارج والقدرة على المنافسة ومزاحمة بقية البلدان.

الثورة الشعبية
ما يجري في الولايات المتحدة مؤخرا من أحداث وهبات شعبية جماهيرية عمت أغلب المدن والولايات الأمريكية بعد مقتل المواطن الأسود جورج فلويد وهو أحد العمال الذين فقدوا أعمالهم بسبب البطالة وبسبب جائحة كورونا التي أصابته كغيره من أبناء جلدته المعرضين للأمراض بنسبة أكثر من غيرهم بسبب الظروف المعيشية القاسية لذوي البشرة السمراء والملونة من سكان الولايات المتحدة من الأصول الأفريقية واللاتينية والآسيوية وغير الساكسون من البيض الفقراء.
وهناك بعض الحقائق الكبرى التي يجب استحضارها لتكون الأمور واضحة أمامنا، وأهمها: علاقة العبودية السوداء والملونة بالرأسمالية الكولينيالية الساكسونية للجنس القومي الأبيض المتحدر من بريطانيا بدرجة أساسية، لأنها (أي أمريكا) كانت في الأصل مستعمرة بريطانية قبل أن تنال الولايات المتحدة استقلالها عنها بعد صراع داخل العرق الساكسوني نفسه أو بين أطرافه القومية الساكسونية الواحدة والهوية الثقافية الواحدة التي فصلتها البحار القائمة بين القارتين وطبيعة النظامين السياسيين والتركيبتين الاجتماعيتين اللتين تكونتا بعيدا عن جغرافيتهما السابقة.
فقد كانت الولايات المتحدة في أصلها مستعمرة بيضاء ساكسونية بريطانية يشملها التاج البريطاني قبل الثورة الصناعية الرأسمالية الإنجليزية التي تحولت إلى استعمار كولينيالي عنصري وجه ضد القارات السوداء والملونة الفقيرة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية المجاورة.
وهكذا عند التحول إلى استعمار إنجليزي رأسمالي تمخضت جحافل القوات البريطانية المستعمرة وشركاتها التجارية لتقتنص السود من أراضيهم في أعماق أفريقيا وغاباتها وتأتي بهم إلى خلف المحيط الأطلسي عبيدا مقيدين بالأغلال طوال حياتهم ليعملوا في أراضي الرأسماليين البريطانيين البيض من المهاجرين البروتستانت، وكانت القوات الأجنبية قد قتلت عشرات الملايين من السود خلال حملات اصطيادهم والسيطرة عليهم، وقد اعترف أحد المورخين الأوروبيين أن الأوروبيين قتلوا في الكونغو وحدها أكثر من عشر ملايين أسود، مما يعني أن الأرقام قد تتجاوز 100 مليون أسود تم قتلهم خلال مقاومتهم العبودية.
وطوال 400 عام من القهر والعبودية للأفارقة الزنوج أصبحت الرأسمالية البريطانية الصاعدة أقوى الرأسماليات في القارة الأوروبية وأكثرها غنى وثراء، وأكبر إمبراطورية في العالم لا تغيب عنها الشمس.
كان ملايين العبيد مقيدين إلى الأرض طوال حياتهم يعملون تحت التعذيب بالكرابيج والرصاص والكي بالنار وشتى أشكال العنف، وحدث هذا واستمر حتى بعد الاستقلال بنحو 100 عام تقريبا، ولم يتوقف إلا في الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر في عهد الرئيس إبراهام لنكولن بعد حرب أهلية تواصلت لعقود بين الشمال والجنوب وهددت بانفصال الجنوب عن الشمال، ودفعت لنكولن إلى خوض حرب مدمرة لقمع هذا الانفصال، حينها قرر الكونجرس الأمريكي والرئيس الأمريكي أخيراً إلغاءها بعد أن أصبحت غير مفيدة اقتصاديا، لأن الثورة الصناعية خلقت أدوات حديثة للقيام بأعمال العبيد البدائية تتطلب مستوى من الحرية الإنسانية والتأهيل العلمي الصناعي على الأعمال الجديدة، وبالتالي أصبح هناك حاجة لتحرير العبيد وتحويلهم إلى طبقة عمال في المصانع الشمالية الحديثة بهدف تجديد العبودية بطريق أحدث وغير مباشرة مستدامة.
كان الرئيس إبراهام لنكولن المعروف بمحرر العبيد يمثل مصالح أمريكا الرأسمالية الصناعية الشمالية، بينما مثل الجنوبيون بزعمائه، أمثال الجنرال "لي" مصالح طبقة الملاك الزراعيين التقليديين العبوديين المعتمدين على استغلال العبيد الأفارقة.
لم تكن تلك الحرب في جوهرها وحقيقتها من أجل تحرير الزنوج من العبودية، وإنما كانت من أجل تغيير أسلوب الاستعباد من الشكل السخري القديم الفج البشع إلى الشكل الرأسمالي الحديث (البروليتاري) عبر تشغيلهم في المصانع الجديدة مقابل أجور زهيدة دون الحاجة لاستخدام الكرابيج والنار والرصاص.

كانت أمريكا تستعد للتحول إلى استعمار إمبراطوري رأسمالي صناعي حديث، ترث وتنافس الإمبراطورية البريطانية التي بدأت تشيخ وتتحول إلى رجل مريض. ولتستولي على الكثير من المستعمرات كانت بحاجة إلى تجنيد الطاقات البدنية والنفسية للسود في الجيش الاستعماري الجديد الذي يجري إعداده لإطلاقه نحو الخارج بهدف تحويل العالم إلى أسواق سلعية للبضائع الأمريكية المنافسة التي بدأت تفيض عن حاجة الأسواق الداخلية بعد الثورة الصناعية والعلمية الجديدة التي ضاعفت قدرات الإنتاج الصناعي الغربي.
وعبر ذلك التحول الصناعي الاستعماري أصبحت أمريكا أكبر قوة اقتصادية صناعية وزراعية في العالم، وشرعت تبني إمبراطوريتها الخاصة. وقد بدأت بالهيمنة على بلدان أمريكا اللاتينية الواقعة جنوب القارة الأمريكية، والتهام أراضي المكسيك بالقوة المسلحة الضخمة والحديثة التي كونتها، ومنها ولايات كاليفورنيا ونيفادا ونيومكسيكو، أي حوالى نصف أراضي المكسيك التي كانت غنية بالمعادن والنفط والذهب والمياه والزراعة، كما واصلت التهام أراضي بقايا السكان الأصليين (الهنود الحمر) الذين أبيد أغلبهم ولم يتبقَّ سوى جماعات صغيرة استسلمت للواقع الجديد حفاظا على ما تبقى من عرقها، ثم انتقلت إلى استعمار البلاد اللاتينية بلدا بلدا من المكسيك إلى كوبا وبوليفيا وبنما وكولومبيا والسلفادور والبرازيل وفنزويلا، إما بصورة مباشرة وإما عبر دعم عملائها من الجنرالات الذين ربتهم في معاهدها وكلياتها من أبناء تلك البلدان نفسها، وهو ما عرف بجمهوريات الموز، حيث ظلت تسيطر عليها عبر شركات الموز الأمريكية الضخمة النفوذ.

قضايا الحركة الشعبية وإشكالياتها
تركز الحركة الشعبية الأمريكية الحالية على رفض العنصرية الشرطوية والإدارية الاجتماعية، وتطالب بالإصلاحات داخل النظام القائم، أي إجراء تغييرات تشريعية قانونية برلمانية وانتخابية، وما زالت تحت سيطرة القوى التقدمية الديمقراطية الليبرالية السياسية الممثلة بالأحزاب المرتبطة بالحزب الديمقراطي وجناحه اليساري، ولكنها مازالت قاصرة عن التحول إلى حركة سياسية اجتماعية شاملة تمس وتهدد النظام العنصري السياسي الاجتماعي، وهو ما زال أفقا لم تتطور إليه بعد، وهو ما جعل الديمقراطيين السياسيين والحزب الديمقراطي والقوى التي يمثلها باعتبارهم يأتون من المؤسسة الحاكمة نفسها، ومن ثم فإن المشروع الديمقراطي البديل الآن لدى الديمقراطيين هو الإصلاحات عبر الانتخابات القائمة وعبر النظام القائم نفسه، وهذه نقطة الضعف الرئيسية في الحركة الشعبية الجديدة.
إن الحركة الشعبية الراهنة تمثل قوى اجتماعية واسعة وكبيرة موضوعيا، ولكنها لا ترتقي إلى مستوى القوى الاجتماعية التي تمثلها، وهو ما يعكس تخلف الوعي السياسي بين نخب وعوام الحركة الموضوعية، وهي النخبة الطليعية السياسية التي تقودها الآن، مما يحكم على مستقبل الحركة الشعبية العفوية بالفشل المؤقت، وفي حال فوز المرشح الديمقراطي سيعمل على سحب البساط من تحت الحراكات الشعبية غير الناضجة وغير المستقلة بعد، ولكن فوز ترامب سوف يكشف مدى الضعف الذي تعانيه أحزاب السلطة بوجهيها اليميني الوسطي، واليميني المتطرف العنصري بقيادة ترامب، وسوف تستمر الاحتجاجات وتتفجر أزمات جديدة مع انهيار المنظومة الاقتصادية وتراجع الاقتصاد واتساع حلقات الانكماشات المالية التجارية الاستهلاكية والترويجية.
 
البروفات الكبرى للثورات الشعبية
يمكن اعتبار هذه الهبة الشعبية مصابة بالانسداد السياسي من حيث آمالها المحدودة المتواضعة، نتيجة عدم نضج الانتفاضة الشعبية ذاتيا من حيث مستوى وعيها وانعدام القيادة الناضجة التي تمثل الحركة وبنيتها الاجتماعية، أي حركة السود والملونين والفئات المستضعفة الفقيرة الأخرى، ذلك أن الحركة الشعبية الراهنة كما أوضحنا وقعت تحت سيطرة الفئات الرأسمالية الليبرالية التي يمثلها الحزب الديمقراطي والمنظمات التابعة لها، والتي لا تخرج في إصلاحاتها عن حدود النزعة التقدمية العامة مع الحفاظ على أسس النظام الأمريكي القائم على العنصرية الرأسمالية الاحتكارية والاستعمار والحرب والتوسع والفاشية، والتناقض القائم يكمن بين الرغبة في تحقيق العدالة وبين الحفاظ على النظام القائم العنصري بطبيعته.
وتغلب على قيادة الحركة الديمقراطية الرغبة في استغلال الهبة الشعبية للحصول على الأغلبية الرئاسية الانتخابية وإجراء إصلاحات فنية تقنية في ممارسات رجال الشرطة وطريقة عملهم، دون أن تمس العنصرية في جوهرها. وينصب الخلاف بين الطرفين على المسائل الفنية، لكنه لا يمس الشروط الاجتماعية للحياة بالغة القسوة للسود وجميع الملونين والفئات المهمشة الأخرى من الفقراء، من حيث الحق في العمل والحق في السكن والحق في العلاج والحق في الفرص المتكافئة في التعليم والتكوين والبناء.
وتبرز أهمية هذه المطالب إذا عرفنا أن تكاليف علاج كورونا وحدها تبلغ أكثر من 35 ألف دولار للفرد الواحد، ولذلك فالأغلبية الشعبية التي تعاني الفقر والبطالة محكوم عليها بالفناء سلفا، لأن الحكم العنصري الرأسمالي يهمه حياة الأغنياء وليس حياة الفقراء، وهذا معناه أن هناك أكثر من 100 مليون مواطن أمريكي معرضون للفناء أمام مخاطر جائحة كورونا وأمام الجوع وأمام مخاطر المخدرات وأمام حالة التشرد والبؤس، وإلى الآن وصلت أعداد العاطلين عن العمل إلى 50 مليون عامل ـ بحسب الأرقام الرسمية الأمريكية ـ أغلبهم سود وملونون، وتشكل الطبقة الفقيرة نسبة كبيرة هي أغلبية السكان، لكن ينقصها الوحدة والوعي بأهمية وحدتها.
 
هبة السود أم الشعب الفقير كله؟
إن هبة الشعب الأسود والفقراء في أمريكا ستظل تتحرك وفقا لزخم الحملات الانتخابية الرئاسية حتى نوفمبر القادم، وحينها بعد أن تضع الحملات الانتخابية أوزارها وتتكشف نتائجها فإن الحركة الشعبية ستكون أمام تحديات وخيارات جديدة، من أهمها الانشقاق عن القيادات الليبرالية الرأسمالية السابقة التي قادت الحركة إلى مآلات مسدودة، وبلورة قيادة جديدة من بين صفوفها، وتنظيم نفسها في حركة شعبية سياسية اجتماعية تطمح لتغيير المجتمع الأمريكي تغييرا شاملا، فالتحرير الأسود لا يمكن تحقيقه في ظل استعباد البيض الأغنياء للفقراء، لأن السود لا يشكلون أغلبية قومية بل هم وحدهم أقلية، ولذلك فإن الملونين واللاتينيين والآسيويين إلى جانبهم، إضافة إلى الفقراء البيض ومظلوميهم من الفقراء والكادحين والمقهورين والأحرار، كل هؤلاء يشكلون أغلبية شعبية يمكن لها إحداث تغيير شامل وتحرير جميع المظلوميات لا مظلومية واحدة.

التحالف السياسي للأغلبية الشعبية
لا يمكن التغلب على العدو الرئيسي في معارك الصناديق أو في الميادين، دون تحالف سياسي واعٍ بين شرائح المجتمع الأمريكي المقهورة، وهذا يعني تقديم تنازلات متبادلة بين المكونات المتعاونة المتحالفة والقبول بقيادة مشتركة وبرنامج سياسي مشترك تحققه الحكومة المشتركة القادمة عبر الفوز الانتخابي أو الظفر الانتفاضي في الشوارع، ففي نهاية كل انتفاضة شعبية ظافرة لا بد من السيطرة على السلطة السياسية، سواء في إطار الدستور القائم أم ضده عبر الانتخابات البرلمانية أم عبر تحطيم المؤسسات القديمة للسلطة السابقة.
مشكلة المجتمع الأمريكي أنه قائم على تعدد عرقي وقومي يمنع الوحدة الشعبية، نتيجة التمييز العرقي والقومي والطبقي، وليس هناك أفق لتحرير السود وحدهم، وحقيقة هناك إمكانية إحداث إصلاحات محدودة وحسب.
 
القوة الثورية الاجتماعية الطليعية
في كل الثورات هناك قوة اجتماعية ثورية منظمة تشكل الأغلبية الشعبية تطمح للتحرر والانعتاق يكون وجودها شرطا لنجاح التحركات الثورية الشعبية. أما في المجتمع الأمريكي الراهن فالأمور مختلفة، فقد هندسته الحركة العنصرية الرأسمالية بحيث يظل مفتتا ومقسما ومتواجها ومتعاديا على أساس العرق واللون والقومية والأصول والهوية العقيدية والتاريخية.

قامت الحركة العنصرية الرأسمالية بهندسة المجتمع الأمريكي بحيث يظل مفتتا ومتواجها على أساس العرق والهوية العقيدية والتاريخية. كما أن الاستعمار الأمريكي، أي الطبقة الرأسمالية الاحتكارية المهيمنة، قد أفسدت القسم الأعظم من الطبقة العاملة البيضاء وعزلتها عن العمال السود والملونين، بل إنها تثير بينها النزاعات المستمرة بسبب الزحام حول الحصول على فرص العمل بين الجماعتين العرقيتين، مما يجعل الطبقة العاملة غير موحدة وليس لها أهداف مشتركة على المدى القريب، لأن ظروف كل منهما مختلفة وشروط حياتهما مختلفة ومستوى الدخل المالي مختلف، فالشرائح المالية الأمريكية البيضاء أقرب إلى الطبقة الوسطى من حيث مستوى معيشتها، بينما السود والملونون يمثلون الطبقة الأفقر في المجتمع. من هنا يصعب حتى الآن تجميع وتوحيد الشريحتين العرقيتين حول قضايا واحدة مشتركة ما دامت البطالة لم تصل بعد إلى الشرائح البيضاء الميسورة نسبيا، وهذا مرتبط بإمكانية التغلب على كورونا والعودة عالميا إلى الظروف الاقتصادية الطبيعية السابقة، خاصة تحسن الاقتصادات الأجنبية المرتبطة بالاقتصاد الأمريكي لجهة عودة الطلبات إلى السلع الأمريكية.

التغيير الأمريكي
لا يمكن تحقيق التغيير الأمريكي إلا عبر انتفاضة شعبية شاملة مستغلة قوة الشعب الانتخابية أو قوة الشارع. وهذه النقطة لم تبلغها الانتفاضة الراهنة حتى الآن بعد، لكن إذا سارت الأحوال المعيشية إلى المزيد من السوء فإن الانتفاضة الشعبية يمكن أن تصل إليها خلال الأشهر القادمة، خاصة إذا لم يتم التغلب على الجائحة الراهنة ولم يتم إسقاط ترامب في الجولة القادمة من الانتخابات.
فإذا لم تصل الانتفاضة الشعبية الحالية إلى نهاياتها المنطقية الطبيعية في إنهاء العنصرية وإزالة نظام الاستغلال والعنصرية الإمبريالية الرأسمالية والظلم الاجتماعي والتمييز الطبقي فإن انفجار الثورة مجددا سيكون حتميا، ولكن المهم هو أن تتطور النخبة السياسية التي تقود الاحتجاجات، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه الحركة الشعبية الأمريكية الراهنة.

المهام والأهداف والضرورات والمطالب
هناك تباين واضح بين ما تطلبه الحركة وما تعتقد أنه الطريق الممكن أن يؤدي إلى تحقق الأهداف، لأن الأهداف المطروحة للحركة في أبسطها لا تتفق مع الطريق الإصلاحي الانتخابي القائم الذي تسلكه القيادات الليبرالية التي تسيطر على الحركة وتوجهها وتسحب الحركة الشعبية نحو الطريق الذي لا يؤدي إلى التغيير الحقيقي المنشود.
فالبرلمان الأمريكي مبني على أساس ضمان السيطرة العنصرية البيضاء وهيمنة الطبقة الغنية الرأسمالية العليا بما تملكه من أموال ومقدرات وأجهزة وجيش وشرطة ومخابرات وبنوك وأجهزة إعلام وشركات، حيث تستطع التحكم بقسم كبير من الفقراء والسود عبر التحكم بلقمة عيشهم ومصادر حياتهم وأعمالهم، وخاصة إذا تمكنت من العودة إلى الأعمال وفتح المؤسسات بعد كورونا. وأهم هذه المطالب هي:
1 ـ إزالة العنصرية: وذلك بإزالة جميع القيود أمام السكان مهما كان لونهم وعقائدهم وأصولهم، وإتاحة الفرص بالتساوي أمام الجميع والحق في الأجور المتساوية للأعمال نفسها.
2 ـ القضاء على البطالة: وهذا لا يمكن تحقيقه بدون تغيير نظام العمل المأجور الرأسمالي الراهن، وتأميم المؤسسات الضخمة العملاقة وتحويلها من ملكية الأفراد إلى ملكية المجتمع والدولة، وتطبيق برامج إنتاجية مخططة توفر المزيد من الفرص، فالبطالة قانون ثابت في المجتمع المنظم على أساس العلاقات الرأسمالية الفردية الاحتكارية، لأن الأمر متعلق بنوع وطبيعة الملكية الاقتصادية وحجم التوظيف العام في المجتمع والقوى العاملة وحجم الهجرة الأجنبية العاملة الرخيصة السعر.
فالرأسمالية الغربية والأمريكية تمارس سياسة الهجرة العاملة الرخيصة الثمن لتحقق أهدافها الأنانية في المزيد من الربح، ولكن ثمن ذلك هو الحكم بالبطالة على قسم كبير من العمال المحليين وخاصة السود والمواطنين الملونين، فالتغلب عليها يقتضي إزالة الرأسمالية الاحتكارية أو إصلاح النظام الرأسمالي على أساس التحول إلى الرأسمالية الإنتاجية الوطنية الاجتماعية العامة، أي رأسمالية الدولة الوطنية والقطاع العام، وهذا بدوره يقتضي تغيير النظام الاجتماعي القائم لصالح الفئات المعنية، وهذا يتطلب قيادة سياسية مسيطرة على المؤسسات الأمريكية، تتسم بانتمائها إلى الشعب والأمة، وتتمكن من زحزحة الفئات الاحتكارية السابقة المسيطرة الآن.
3 ـ تحقيق العدالة: وهذا لا يمكن بدون إحداث تغيير في بنية المؤسسات القضائية وفلسفتها ورؤيتها وعقيدتها لمفاهيم الحق والعدالة والمساواة، ومثلها بقية الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والصحية والقضائية والمالية والثقافية كلها مرتبطة بتغيير طبيعة المؤسسات القائمة والمسيطرة، فالمساواة في الأجور والضمان الصحي والاجتماعي ومكافحة الفقر والبؤس والتشرد مثل التمييز العنصري والطبقي كلها مرتبطة بتغييرات في النظام الاجتماعي القائم، ولا يمكن معالجتها منفردة معزولة عن بقية مكونات النظام القائم الذي ينتجها.
وكمرحلة تدريجية يجب المطالبة بتحويل الرأسمالية الإمبريالية الاحتكارية الإمبراطورية التوسعية الاستعمارية إلى رأسمالية إنتاجية وإنسانية ووطنية، والتحرر من الأيديولوجية العرقية الشوفينية المتعصبة التي تمثل أيديولوجيا ملاك العبيد والمستعمرين البيض ومصالحهم وأبنائهم وأحفادهم وثقافتهم.
4 ـ التأميم الاقتصادي لكبار المرتكزات الاقتصادية وإعادة إدارتها لصالح الشعب العامل، وخلق وظائف وأعمال لكل القوى العاملة دون بطالة، مع وقف الهجرة من الخارج، لأنها ترسخ استمرار البطالة الداخلية.
كل هذه المطالب لا يمكن تحقيقيها إلا بإزالة النظام الاقتصادي والاجتماعي والأيديولوجي والحقوقي والفكري والسياسي القائم.
وإذا أخذنا بعض القضايا، مثل العنصرية، فهل يمكن إزالة العنصرية في إطار النظام القائم؟ أم أن ذلك غير ممكن إلا بإزالة النظام العنصري نفسه؟ وهل يتم ذلك عبر اللعبة الانتخابية نفسها، بحيث يمكن عكس مطالب الشعب وتصعيد ممثليهم إلى البرلمان الأمريكي؟
إن تاريخ النظام الأمريكي العنصري يؤكد لنا أن النظام القائم، بحكم آلياته وأساليبه وقواعده وقيوده، لا سمح بأن يمثل الشعب الكادح الفقير من السود والمهاجرين واللاتينيين والآسيويين، فهناك 100 مليون مواطن أمريكي لا يشاركون أصلاً في الانتخابات، ليأسهم من نتائجها وعدم إيمانهم بأنها تفيدهم أو تغير وضعهم ونظام معيشتهم، كما أن هناك 50 مليون عاطل عن العمل الآن وتزداد هذه النسبة مع استمرار الأزمة الاقتصادية القائمة، وهناك عشرات الملايين في السجون أغلبهم من السود والملونين والفقراء والعاطلين، فهل يتم التعبير عن هؤلاء الملايين؟
وطالما ظلت سيطرة المصارف والاحتكارات على المؤسسات وعلى الدولة الأمريكية، فلا يمكن للشعب أن يحصل على أبسط مطالبه، لأن تلك المطالب تعتبر ضرورية لبقاء الرأسمالية ومنظومتها، وهي سياسة ثابتة منذ قيام النظام الأمريكي الاستعبادي الرأسمالي الفاشي.
والنتيجة هي أن الديمقراطيين التقليديين عاجزون عن حمل قضية إزالة العنصرية وتحرير الشعب الأمريكي حقيقة، لأنهم جزء أصيل من الطبقة الاحتكارية المسيطرة والمهيمنة على المجتمع ولهم مصالح في بقاء النظام القائم، وقد سبق للشعب الأمريكي أن جرب حكوماتهم ووعودهم طوال عقود فلم يتحقق منها شيء.
إن الحزب الديمقراطي يبيع الأوهام للشعب بالخطب الرنانة من قبل زعمائه وكُتابه عن حقوق الإنسان وعن الحلم الأمريكي وعن المساواة، وبعد كل انتخابات يقول مرشح الحزب لجماهيره إنه لم يتمكن من فرض إرادته، لأن البرلمان لم يكن بأغلبيته ديمقراطيا أو أن الرئيس استخدم الفيتو على القوانين والتشريعات المطلوبة، وهكذا يجري التلاعب بعقول الشعب الأمريكي لقرون وقرون ضمن لعبة الحزبين الكبيرين.